كثير من عقود الخدمات في العديد من الدول العربية، هي "عقود إذعان" تلك العقود من المتعارف عنها أنها لا تراعي حقوق المستهلك، فهي بمثابة علاقة غير متكافئة بين طرف قوي - مقدم الخدمة - يفرض شروطه، وآخر ضعيف – المستهلك - الذي عليه أن يقبل هذه العقود كما هي دون أن يحق له تغييرها أو التفاوض بشأنها، وذلك نظراَ لاحتياجه لهذه المتطلبات الحياتية التي لا غنى عنها.
خطورة عقود الإذعان فى البنود التعسفية
ومسألة وجود بنود تعسفية في هذه العقود يمثل مشكلة كبيرة لدى الكثيرين، كونها تمس حاجات حياتية، فكل منا يرتبط بواحد أو أكثر من هذه العقود التي تتعلق باحتياجاتنا اليومية من الخدمات، منها عقود مزوّدي خدمات الاتصالات، وعقود البنوك والبطاقات الائتمانية، وعقود تأجير وبيع العقارات، ووثائق شركات التأمين، الأمر الذى يؤدى إلى مطالبات مستمرة فى الدول العربية بوجود جهات رقابية وممثلين عن المستهلك عند كتابة هذه العقود، باعتبارها خطوة استباقية، خصوصاً في ما يتعلق بالعقود التي تمس الخدمات الحياتية.
فى التقرير التالى، يلقى "اليوم السابع" الضوء على إشكالية فى غاية الأهمية تخص ملايين المواطنين المتعاملين بـ "عقود الإذعان"، ما يضطرهم إلى الموافقة على بنود وشروط العقد من قبل مقدم الخدمة، حيث الحديث عن ماهية عقود الإذعان وكيفية تصدى المشرع المصري في حماية المستهلك من الشروط التعسفية في عقود الإذعان، باعتبار أن مثل هذه العقود وما تحتويه من بنود، عادة لا تكون في مصلحتهم، وهم مجبرون على قبولها بوصفها متعلقة بخدمات لا يمكنهم الاستغناء عنها، مطالبين بوجود ممثلين لهم عند كتابة هذه العقود للدفاع عن حقوقهم – بحسب الخبير القانونى والمحامى بالنقض الدكتور أحمد اليوسفى.
ماهية عقود الإذعان
فى البداية - الإذعان في اللغة العربية يعني الخضوع والانقياد، ويقال أذعن بالحق أي اعترف به وأقر به - أما تعريف عقود الإذعان قانوناً فهي صيغة من صيغ إبرام العقود تعتمد على استخدام نموذج نمطي للعقد يعده أحد طرفي العلاقة التعاقدية بصورة منفردة ويعرضه على الطرف الآخر الذي ليس له إلا الموافقة عليه كما هو أو رفضه دون أن يكون له أن يغير في العبارات الواردة فيه أو الشروط والأحكام التي يتضمنها ولا أن يدخل في مجاذبة أو مساومة حقيقية على شروطه مع الطرف المعد لهذا العقد، ومن هذا وصفت هذه العقود "بالإذعان" – وفقا لـ"اليوسفى".
وقيل أيضاَ أن أول من سماها "عقود الإذعان" كذلك القانوني الفرنسي في مطلع القرن العشرين، وذلك نتيجة إلي التطور الصناعي والتكنولوجي والتقني في الآونة الأخيرة وما صاحبه من تطور في الخدمات والمنتجات أبلغ الأثر في تطوير صياغة العقود وتعدد صورها، كما أدى ذلك إلى ظهور فئة من العقود التي لم تكن موجودة في المجال القانوني، حيث كان لظهور العولمة الأثر الكبير في تحرير التجارة وانتشار سياسة الانفتاح الاقتصادي في العلاقات الدولية من خلال منظمة التجارة العالمية – الكلام لـ"اليوسفى".
أمثلة عقود الإذعان
ومن أمثلة عقود الإذعان: عقود الخدمات الضرورية مثل عقود مزوّدي خدمات الاتصالات، وعقود البنوك والبطاقات الائتمانية، وعقود تأجير وبيع العقارات، ووثائق شركات التأمين والتليفونات، وعقود التأمين، وأيضا النقل بوسائل النقل المختلفة سواء كانت وسائل برية "السيارات والأتوبيسات العامة" أو جوية "الطيران" أو بحرية "السفن" وغيرها من الخدمات التى تعتمد على مثل هذه العقود.
خصائص عقد الإذعان .. وغياب مناقشة بنود العقد
يمكن إجمال خصائص عقد الإذعان في 5 خصائص كالتالي: "الإيجاب في عقد الإذعان يتميز بأنه معروض بشكل مستمر على كافة الناس، والإيجاب يكون ملزما للموجب لمدة أطول من الإيجاب في العقود المعتادة، وعقد الإذعان غالبا ما يكون مكتوبا بصفة مسبقة، والطرف القوي في عقد الإذعان غالبا ما يكون محتكرا للسلعة أو الخدمة"، وإذا تم التوقيع على العقد المذعن من قبل الطرف الثاني المتعاقد - المذعن إليه - فإن ذلك يعتبر رضاءاً منه بكافة بنود العقد ولا يمكنه التنصل منها ولكن يكون له حق المطالبة بتخفيف هذه الشروط المتعسفة والتي تصب فقط في مصلحة الطرف الأول الأقوى "الذاعن".
كيف يرى فقهاء القانون عقود الإذعان؟
الدكتور السنهوري يعرف عقد الإذعان بقوله: "ففي دائرة عقود الإذعان يكون القبول مجرد إذعان لما يمليه الموجب، فالقابل للعقد لم يصدر قبوله بعد مفاوضة ومناقشة، بل هو في موقفه من الموجب لا يملك إلا أن يأخذ أو يدع، فرضائه موجود و لكنه مفروض عليه"، كما عرفه الفقه المصري الدكتور حمد الله محمد حمد الله- بأنه : "هو العقد الذي يسلّم فيه أحد المتعاقدين بشروط محددة يضعها الطرف الآخر ولا يسمح بمناقشتها، و ذلك فيما يتعلق بسلع أو مرافق ضرورية تكون محل احتكار قانوني أو فعلي أو تكون المنافسة محدودة بشأنها".
عقد الإذعان يتميز بخاصتين
ويتضح من خلال هذين التعريفين أن عقد الإذعان يتميز بخاصيتين اثنتين وهما وجود احتكار قانوني أو فعلي للسلعة أو الخدمة من طرف، وأن تكون هذه السلعة أو الخدمات أساسية بالنسبة للمستهلك، ومن خلال هذا يمكن أن نقول بأن عقد الاستهلاك عقد إذعان بامتياز.
مقارنة بين المشرع المصري والفرنسي فى عقود الإذعان
وبخلاف المشرع الفرنسي الذى لم يضع نصا تشريعيا صريحا يمنح القضاء سلطة مواجهة الشروط التعسفية في عقود الإذعان، فإن المشرع المصري تدخل بصفة مباشرة للحد من الشروط التعسفية المضمنة في هذه العقود، إذ تنص المادة 149 من القانون المدني على أنه: "إذا تم الاتفاق بطريقة الإذعان وكان قد تضمن شروط تعسفية، جاز للقاضي أن يعدّل هذه الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن، وذلك وفقا لما تقضي به العدالة، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك" – الحديث لـ"اليوسفى".
جرأة المشرع المصرى دون غيره فى عقود الإذعان
ويتضح من خلال هذا النص أن المشرع المصري كان أكثر جرأة بحيث منح للقضاء سلطة تعديل أو إلغاء الشروط التعسفية الواردة في عقود الإذعان، فهو بذلك منح السلطة للقضاء لإعادة التوازن إلى مثل هذه العقود، ومع ذلك فإن بعض الفقه مثل الدكتور عبد الباسط جميعي يرى بأن السلطات الواسعة التي منحها المشرع للقضاء في مصر بصدد عقود الإذعان غير كافية لحماية الطرف المذعن لأن المشرع لم يقرر له حماية مماثلة بصدد أنواع باقي العقود.
وفي فرنسا فقد استند الفقه أمام عدم وجود نص صريح إلى نص المادة 1156 من القانون المدني الفرنسي الخاصة بتفسير العقود العادية والتي تسمح بتفضيل النية المشتركة للمتعاقدين على المعنى الحرفي للألفاظ، وذلك من أجل استبعاد الشروط التعسفية في عقود الإذعان، وبالتالي يملك إهمالها خصوصا إذا كانت الشروط المطلوبة تتعارض مع شكل آخر مكتوب باليد.
فقد قضت محكمة النقض الفرنسية بتفضيل الشرط المكتوب بخط اليد على الشرط المطبوع في عقد الإذعان، حيث أن الشرط المكتوب بخط اليد ينتج عن الإرادة المشتركة والحقيقية لأطراف التعاقد بينما الشرط المطبوع وليد إرادة الطرف الأقوى في التعاقد، كما أن القضاء الفرنسي استند على الفصل 1162 من القانون المدني الذي ينص على أنه: "في حالة الشك يفسر الاتفاق ضد الشخص الذي اشترط ولمصلحة الملتزم".