"بينما كان يستعد الأديب التونسى صلاح الدين بوجاه لدخول قاعة الندوات الرئيسية بمعرض القاهرة الدولى للكتاب 2018، لحضور لقاءه الفكرى مع الجمهور، توقف قليلا أمام صورة "ناصر" المعلقة على القاعة، نظر الرجل إلى صورة جمال الشامخة مثل صاحبها تماما، يتأملها بهدوء وكأنه يحدثه، يريد أن يخبره بما حدث للأمة من بعده، يسأله عن مصير العرب الذى أزال الخوف من قلوبهم، قاطعت أصوات الجمهور تفكيره، وقطعت تأمله لصورة الزعيم، فدخل القاعة وما أن بدأ حديثه حتى قال: "(ناصر) رجل محا الخوف من قلوبنا وعلقنا عليه الآمال، وكان ملهمنا فى تونس والوطن العربى".
هذا المنطلق الذى تحدث عنه الأديب التونسى، كان المكتسب الأهم الذى صنعته ثورة 23 يوليو عام 1952، حيث كسرت الخوف، وأدخلت المواطن فى قلب السياسة والهموم القومية، وعملت على بناء الإنسان بالفكر والثقافة معا.
منذ البداية كانت جميع الخطوات التى قام بها رجال الثورة تسير فى اتجاه بناء الإنسان، والعمل على مشروعات جديدة الهدف منها هو المواطن ومنحه حقه فى بلاده، وأن يشعر لأول مرة منذ عقودا بعيدة أنه صاحب حق فى هذا الوطن، وأن تلك الأرض الذى يعيش عليه هى ملكا له كما هى ملك للمصريين جميعا.
ولناصر إنجازات عدة مثل "مجانية التعليم، واستصلاح الأراضي، وإلغاء الطبقات بين الشعب" وغيرها، كان هدفها المواطن وتحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع أبناء الشعب الواحد، لكن هناك رؤى أخرى للقيادة الثورة، وهى وعى المواطن، وبناء شخصيته بالعلوم والثقافة، حتى يصبح على دراية بكل المتغيرات التى تتعرض لها البلاد، كانت فى مقدمة فلسفتها الخاصة.
منذ البداية قامت الثورة باستبدال الأحزاب السياسية، وإدخال المواطن كبديل مباشر فى العملية السياسية، وكأن الثورة، أرادت أن تلغى الوساطة السياسية بين المواطن والسلطة، وقررت أن تنزل القيادة السياسية إلى الناس، تماما كما يوضح المؤرخ الدكتور أحمد زكريا الشلق، فى كتابه "ثورة يوليو والحياة الحزبية": "أن قيادة الثورة ألغت التعددية الحزبية وسعت إلى خلق تنظيمات سياسية (شعبية) ذات طابع شمولي، لملء الفراغ السياسى وحشد الجماهير وتسييسها بشكل موجه لخدمة أهداف الثورة ومبادئها".
"ناصر" طبق ذلك من خلال خطاباته، فخلال أربعة عشر عاما هى مدة تولى "ناصر" رئاسة الجمهورية، قدم أكثر من 1300 خطبة مقروءة ومسموعة ومرئية، بمعدل خطاب كل ثلاثة أيام، بلغتها البسيطة والثورية، موجها خطابه إلى البسطاء فى القرى والنجوع، إلى الأمى قبل المتعلم، وإدخالهم حيز الاهتمام بقضايا الوطن الرئيسية، فجلهم يلتفون حوله حتى فى أوقات المحن، مثلما فعلوا فى التظاهرات الحاشدة لبقاء "ناصر" بعد نكسة 1967.
وفى رواية "المولودة" لنادية كامل، عن سيرة مارى إيلى روزنتال، زوجة سعد كامل المهندس الفعلى لمشروع "الثقافة الجماهيرية"، تجسد الحالة التى كانت تهدف إليها الثورة من بناء الإنسان وتثقيفه وجعله قوى ناعمة تخدم قضايا الأمة، فقدمت قصور الثقافة المنتشرة فى المدن والقرى، القوافل الثقافية التى كان يشارك فيها كبار النجوم والمثقفون، ومن خلالها دخلت العروض الفنية القرى النائية، فلك أن تتخيل أن عرضا للباليه أقيم على أحد المسارح فى أسيوط، وشارك المحافظ بيده فى بناء المسرح.
الفنان عز الدين نجيب، فى كتابه "الصامتون" حكى عن تجربته بالعمل فى الثقافة الجماهيرية، وكيف اهتمت سياستها ببناء الإنسان كما تريد "الثورة"، ويوضح كيف كان مسئوليها هدفهم التواصل مع الفئات البعيدة تماماً عن الحركة الثقافية، فلأول مرة يدخل الفلاحون قصور الثقافة، وعبر المؤتمرات الجماهيرية خرجوا عن صمتهم، وأصبحت تجربة الثقافة الجماهيرية يتم تدريسها، فتحول القصر من مجرد مبنى أصم، إلى مكان متنفس للناس جميعا، بمختلف الفئات، وكان من ضمن المشروع أن يكون فى كل قرية من القرى مئة كتاب، تتبادلها مع القرية المجاورة بعد أن تتم قراءتها، كحلقة من حلقات التواصل بين أهالى هذه القرى".
هكذا عملت الثورة على بناء الإنسان، بالعلم والثقافة، وأيضا بإزالة الخوف، أتذكر فى أحد المرات كنت استقل القطار متوجها للإسكندرية، جلس بجانبى مواطن يمنى يدعى "حميد"، للتو سألنى الرجل "هل تحب عبد الناصر؟" أجبت بحياد استنكره الرجل، واستطرد قائلا: "كيف لا يحب أى عربى عبد الناصر، ناصر هو من بنى اليمن، هو من أزال الخوف وعلمنا أننا أصحاب حق لا نتنازل عنه ولو بالقوة!، ناصر ضمير تلك الأمة وقوتها التى غابت"، فى هذه اللحظة أدركت المكتسب الأهم فى تلك الثورة العظيمة وقائدها، وكيف ساهمت فى بناء شخصية جديدة للمواطن العربى، وكانت سببا فى تطبيق رؤية مخلفة لبناء الأوطان والإنسان معا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة