نقرأ معا كتاب "ابن سينا الفيلسوف" لـ بولس سعد، الذى يلقى الضوء على شخصية أحد أبرز الفلاسفة والعلماء الإسلاميين ابن سينا (980- 1037) ميلادية، والكتاب رغم أنه صدر فى عام 1937 لكن أعادت مؤسسة هنداوى نشره من جديد.
وعن الحياة الشخصية لـ بن سينا، يقول الكتاب:
كان ابن سينا على جانب عظيم من الذكاء، والمثابرة على توقد القريحة، يتبرهن ذلك من حياته التى كتبها هو عن نفسه وأوردناها سابقًا، وكان ميَّالًا إلى درس الكتب العويصة، وحل المشاكل العلمية، وهذا يثبته ما حكاه عنه تلميذه أبو عبيد الجوزجانى، وهو قوله: "إنى صحبت الشيخ خمسًا وعشرين سنة، فما رأيته ينظر فيما يقع له من الكتب على الولاء، وإنما يقصد المواضع الصعبة والمسائل المشكَلة، ليتبيَّن ما قاله صاحب الكتاب فيها".
وكان ذا عقل خصب، وشغوفًا بإفادة غيره من أبناء جنسه، ويُروى عنه أن جماعةً من العلماء وقعت لهم شُبَه فى مسائل من كتابه المختصر الأصغر فى المنطق، وعُرِضت تلك الشُّبه عليه للإجابة عنها، فكتب فى جوابها زهاء خمسين ورقة فى نصف ليلة حتى دهش الناس من ذلك وصار تاريخًا بينهم، بيد أنه مع هذا كله قد كان محبًّا للظهور، مواربًا لا يريد أن يستفيد غيره من الموضع الذى استقى منه، لذا لمَّا شُفى نوح بن نصر السامانى من مرض اعتراه دخل مكتبته التى لم يكن لها نظير، فيها من كل فن من الكتب النفيسة النادرة الوجود، فأخذ هناك يطالع، فاقتبس منها أشياء لم يدركها سواه، وقرأ أغلب نفائسها، ثم أحرقها، ليتفرَّد بما وعته من الحكمة، ولئلا ينتفع به سواه.
كذلك قد كان الشيخ خبيثًا فى باطنه خلاف ما فى ظاهره؛ لأن سائر مؤرخِّى حياته يثبتون أنه كان مطواع الأهواء والملاذِّ، ومع هذا فإنه فى فلسفته يثبت أن السعادة الكاملة فى هذه الحياة الدنيا تقوم بالتجرد التام عن الحسيَّات، والابتعاد عن الملذات اللحمية، والتبحُّر فى الوجود الكامل، حتى لقد قال فى إحدى رسائله عن هذا العالم الفانى ما يأتي: "دار أليمها موجع، ولذيذها مستبشع، وصحتها قسر الأضداد على وزن وأعداد، وسلامتها استمرار فاقة إلى استمرار مزاقة، ودوام حاجة إلى مج مجاجة …" ثم يواصل القول "إن الإنسان الذى يتبجن فى قلبه بغض الدنيا، وتصير هذه الخصلة وتيرته، انطبع فى فصه نقش الملكوت، وتجلَّى لمرآته قدس اللاهوت، فألِف الأُنس الأعلى، وذاق اللذة القصوى، وأخذ عن نفسه لمن هو به أوْلى، وفاضت عليه السكينة، وحفَّت به الطمأنينة، واطلع على العالم الأدنى اطلاع راحم لأهله مستوهن لحبله" هذا قول ابن سينا فى هذا الأمر، إلَّا أن عمله يخالف ذلك ويناقضه، وبعض الحكماء يقولون: "إن العالم الذى يعلم ولا يعمل بما يعلمه ليس بعالم".
ونحن نعتقد أن الشيخ الرئيس لو اعتدل فى حياته لكان عَمَّر طويلًا، وأتانا بنظريات فلسفية موزونة، لأن الصفة النقدية لم يكن محتاجًا إليها؛ بل كانت متجسِّدة فيه تجسُّدًا؛ فإننا بينا نرى فلاسفة العرب يؤلِّهون أرسطو، ويتلقَّنون تعاليمه بدون ما رويَّة، نشاهد أن ابن سينا يمحِّصها، ويتناول ما يلائمه وينبذ ما لا يقره عقله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة