يحتفل أقباط مصر غدا بـ عيد الميلاد المجيد، والمسيحية في مصر لها طبيعتها ودورها في تشكيل هوية المصريين، ومن الكتب التي أشارت إلى ذلك كتاب "تكوين مصر " لـ محمد شفيق غربال.
يقول الكتاب تحت عنوان "مصر والمسيحية":
يدخل فى تكوين مصر عنصر مسيحى هام كل الأهمية، وليس مرد ذلك إلى أنَّ المسيحية عقيدة فريق من أبنائها فحسب، بل لأن المسيحية فى عالم مسيحي، هى التى كونت النظرة الروحية لأبنائها كافة.
وقد كانت مصر التى حمل إليها يوحنا مرقص المبشر بالإنجيل رسالة المسيحية — كما جاء فى الرواية المتواترة — خليطًا من طرازين مختلفين من البيئة، فمن ناحية كان هناك سكان المدن الذين يتكلمون باليونانية وبخاصة فى الإسكندرية، وهم من الإغريق والمصريين المشبهين بالإغريق واليهود، وهؤلاء جميعًا تأثروا بالمؤثرات الدينية والثقافية السائدة فى المدن الهيلينية فى القرن الأول من العهد المسيحى، وتأثروا من الناحية الأخرى بطراز البيئة المصرية الصميم.
أما فى البيئة الحضارية التى كانت تضم ذلك الخليط من الطوائف الذين ذكرناهم، فقد كان القوم فى تلك الآونة ينشدون تلك الوحدة التى كانت لأمراء يستمدون وجودهم من وراء مختلف الآلهة وعباداتهم، كما كان القوم يسعون أيضًا نحو الحصول على طهارة الأنفس، وقد احتوت الديانة المسيحية — بالإضافة إلى شخصية السيد المسيح — على شيئين حيويين خلت منهما الديانة الهيلينية، ففى تلك الديانة بوجهٍ عام، لم يكن يؤمن بعقيدة الخلود فى عالم آخر إلَّا قلة من الأخيار المحسنين، أو جماعة من المطلعين على أسرار بعض الديانات ذات الطقوس السرية، التى تعلق بها الناس إذ ذاك؛ أى لم تكن عقيدة الإنسانية عامة، ولم يكن حب الإنسانية أساس أية عقيدة هيلينية، كما لم تحمل واحدة منها رسالة إلى البائس، والمسكين، والخاطئ، والمسيء.
تكوين مصر
وقد كان مذهب الرواقيين أقرب المذاهب إلى ذلك المثل الأعلى الإنساني، ولكننا لا نجده يفسح مكانًا للمحبة، ولذا لم يكن للعاملين المرهقين المثقلين إلَّا أنْ يضعوا الرجاء فى شيءٍ آخر، لم تستطع العقائد الهيلينية أنْ تقدمه إليهم، ولكن ينبغى علينا أنْ نذكر فى الوقت نفسه إسهام التفكير الإغريقى والتفكير اليهودى بنصيبٍ وافر فى ميدان الفلسفة والتصوف، فى المحاولة التى قام بها الآباء المسيحيون الأولون فى مدينة الإسكندرية وغيرها، لعرض الحقائق المسيحية، إسهامًا يقوم على النظر العقلي، ويستسيغه العقل، لا لتعليم المؤمنين المسيحية فحسب، بل لتعليمها الوثنيين الذين أشربوا الفلسفة اليونانية أيضًا.
ويكفينا أنْ نذكر فى هذا الصدد مدرسة التعليم الدينى الشهيرة بالإسكندرية، والاسمين اللذين طبقت شهرتهما الآفاق: "كليمنت وأوريجين"، ويجدر بنا ألَّا نغفل أهمية ما أسدته اللغة اليونانية فى سبيل نشر المسيحية، فالكلمات الأساسية كافة فى العقيدة المسيحية يونانية الأصل: المسيح (كريست)، والتعميد «بابتيزم»، والأفخارستى والدياكون والقس (برست)، والمطران (بيثوب)، والرسول (أبوسل) والإنجيل.
وسأشرح بعد قليلٍ ما كان لليونانية من أثرٍ فى تكوين اللغة القبطية والكنيسة القبطية.
أما البيئة الأخرى، بيئة الإيمان المصرى الخالص، والرجاء المصرى الصميم، فتختلف كل الاختلاف عن البيئة الحضارية التى وصفتها، فقد كان شغلها الشاغل إقامة الشعائر التى تطلبتها عبادة أوزيريس. وتقوم تلك العقيدة على توجيه الإيمان، وتوجيه الطقوس؛ للحصول على البعث بعد الموت بفضل أوزيريس، الذى بعث حيًّا بعد أنْ أرداه الشر قتيلًا؛ ولذا كان هم المؤمن المصرى أنْ يؤدى الطقوس السحرية التى بها تغلب أوزيريس على الموت، ولو أنَّ الوازع الخلقى لم يغب عن المؤمنين المصريين، فقد آمنوا أيضًا بالحساب والميزان يسبقان نعيم الأخرى، فلم يكن عجبًا إذن أنْ تلقى المسيحية، وقد نادت بالمخلص الذى قهر الموت أذنًا صاغية ولقاءً حسنًا، وكان من عظمة المسيحية أنها لم تجتذب إليها الطبقة الوسطى الدنيا، والطبقة الوسطى العليا فحسب، بل إنها كانت العقيدة التى اعتنقها عامة الشعب فى الحضر والريف بحرارة وإيمان.
ومن دلائل سرعة انتشار الرسالة المسيحية بين المصريين، الحاجة الماسة إلى ترجمة كتب العهد الجديد إلى اللهجات القبطية السائدة فى البلاد، ويبدو أنَّ اللهجة المسماة «بالبحيرية» هى التى أصبحت اللهجة الرسمية للكنيسة القبطية.
ولكن إلى جانب الكتب المقدسة الرسمية، نبتت وفرة كثيرة من الكتابات الدينية غير الرسميَّة، كان يقصد بها أولًا وقبل كل شيء إيجاد مادة قراءة الشعب، كسير العذراء ومناقبها، وروايات تتعلق برسالة المسيح وعذابه. هذا، وإنا لنستطيع الإسهاب فى موضوع استمرار الروح المصرية — وخاصة روح الفلاح — وطموحها وأمانيها الروحية، ولكن يكفينا فى هذا أنْ نقتبس تلك الجملة من كتابات هارناسك مؤرخ العقيدة:
إنَّ المسيحية قد لاءمت فى مصر بين خصائصها وبين خصائص الدين القديم الأساسية لمدى أوسع مما شهدناه فى أى بلدٍ آخر، اللهم إلَّا إذا استثنينا بلاد اليونان، فإن كان أكثر المصريين قد أصبحوا عند منتصف القرن الرابع مسيحيين، فمرد ذلك إلى أنهم خلقوا لأنفسهم دينًا قوميًّا من المسيحية، وذلك بأن لقحوا هذه الديانة ببقايا معتقداتهم القديمة وآمالها.
هذا وبالإضافة إلى تكوين اللغة القبطية بمعونةٍ من اليونانية، يجب ألَّا نغفل نمو الفن القبطي، أو بمعنى أدق الفن المصرى المسيحي، الذى وصلت بعض طرائقه وأساليبه من إيران عن طريق سوريا، والذى يمتد انتشاره جغرافيًّا إلى مدى فسيح يسترعى النظر، فقد ذكر «دالتون» فى الدليل الذى وضعه عن أقدم الآثار المسيحية والبيزنطية فى المتحف البريطاني، أنه عثر على آنية برونزية من طراز قبطى فى مقابر إنجليزية سكسونية. هذا ولا يقل إشعاع الفن القبطى زمنيًّا عن انتشاره فى أقطار الأرض، إذ إنَّ طرائق الفن القبطى وأساليبه كانت عاملًا من العوامل المؤثرة فى فنون مصر الإسلامية وصناعاتها، وهذا دليل آخر على أهمية العنصر المسيحى فى تكوين مصر.
هذا وإذا كان الفن القبطى تعبيرًا عن الخصائص الدينية لمصر المسيحية، فإن نشأة حياة الرهبنة ونموها لهى وجه آخر من أوجه التعبير، يعتبره العلماء أكثر ما ساهم به الشعب المصرى بروزًا وجلاءً فى تراث المسيحية.
وإنا لنكتفى بالقول دون الدخول فى التفاصيل أنَّ الرهبنة بدأت بفرار الأفراد إلى البرية هربًا من شرور العالم ورذائله، ثم أخذت شهرة بعض الصالحين النساك تجذب الناس إلى العيش بجوارهم، يلتمسون منهم الهداية، وكان ذلك حال «أنطونيوس» الشهير. ولكن يرجع الفضل فى تنظيم الرهبنة إلى عبقرية «باخوميوس»؛ فقد كان للقواعد التى وضعها تأثيرٌ بالغ فى نمو أنظمة الرهبنة فى المسيحية الغربية وغيرها، ولكن الرهبنة فى مصر لم تكن أمرًا روحانيًّا صرفًا، بل كانت عاملًا فى التطور الاجتماعي، والتطور الديني، فأثرت تبعًا لذلك، فى مصائر البلاد بأجمعها.
وقد انتظمت المسيحية فى كنائس شكلت على طراز الأنظمة الرومانية الإمبراطورية، وتركزت الكنائس الرئيسية فى مدن اشتهرت فى التاريخ، كالإسكندرية، وأنطاكية، والقسطنطينية، وروما. وكان من شأن اختلاف الأمزجة القومية والمنافسات بين الأمم والأشخاص، أنْ نشأت اختلافات مذهبية، فنبت ذلك النقاش، وذاك الجدل الذى شاع وذاع بين أريوس وأثناسيوس فى القرن الرابع، وانتهت تلك الجولة بأن قرر مجمع نيقية إدانة أريوس بالإلحاد (الهرطقة)، كما نشب خلاف آخر حول الأقاليم، كان من أثره انحياز الكنيسة المصرية — ومعها فى ذلك كنائس شرقية أخرى — إلى رأى فى طبيعة السيد المسيح يعرف بالمذهب المنوفيسى — أى الطبيعة الواحدة — وانحازت الكنيسة الإمبراطورية إلى قولٍ آخر، وعمل هذا النزاع المذهبى وما صحبه من اضهطادات وإحن واضطرابات، وتدهور اقتصادي، على إضعاف الصلة التى كانت تربط البلاد بالإمبراطورية الرومانية، عند حدوث الفتح الإسلامى فى القرن السابع.
وقد فُسر المذهبان «المنوفيسي» و«النسطوري» على أنهما يمثلان احتجاج الشعوب الشرقية على السيطرة الهيلينية السياسية والاقتصادية والثقافية، وقد أشار هارناسك، الحجة الذى سبق لنا الاقتباس منه، إلى أنَّ بطارقة الإسكندرية لم يقتصر طموحهم على السيطرة على الكنائس الرئيسية الأخرى، بل تعدى ذلك إلى التطلع إلى أنْ يجعلوا من مصر دولة دينية مستقلة. ويؤيد هذا ما ذهبت إليه الآنسة رويار المؤرخة الثقة للإدارة البيزنطية، من أنَّ العرب الغزاة لم يروا فى مصر إحدى ممتلكات بيزنطة، بل بدت لهم مملكة تكاد تكون مستقلة. هذا وبينما كان رهبان أديرة مصر من أبناء الفلاحين، يؤيدون الكنيسة القبطية فى صراعها ضد أولى الأمر الحاكمين الأجانب، موظفين مدنيين وكنسيين، فإنه لا يمكن القول بأن تلك الأديرة كانت عنصرًا من عناصر النظام أو الاستقرار فى حياة الكنيسة الوطنية ذاتها.
