حازم حسين

بنبان "سد الشمس العالى".. مصر منوّرة بصعيدها

الإثنين، 27 ديسمبر 2021 03:50 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

من جديد يعود الصعيد إلى الواجهة. قبل عقود كانت كل بيوت مصر تقريبا مُضاءة من السد العالى، ومضت الأعوام وتطورت قدرات الدولة وتعددت محطات الإنتاج، ليتراجع نصيب السد من إجمالى الطاقة المولّدة، لكن التراجع لم ينفِ أهميته أو يُقلل منها. اليوم يعود الجنوب إلى قلب خارطة مصر بافتتاح أكبر محطة فى العالم للطاقة الشمسية. هذا المشروع وإن بدا إنتاجه أقل من بعض المحطات التقليدية المتوسطة، إلا أنه يُمثّل طفرة غير مسبوقة، وانتقالا لا يقل عن نقلة السد العالى فى زمنه، على الأقل من جهة أنه فتح فى بابه، وخطوة أولى على طريق لن تمضى عقود قبل أن يُهيمن على سوق الطاقة العالمية، وتقدُّمًا على دول كبرى ونامية ما تزال تفكر فى الأمر، ولم تتحرك باتجاهه أصلا، ناهيك عن أن تقفز قفزة بحجم مجمع بنبان.

النظر فى طفرات السنوات السبع الأخيرة يقود إلى غابة من الأرقام والمشروعات. أكثر من 14 ألف مشروع بميزانية استثمارية تتجاوز 6 تريليونات جنيه. يمكن أن تتلمّس حجم التحول والآثار فى كل القطاعات، لكن ربما يكون ملف الطاقة أحد أبرز مسارات النجاح وضوحا. فى الغاز والنفط لدينا نمو واضح فى حجم الأعمال والاكتشافات ومناطق الامتياز وقدرات الإنتاج، دُرّتها حقل ظهر العملاق باحتياطياته البالغة 30 تريليون قدم مكعبة، أما فى الكهرباء فقد ضاعفت مصر قدراتها التوليدية تقريبا، وقفزت من نحو 28 إلى 60 جيجا وات تقريبا، بمزيج طاقة متنوع ومُتنامٍ يضم 20% من مصادر متجددة، بواقع 12% للرياح و6% للمياه و2% للشمس، من المستهدف الوصول بها إلى ما بين 42 و47% بحلول 2035، وفى هذه الخطة الطموح تمثل "بنبان" الخطوة الأوسع والأهم.

من دون الأرقام قد يختزل البعض "مجمع بنبان" فى كونه محطة كهربائية، حتى لو كانت متطورة، لكن الحقيقة أنه أقرب إلى مدينة كاملة، من حيث المساحة وقدرات الإنتاج وحجم المشروع قياسا إلى تلك النوعية عالميا. يقع المجمع على 37 كيلو مترا (نحو 8 آلاف و843 فدانا) ما يوازى نصف مدينة متوسطة مثل الشروق والعبور، وثلاثة أمثال مدينة صغيرة مثل بدر. وينتج 1460 ميجا وات تمثل 90% من إنتاج السد العالى، عبر 32 محطة إنتاج و4 محطات محولات لربطها بالشبكة الموحدة. ووفر أكثر من 35 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة خلال تنفيذه، بينما يقيم فيه الآن 6 آلاف عامل يُمثلون قوام هيكله الإدارى، ما يجعله مدينة حقيقية فعلا.

ربما يسهل أن نتوقع نجاح المشروع مع افتتاحه اليوم، لكن الملفت أنه كان ناجحا منذ خطوته الأولى. والدليل أنه اقتنص جائزة التميز الحكومى العربية 2020 كأفضل مشروع بنية تحتية، والمركز الأول على مستوى حزمة المشروعات المنفذة مع البنك الدولى حول العالم. أما على مستوى الأثر فإنه حقق عددا من الأمور المهمة، أولاها أنه فتح الباب لنحو 40 شركة متخصصة فى الطاقة المتجددة والألواح الشمسية للعمل بأكبر محطة فى العالم، كما أنه الخطوة الأولى لاستغلال القدرات الجغرافية والبيئية المصرية نحو تحقيق أفضل نسبة من معدلات التوليد المتاحة، البالغة قرابة 83 جيجا وات بحسب تصريح سابق لوزير الكهرباء، وأيضا يمثل المشروع خطوة واسعة باتجاه تنفيذ استراتيجية الدولة بشأن التحول نحو الاقتصاد الأخضر وتعزيز عناصر الاستدامة ومراعاة التوازن بين مقتضيات التنمية ومّحددات صيانة البيئة.

قرابة 40 مليار جنيه تكلفها المشروع. يبدو إنفاقا ضخما، وقد يراه البعض باهظا، وبعيدا عن أنه بنظام مشاركة القطاع الخاص على أن تشترى الدولة الكهرباء المُنتجة، بما يعنى أن الموازنة لم تتحمل دولارا من التكلفة البالغة 3.4 مليار يورو، لكن فوق ذلك فإننا فى الحقيقة إزاء تحول استراتيجى مهم بهذا المشروع، يستأهل المبادرة ويستحق الكُلفة، أولا لأننا نجنى من خلاله منافع قدرات ومزايا طبيعية مُستدامة وغير مُستغلة، ونصون البيئة، ونُجرّب مسارا يُمكن أن يغنينا مستقبلا عن الوقود التقليدى وأعبائه الاقتصادية والبيئية. ربما تكون التكلفة كبيرة فى نظر البعض، وأعذرهم ولا أصادر على رؤاهم، لكن عبء الوصول إلى إنشاء وتشغيل 10 محطات من تلك النوعية قد يكون أقل كثيرا من أعباء استيراد ملايين الأطنان من النفط، ثم أعباء التعامل مع آثارها على البيئة والصحة والزراعة وجودة المعيشة.

خطوة بنبان كلمة فى مفتتح جملة، دلالتها المباشرة أن التحرك إلى المستقبل يستلزم وسائل وآليات غير ما تحقق به الماضى. يبدأ الأمر بالرؤية والفلسفة والعلم والبحث والتخطيط، ثم باتباع التقنيات المستحدثة وابتكار السبل الكفيلة بدمجها مع قدرات الدولة ومكونات قوتها ونموها. من هنا يأتى مجمع بنبان تاليا لعشرات المشروعات متفاوتة القدرات فى مجالات الطاقة الشمسية ومزارع الرياح، مع الاستعداد لبدء تجربة إنتاج الهيدروجين عبر توقيع عقود لإنشاء 5 محطات، بحسب حديث الدكتور محمد شاكر، تمهيدا للتوسع فى الإنتاج والتحرك باتجاه التصدير، ضمن خطط الدولة المتبنية لقيم وأدوات الاقتصاد الأخضر، والساعية إلى ترسيخ عناصر الاستدامة والمسؤولية البيئية. تلك الصورة تعنى أننا إزاء تغير فكرى واستراتيجى فى رؤية الدولة الاقتصادية والتنموية، واتجاه جاد إلى الاستفادة من القدرات المتجددة لتحقيق أقصى منفعة، مع تجنب تقلبات السوق والإمكانات التقليدية بين اهتزازات الإنتاج واختلالات العرض والطلب والتسعير.

كانت "مصر منورة بأهلها" وما تزال، مع كل إنجاز يحققه المصريون تأسيسا على رؤية عميقة وعمل جاد، لكن الإنجاز الأكبر أن تُعيد مصر استكشاف نفسها، وفرز وترتيب عناصر قوتها، واستغلال كل الطاقات المتاحة والممكنة من أجل تعزيز مسيرة النمو، وخلق نهضة حقيقية مستقرة ودائمة، لا تكون نتوءا زمنيا عارضا، ولا نجاحا طارئا تغيب عنه أدوات الاستدامة وتحوّطه مخاطر الخفوت مع الزمن أو خفوت طاقة الدفع. وأبرز تجليات هذا الاستكشاف النظر جنوبا، والعودة إلى الصعيد بعقل واعٍ وقلب مفتوح، وهو ما رأيناه مؤخرا فى أسبوع الصعيد بما شمله من مشروعات وافتتاحات فى مجالات البنية التحتية والطاقة والتصنيع والخدمات وتحسين المعيشة، وفق رؤية شاملة ومنظومة مُتكاملة لتغيير الواقع وإرساء قاعدة متينة للانطلاق نحو المستقبل، واليوم مع الوصول إلى محطة جديدة فى أسبوع الصعيد، وافتتاح أكبر محطة فى العالم للطاقة الشمسية بـ"بنبان"، بما تمثله من سدٍّ عالٍ جديد يحوّل مجرى الشمس إلى طاقة نور وخير، يُمكن القول إن مصر المتوهجة دائما بسواعد المصريين، ستظل منوّرة بأهلها، و"منورة بصعيدها" أيضا.







مشاركة



الموضوعات المتعلقة




الرجوع الى أعلى الصفحة