أتذكر دائماً أحد المشاهد الهامة من فيلم "مطب صناعى"، الذى تم إنتاجه عام 2006، وقد كنت حينها فى السنة النهائية بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وحضرت الفيلم فى أحد سينمات وسط البلد، مع صديق مُقرب، واستحوذ على اهتمامى المشهد المميز بين الأب، الذى كان يؤدى دوره "أحمد راتب" الفنان القدير رحمة الله عليه، والابن الفنان "أحمد حلمى"، بطل الفيلم، الذى كان يقدم شخصية "ميمى"، حول فكرة الفرص والحلول، هل بين أيدينا دون ندركها، أم أننا نبحث عنها بعيداً..
والحوار تفصيلياً بين ميمى ووالده كان كالتالى.. الأب:" تفتكر لو أنا رميت الصنارة بعيد.. اصطاد سمكة أكبر"، الابن:"طبعاً".. يرد الأب:" ولا تعرف أى حاجة.. أنت عارف أنا أكبر سمكة اصطادتها فى حياتى، اصطادتها من هنا، من تحت رجليا، أنا لو كنت بصيت بعيد مطرح ما رميت الصنارة ماكنتش خدت بالى من السمكة الكبيرة اللى تحت رجلى.. ليرد الابن:"دى تلاقيها سمكة كانت معجبة بيك ولا حاجة، وجايه تدلع حوليك كده ولا بتاع.. ليختم الأب الجملة الحوارية:" أصلك أنت دايما تبص بعيد.. وده مش وحش.. بس إنت كمان لازم دايما تبص تحت رجلك".
هذه الجُمل الحوارية الهامة التى كتبها المؤلف والممثل طارق الأمير، تقودنا دائماً إلى فكرة أعمق وأكبر وتجعلنا نفكر ونستعيد ذكريات الماضى، هل بالفعل كانت السمكة الأكبر تحت أقدامنا دون أن نراها أو نعيرها اهتماماً؟! هل كان الأفضل أن نعيش تجربة عادية وننظر للمستقبل بالطريقة التقليدية المعتادة ونمتهن عمل الآباء والأجداد أم نسعى نحو الجديد والمختلف والتجارب الصعبة؟!
البعض قد يتصور أن الإجابة سهلة، ومعلومة بالضرورة، إلا أننى على المستوى الشخصى لا أملك إجابة قاطعة تجاه هذه القضية، وفى أحيانٍ كثيرة أفكر كما تعود أغلبنا فى رؤية مختلفة أو طريقاً لم نسلكه فى بداية المسيرة العملية، فلو اختار أحدهم البقاء فى قريته الصغيرة ليعمل بالزراعة أو يمارس نشاطاً تجارياً، فقد يجد فى نهاية الطريق أو قبل النهاية بخطوات أن من تركوه وهرولوا تجاه المدينة الصاخبة ليسوا أفضل منه حالاً، أو يعيشون نفس المستوى الاقتصادى، والفوارق معهم لن تكون أكثر من المدنية والتحضر، سواء فى تربية الأبناء أو التعامل مع معطيات الحياة ومستوى الرفاهية، إلا أن المحصلة النهائية قد تتساوى بدرجة أو بأخرى، وأن كل هذه الطريق الطويلة التى سلكوها لم تصنع فارقاً كانوا يحسبونه كبيراً فى سنوات الصبى والشباب الأولى.
بالطبع الفارق الجوهرى فى فلسفة الحياة هو "التجربة"، وما اكتسبه الإنسان من خبرات هامة نتيجة تعدد المواقف والاشتباكات مع الظروف والمشكلات، لكن السؤال يبقى صعباً، فلا يمكننا أن نجيب ما إذا كانت السمكة الأكبر أسفل أقدامنا أم بعيدة وصيدها يحتاج إلى النظر"على مدد الشوف"، وهذا الطرح يدعونا إلى التأمل للخيارات التقليدية بقدر النظر إلى الصعبة، وأن الأخيرة قد لا تناسبنا جميعاً، فقد نبدأ طريقاً وعراً نسلكه لسنوات طويلة ثم نكتشفه غير مناسب لقدراتنا، ولن يحقق أحلامنا أو أهدافنا، وحينها ستكون النهاية إما بالعودة والبداية من جديد أو المواصلة فى طريق لم يألف خطواتنا، ولن نصنع فيه جديداً.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة