واصل الشعب المصرى ثورته منذ يوم 9 مارس 1919 يطالب بجلاء الاحتلال الإنجليزى، فرأت الحكومة الإنجليزية تعيين المارشال اللنبى مندوبا ساميا فوق العادة لها فى مصر والسودان، وفى يوم 21 مارس، مثل هذا اليوم، 1919، وصل إلى بورسعيد، حسبما يذكر عبدالرحمن فهمى، قائد التنظيم السرى للثورة، فى الجزء الأول من مذكراته «يوميات مصر السياسية».
كان «اللنبى» قائدا عاما للجيوش البريطانية فى الشرق إبان الحرب العالمية الأولى، واشتهر خلالها بدوره على الجبهة الغربية «1915 - 1916»، ثم قاد الحملة على فلسطين، واستولى على بيت المقدس فى 9 ديسمبر 1917.. يذكر «فهمى» أن الحكومة الإنجليزية عهدت إليه بمنصب المندوب السامى فى مصر لبأسه وحزمه، وفى يوم وصوله نشرت الجريدة الرسمية بلاغا نصه: «أنه بالنسبة لحالة البلاد ولغياب القومسير العالى البريطانى من مصر، قد عين المارشال اللنبى مندوبا ساميا فوق العادة، ومنح السلطة العليا فوق العادة، والسلطة العليا فى جميع الأمور المدنية والعسكرية فى اتخاذ ما يراه من الإجراءات صالحا لإعادة النظام واحترام القوانين فى هذه البلاد، وإدارة شؤون الحكومة فى كل الأمور، مع تثبيت حماية جلالة الملك فى مصر على أساس متين».
فور أن وصل اللنبى زاره بعض الكبراء والأعيان، وأعلن تصريحا عن خطته، واللافت أنه لم يذكر فيه شيئا عن استقلال مصر كهدف رئيسى للثورة.. قال: «أتيت لمصر لأغراض ثلاثة وهى: أولا، أن أضع حدا ونهاية للاضطرابات الحالية.. ثانيا: أعمل تحريات دقيقة عن جميع الأسباب التى حملت أهل البلاد على الشكاوى.. ثالثا: أزيل كل الشكاوى التى تستوجب العدالة إزالتها».. يضيف فهمى، أن اللنبى عقب على ذلك لزواره قائلا: «الواجب عليكم أن تعملوا ما فى وسعكم لحسن قيادة الأمة، وتعملوا بالاتحاد معى فى صالح بلادكم، ولا يتبادر إلى ذهنى قط أن أحدكم يرفض مساعدتى بكل ما فى وسعه، وأعتمد عليكم للبدء فى العمل فورا فى سبيل تهدئة الخواطر الثائرة حتى إذا استتب الأمر، وعادت السكينة فإنى على يقين من أنكم ستضعون ثقتكم فى لأقوم دون تحيز بمنع كل شكوى، وآمر بكل ما فيه إرضاء الأمة المصرية وبما فيه خيرها».
فى يوم وصول «اللنبى» كانت القاهرة تشهد جنازة أحد شهداء الثورة وهو الطالب «ماهر حافظ أمين»، ابن مأمور مركز جرجا السابق، وكان يعمل أثناء الثورة بدائرة أحد الأمراء فى السنبلاوين بالدقهلية، ولم يكن يعلم بوفاة ابنه لانقطاع الاتصالات، حسبما يذكر الشيخ عبدالوهاب النجار فى مذكراته عن الثورة «الأيام الحمراء»، مضيفا: «الشاب المتوفى كان فى جهة الأزهر يوم الثلاثاء 18 مارس 1919، فغافل الجند واختطف مدفعا رشاشا، وأسرع به يريد دخول الأزهر، فأطلق عليه أحد الجنود رصاصة أصابت رجله، وصوب عليه آخر أخرى أصابت ظهره، واخترقت المثانة ونقل إلى مستشفى عباس ومات فيه يوم الخميس».
يصف «النجار» مشهد جنازة الشهيد «ماهر»، قائلا: «اجتمع طلبة مدرسة القضاء الشرعى والأزهر والمدارس العليا، وعظوا الخشبة التى فيها الجثة براية مصرية عليها «فليحيا الاستقلال.. شهيد الحرية»، ورتبوا أنفسهم ترتيبا بديعا منتظما، وحمل النعش أربع من طلبة مدرسة القضاء الشرعى، وكان الاحتفال مهيبا رهيبا، مشى فيه كثير من أفاضل المدرسين والأعيان وذوى الوجاهة، وفزعت لذلك المحافظة، وسار مشيعو الجنازة إلى منزل سعد باشا، وأرادوا أن يمروا بها على دور القناصل، فمنعتهم الجند، ومروا بشارع قصر العينى إلى جبانة زين العابدين، وألقيت الخطب الكثيرة، وكان الناس فى حزن شديد».
يذكر «النجار» ما سمعه من القادمين من الفيوم، وقالوا إن البدو والأهالى استولوا على المراكز ونقط البوليس والأسلحة ورفعوا قضبان السكة الحديد الواصلة إلى الواسطى حتى بلدة «بويط»، وأن الثائرين عسكروا حول مدينة الفيوم، ودخل جماعة منهم ومعهم بعض العمد من العرب إلى سلطان بهنس بك، فذهب معهم إلى المدير عبدالعزيز يحيى بك، وقال أحد العمد: «عزلناك يا سعادة المدير» فأجابه: قد رضيت، وهل لكم مطالب يمكن أن نتفاهم فيها؟ فقال العمدة: نطلب بإعادة حمد الباسل باشا ومن معه حالا، ويسافر الوفد، فقال المدير: هذا شىء سهل ولكن ليس عندى تلغراف ولا تليفون، فأمهلونى ريثما أخاطب الجنرال الإنجليزى الموجود قريبا منا، ليخاطب مستشار الداخلية، واتفق معه على انتظار ثلاث ساعات، فلما خرجوا أطلق واحد منهم عيارا ناريا علامة فرحة، فلما سمعه الناس خافوا أن يكون العرب هاجموا المدينة، ففزعوا وذهب فريق منهم إلى المعسكر البريطانى بالفيوم وجنوده هنود، فلما رأى الجند الناس مقبلين ظنوهم مهاجمين، فأطلقوا عليهم مدفعا رشاشا قتل منهم خمسة وثلاثين وجرح تسعة عشر، منهم باشمهندس الرى وزوجته وكانا يطلان من نوافذ البيت».