ننشر مقالة للكاتب الصحفى والروائى سعد القرش عن كتاب "سلاح غير مرخّص.. دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسئولية" لـ كرم نعمة، الذى يرصد علاقة الرئيس الأمريكى السابق مع الصحافة ومعاركه معها واصطدامه برجالها، ومعنى كل ذلك.
بإخراج دونالد ترامب من البيت، أُغلق قوس رئيس أمريكى أثار اختياره جدلا ودهشة، وترك منصبه بعاصفة شعبوية تذكّر بمقولة أُطلقت، فى نهايات القرن التاسع عشر، تصف الولايات المتحدة بأنها الدولة الوحيدة التى ستنتقل من البربرية إلى الانحلال، من دون المرور بالحضارة، المقولة المنسوبة إلى أوسكار وايلد تصدُق على رجل لم يربح من البيت الأبيض إلا لقب "الرئيس السابق"، وها هو يربح أيضا كتاب كرم نعمة "سلاح غير مرخّص.. دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية" والقوة هنا ليست ذاتية، بل مستمدة من تيار كهربائى متصل بالكرسى الرئاسي. هذه القوة ترصدها "مقالات" الكتاب، عبر أربع سنوات، هى فترة الرئاسة الأولى والأخيرة لترامب.
يضم الكتاب مقالات نشرها كرم نعمة فى زاويته الأسبوعية بصحيفة "العرب" اللندنية، فى الفترة السابقة لانتخاب ترامب إلى ما بعد خسارته أمام جو بايدن. وقال المؤلف فى المقدمة إنه رأى أن يجمعها، مع إعادة تحريرها، "ربما تضيف شيئا مفيدا فى مدونة ترامب الطويلة"، والخشية أن يكون ترامب نفسه قد صار تاريخا، ثم تنتعش الترامبية نفسها، فى تربة شعبوية أخرى تستلهم أداءه العمومى، فقراءة الكتاب تضعنا أمام تفاصيل ترسم صورة لرجل هو الأكثر تشاحنا مع الصحفيين، وكراهية للصحافة، وربما لم يسبق لرئيس فى العالم قيامه بالدورين معا: الرئيس والسكرتير الصحفى، فضلا عن تولّى مهام الدفاع عن النفس، والهجوم على "الأعداء"، وخصوصا الصحفيين.
صدر الكتاب عن الدار العربية للعلوم ناشرون فى بيروت، ويقع فى 111 صفحة، ويضعنا أمام ظاهرة غير مسبوقة، لرئيس لا يتحلّى بوقار المنصب، وقد مسّه شىء من الحماقة، وأصابته متلازمة الإعلام، فيقرر القفز على هذه العقدة بأن يذهب بنفسه إلى عصر ما بعد الصحافة، إلى تويتر، فيفجّر فى الفضاء الكونى لموقع التواصل الاجتماعى قنابل، ويشعل خلافات، ولا يهتم بإطفاء الحرائق، الرجل الذى كان يدير الدولة العظمى، بأساطيلها المنتشرة حول العالم وقواعدها العسكرية وأبحاث الفضاء ومشكلات الضرائب والتأمين الصحى وأزمة فيروس كورونا وجفوة زوجة لا تنجح دائما فى إخفاء تأففها، هذا الرجل كيف وجد الوقت لخوض دراما ما بعد الصحافة التقليدية؟
يوثق الكتاب العلاقة المتوترة لترامب بالصحفيين، وتصوره للصحافة، وربما رفضه لها، باعتبارها "البذرة الشيطانية الفاسدة"، ولا أظنه سمع وصف محمد بديع مرشد الإخوان المسلمين للصحفيين، فى مارس 2013، بأنهم "سحَرة فرعون"، والفرق بين الرجلين أن ترامب محكوم بقواعد وقوانين ومؤسسات راسخة تحمى الصحافة، وتضع كوابح أمام رئيس لا يملك سلطة استبعاد صحفى من تغطية أنشطة البيت الأبيض، وغاية ما يستطيعه أن يغرّد، فيثير الغبار، وفى أكثر من موضع من الكتاب، يذكر المؤلف قول المراسل السابق لصحيفة نيويورك تايمز راسل بيكر: "لا يوجد صحافيون يغطون البيت الأبيض، بل يوجد صحافيون يغطيهم البيت الأبيض"؛ لانقلاب المفاهيم، واعتبار الرئيس أن "الإعلام عدو الشعب".
ولا يتوقف الكتاب، بمقالاته التى لاحقت عواصف ترامب، أمام سؤال: عن أى شعب كان ترامب يتحدث؟ ولا ينسى المؤلف أنه أمام رجل قادم من عالم البيزنس، ولم تتوفر له تربية سياسية طبيعية تؤهله لاعتلاء منصب اندفع إليه فى سياق تصاعد الشعبوية، حتى أنه أعاد استخدام مصطلح ممهور باسمه، باعتباره "رجل الشتائم الأول فى أميركا"، وهذه الصفات تجعل ترامب كائنا دراميا بامتياز، وفى هذه الدراما لا تعرف أين تنتهى السياسة؟ وأين تبدأ الصحافة؟ فالرجل "حطم الرقم القياسى فى مفاجأة فوزه"، ولم يقل المؤلف إنه فى خسارته أمام بايدن أحرز رقما قياسيا، بوجود 72.6 مليون أمريكى يؤمنون بالترامبية.
كان ترامب، كما يصفه المؤلف، "قوة إعلامية قد تفوق قوته السياسية"، وهى معادلة مشروطة بظرفها الخاص، خلال فترة حكم ترامب، فالقوة الإعلامية ليست ذاتية الدفْع، ولا تنبع من مواهب استثنائية اكتشفها فجأة، وإنما اكتسبها من منصبه السياسى، فعلى المنصة الرفيعة التى ارتقاها، يوجد ميكروفون يصغى العالم إلى من يمسكه، وإليه تتوجه الكاميرات، وما فعله ترامب أنه استبدل بهذا كله منصة تويتر، وأمطر خصومه ومريديه تغريدات تحمل أخبارا ووعودا وانفعالات، وأحيانا سبابا لو ضايقته سخريات روبرت دى نيرو أو ميريل ستريب. وأغناه تويتر عن المتحدث الرسمى والسكرتير الصحفي، ورافقه أينما يذهب، وفى زيارته لبريطانيا زاد إقبال المشاهدين على متابعة دراما ترامب.
يعى المؤلف أن ترامب سطر عابر فى التاريخ الإنسانى، وعلى أحسن تقدير سيكون صفحة فى كتاب التاريخ الأمريكى؛ فلا يكتفى بتتبع دراما الرئيس الصحفية، وإنما يحيل القارئ إلى أعمال مستقرة فى الذاكرة الجمعية البشرية، منها رواية جورج أوريل "1984"، فيقارن بين أجوائها الكابوسية وعصر ما بعد الحقيقة، "عصر ترامب بامتياز"، ويتساءل عما خشيه أورويل، وهو ينذر بموت الحقيقة، أمام طغيان الاستبداد، والعجز عن مواجهته، وعن "1984" يسجل كرم نعمة أن روائيين ونقادا مرموقين "مثل ميلان كونديرا وهارولد بلوم، وصفوها بالرواية السيئة، معتبرين متنها مجرد نثر لرسم مؤامرة وفكر سياسى متنكر، لكنهم لم يتمكنوا من اكتساب أهميتها فى كل ما نشروه".
ومن دون أن يقولها كرم نعمة صراحة، فإن الصحافة لا تزال تمثل قوة فى مواجهة السلطة، ويكفى الاستشهاد بأداء الصحف الأمريكية، فى 16 أغسطس 2018، "عندما توحدت غالبية الصحف فى كتابة مقال افتتاحى رافض لمبدأ العداء الذى وضعه الرئيس الأميركى مع وسائل الإعلام، لكن المهم بالنسبة إلينا الدرس السياسى الذى قدمته الصحافة الأميركية للعالم فى ذلك اليوم. المقالات الافتتاحية المنسقة المنشورة يوم السادس عشر من أغسطس فى أكثر من مئتى صحيفة هى مثال معبر"، وفى مقابل قوة الصحافة المحمية بقوة القانون، تعجز الصحافة فى العالم العربى عن الدفاع عن مصداقيتها المهدورة، لارتهانها بأمر "السلطات ورؤوس الأموال وأخيرا مصالح رجال الدين".
ولكن ترامب أبى المغادرة إلا بإعادة الاعتبار إلى وسائل الإعلام التقليدية، بعد أن قام بشيطنتها، يقول المؤلف: "إذا كان التاريخ سيكتب يوما ما بأننا عشنا العصر الأكثر أورويلية، لأن الحرب على الحقيقة بلغت ذروتها، فإن التاريخ نفسه وهو يفكر فى وسائل التواصل االجتماعى بكونها الوسائط المعادية لطبيعة المجتمع السوية. سيذكر أيضا أن انتخابات الرئاسة الأميركية 2020 قد أعادت الأهمية إلى وسائل الإعلام التقليدية... تعاملت وسائل الإعلام بحذر شديد مع فكرة الحسم والفائز فى مشهد انتخابى سام، معيدة الثقة لصناعة الأفكار وتحليل المعلومات التى تفتقر إليها وسائل التواصل االجتماعي»، إذ فشل الفيسبوك وتويتر، وأثبتت الانتخابات تراجع هذه المنصات خطوة إلى الوراء.