حين تأكد خبر وفاة الفنان نور الشريف، فى 11 أغسطس، مثل هذا اليوم، 2015، عم الحزن على فنان عاش للفن كرسالة، وعلى إنسان «كان قادرا على أن يتخلص من نرجسية الفنان، ولا تقيده النجومية بكل ما تحمله هذه الكلمة من ظلال سلبية»، حسبما يذكر الكاتب والناقد الفنى طارق الشناوى، فى مقاله «نور الشريف.. الإبداع حتى آخر رحلته السينمائية» المنشور بجريدة «الشرق الأوسط، لندن، 14 أغسطس 2017».
ولد باسم «محمد جابر» فى حى الخليفة بمنطقة السيدة زينب عام 1946، وتوفى والده وتركه طفلا لا يتجاوز عمره عاما واحدا، وتولى عمه تربيته، ولعب عامين لناشئى الزمالك لكرة القدم، لكنه هجر النجومية المنتظرة فى الكرة إلى النجومية الباقية فى الفن الذى يعشقه..تخرج فى المعهد العالى للفنون المسرحية عام 1967، وكان الأول على دفعته، وأصبح اسمه «نور الشريف» حسبما يذكر الكاتب والناقد الفنى ماهر زهدى، فى حلقاته «نور الشريف، الفيلسوف العاشق، يونيو 2107، جريدة الجريدة الكويتية».
بدأ رحلته السينمائية فى ستينيات القرن الماضى.. يؤكد «الشناوى»، أنها بدأت بترشيح من الفنان عادل إمام للمخرج حسن الإمام عندما كان يبحث عن وجه جديد يلعب دور كمال عبدالجواد فى فيلم «قصر الشوق»، ولما سأل عادل عن طلبه، قال له إنه شاهد ممثلا جديدا على المسرح فى المعهد وهو موهوب، وبالفعل أسند له «الإمام» الدور الذى انطلق بعده ليحصد الأفلام ويقتنص الجوائز.
ظل «نور» يحمل لدور كمال عبدالجواد فى «قصر الشوق» حنينا خاصا، فمع أنه كان بداياته السينمائية، إلا أنه توحد مع الشخصية بعمقها النفسى المتردد، والشكلى كمفتاح لتوقع وفهم هذا التردد، وذكر هو فى أكثر من حوار أنه توقع أن يحصل على جائزة عن هذا الدور، وحزن لأن أمله لم يتحقق.. هناك الكثير من أدواره مشابهة لحالة «كمال عبدالجواد»، فى مقدمتها دوره فى مسلسل «أديب» قصة عميد الأدب العربى طه حسين، وقدمها للتليفزيون المصرى عام 1982، من إخراج «يحى العلمى».
كان نور متوهجا، متألقا، فى «أديب» من خلال دور «إبراهيم عبدالله»، الطالب الذى ذهب مبعوثا إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه، لكنه طرح على نفسه سؤالا: «أيهما أحق أن يُغتفَر.. الظلم أم الكذب؟»، وذلك بسبب ظلمه لزوجته «حميدة» التى لعبت دورها الفنانة المعتزلة «نورا»، حيث قام بتطليقها دون عملها تنفيذا لشروط البعثة، ورغم إخلاص «حميدة» فى حبها له، إلا أنه انتصر لطموحه الذاتى على حساب هذا الحب، فطرح على نفسه سؤالا «الظلم والكذب»، حتى مات به فى فرنسا دون أن يعثر على إجابة عنه ودون أن يحصل على الدكتوراه.
أدى نور دور إبراهيم عبدالله، الدميم شكلا، والعبقرى عقلا، والقلق نفسا، والمتوهج بالأسئلة الوجودية التى ليس لها جواب.. ذاب فى الشخصية، فبدا كما لو أنه فى الحقيقة هذا العبقرى، القلق، الدميم، وأتذكر اعترافه بأنه ظل لمدة تزيد على الشهر بعد انتهاء المسلسل، يمشى بنفس الانحناءة التى كان إبراهيم عبدالله يمشى بها، وكانت عيبا خلقيا فيه.
هو الصدق فى الأداء الذى كان أقصر طرق نور للوصول إلى قلب الناس، لكن ميزته أنه كان الصدق المسلح بالمعرفة، فلم يعتمد على موهبة فطرية ولدت وكبرت معه، وإنما كان موهوبا فى إدارة ما لديه.. سمعته أكثر من مرة يتحدث عن عباقرة فى فن التمثيل، لم يعملوا حسابا للآثار التى تتركها السنون عليهم، ففشلوا فى حفر مجرى جديد لهم، وظلت صورتهم لدى الجمهور محجوزة على مرحلة معينة لا تغادرها.
تعامل نور مع هذه المسألة بوعى، فأضاف إليها بثقافته العظيمة، وإدراكه أن التنوع فى الأداء يضيف رصيدا يحفظه التاريخ بمحبة وافرة، ولهذا كان فى «أديب» غيره فى «الرحايا» وغيره فى «لن أعيش فى جلباب أبى» و«عائلة الحج متولى» و«عمر بن عبدالعزيز» الذى يؤكد أنه أحب الأدوار لقلبه، وغيره فى «هارون الرشيد» و«عمرو بن العاص».
وكان كمال عبدالجواد فى «قصر الشوق» غير حسن «فى سواق الأتوبيس»، غير «زمن حاتم زهران»، غير «الزمار»، غير «كتيبة إعدام»، غير «ناجى العلى»، غير «قلب الليل»، غير «العار»، غير «البحث عن سيد مرزوق»، غير «الإخوة الأعداء»، غير «أهل القمة»، غير كل أدواره مع «يوسف شاهين».
عشرات الأدوار الأخرى قدمها نور، وتشهد أننا كنا أمام فنان من العيار الثقيل، يشغله التفرد ويجتهد للوصول إليه، يتحدث عن نفسه بتواضع شديد، وعن غيره بمحبة ونبل، إنسان مثقف ثقافة رفيعة جعلته حاضرا أمام نفسه فى دقة اختياراته، وحاضر فى كل قضايا وطنه بانتمائه الناصرى الذى ظل يفتخر به طوال حياته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة