أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين

قداس الميلاد.. أكبر من زيارة وأعمق من تهنئة

الجمعة، 07 يناير 2022 05:30 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشهدٌ بات مُعتادًا من فرط تكراره، ورسائل مُتجدِّدة لكنها تحمل موقفا راسخا وتتأسَّس على رؤية ثابتة. كان ذلك عنوانا موجزا لزيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى لكاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية الجديدة، مساء الخميس، مُشاركًا مئات الحضور داخل القاعة الفسيحة - وملايين غيرهم فى كل الكنائس على امتداد مصر - بهجة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، فى بلد يُحبّهم ويُحبّونه، ويعرف قدرهم جيدا، ويجتهد لئلا يفتئت أحدٌ على حقوقهم فى هذا التراب. حقوق تمتدّ فى التاريخ والجغرافيا، ويحفظها الواقع ويُدلِّل عليها بما تُؤكّده الوقائع ويُرسَّم معالمه الدستور والقانون ومقتضيات المواطنة السليمة، من دون حَرْفٍ أو عوار أو تطفيف فى المكيال.
 
تسعُ زيارات رئاسية لرأس الكنيسة وشعبها خلال أقل من ثمانى سنوات. يُمكن اعتبارها عشرًا بالنظر إلى مُشاركة العام الماضى عبر "الفيديو كونفرانس"، التى لولا قيود جائحة كورونا لكانت زيارة واقعية لا افتراضية. تولى الرئيس السلطة منتصف 2014 بعد قرابة ستة أشهر على عيد الميلاد، لكنه لم يُفوّت أول فرصة مطلع 2015؛ ليفاجئ البابا تواضروس والمُحتفلين فى الكاتدرائية القديمة بالعباسية. كان أول رئيس يشارك الأقباط احتفالهم، ومنذ ذلك التاريخ باتت الزيارة طقسا سنويا، وإيذانا برؤية جديدة تُعزِّزها إجراءات تنفيذية وتشريعية مُغايرة. ثمانية أعياد، فضلا عن زيارتى عزاء فى شهداء الإرهاب فى ليبيا وكنيستى مارجرجس بطنطا والمرقسية بالإسكندرية، فبراير 2015 وأبريل 2017 على الترتيب، بواقع خمس مُشاركات بالعباسية وخمسٍ بالكاتدرائية الجديدة. آخرها قبل ساعات فى قداس الميلاد، بما حملته من حضور دالٍ ورسائل بالغة البساطة والقوة والوضوح.
 
ظاهر الأمر، انفتاح وجدانى ومُشاركة اجتماعية عنوانها اللطف؛ لكن جوهره أعمق فى دلالاته. لا يتّصل المشهد المُتكرّر بموقفٍ مُغايرٍ اعتمده الرئيس عنوانا لجانب من نشاطه فى المجال العام، ولا بسماحة شخصية يحملها تجاه فكرة الاعتقاد على تنوُّعها فقط؛ إنما يُمثِّل تحوُّلاً حقيقيا فى رؤية الدولة. تكتسب الحالة رمزيتها من قيمة الشخص وسوابق مواقفه، وتُشير إلى مواجهة صُلبة وحاسمة لميراث من التجهيل والتعكير المُتعمَّد للنهر. يبدو السياق كأن الدولة - وفق فلسفة الجمهورية الجديدة - تُبرهن عمليًّا على أنها تُخاصم ما فُرض على المجتمع طويلا، تحت لافتات الاختزال السياسى للأقباط أو التطرف الدينى من بعض الأصوليين المسلمين. باتت مصر أكثر اعتدالا وسماحة، ليس لأنها فى ولاية إدارة سمحة فقط، ولكن لأن عقلها تخلَّص من أدران الماضى، وقلبها غسلته المواقف الكاشفة، ولأن لها حقًّا على كل أبنائها أن يكونوا عونا وسندا، ولهم عليها كل الحق ألا تُميِّز أو تُفرِّق بينهم.
 
مشهد قدّاس الميلاد، بما يشمله من حضور للمسلمين بين المهنئين والمحتفلين، ووجود رأس الدولة فى بُؤرة الصورة مُحتفيا وداعما، امتدادٌ لخط المُعالجة المُبكّرة لرواسب الاحتقان القديم، وقطع الطريق على فرص استمراره ومحاولات توظيفه ضد المجتمع ومكوّناته. تلك الصيغة التى بدأت بانفتاح واضحٍ قبل تسع سنوات، افتتحه موقف البابا الصلب فى 30 يونيو، من دون مُواربة أو مُناورة أو ارتدادٍ لاحق كما فعل بعض الساعين إلى غايات شخصية، ثمّ زيارات الودّ والتهنئة والعزاء من الرئيس، وإعادة صياغة المنظومة القانونية بما يسمح بوصول الأقباط إلى حقوقهم الطبيعية فى بناء وتطوير وزيادة أعداد دور العبادة، وفى إعلاء طقوسهم وشعائرهم داخل حاضنة اجتماعية سويَّة، ثم الخروج إلى المجال العام، مُشاركين وفاعلين، بكامل حقوق المواطنة وفُرص النفاذ إلى دولاب الدولة والوظائف الكبرى ومواقع المسؤولية على تنوُّعها.
 
 
حتى سنوات قليلة مضت، كانت لدينا جماعات ومنصّات إعلامية - مشبوهة المنشأ والمورد - تُروِّج خطابات مُنفِّرة، تنتحل أقنعة المحبّة وفى باطنها تلالٌ من الكراهية. من هذا القبيل ما كان يُشاع من تصوُّرات فقهية تخصُّ أصحابها وعصورهم أكثر مما تخصّنا وتتّصل بواقعنا، عن حُرمة بناء الكنائس واستحداثها فى بلاد الإسلام، وأن قديمها لا يُرمَّم أو يُجدَّد حتى يتداعى، وغير ذلك من فرزٍ وتقسيم تحت لافتة الولاية وتنظيم المجال العام. الدولة المصرية الآن تُعيد ترسيم الحدود، وتمنح أبناءها جميعا كامل حقوقهم على قدم المساواة، لأن فلسفة الدول الحديثة لا تعرف الفرز بالعقيدة، ولا تُفرِّق بين المواطنين على أرضية الدين والمذهب. هكذا لا يبدو مشهد القداس موقفا عابرا. الأمر أكبر من زيارة وأعمق من تهنئة؛ لأنه يُبرهن على أن خطابات الكراهية لم تعد مقبولة، ليس بالحضور الشكلى وإنما بالدليل العملى، مع كل كنيسة أو بيت خدمة يُكرَّس أو تُقنَّن أوضاعه، ومع كل قبطى ينال حقَّه بالجدارة فى مُؤسَّسة تنفيذية أو نيابية أو موقع فعل ومسؤولية.
 
 
عشنا عقودا طويلة فى أسر الخط الهمايونى لبناء الكنائس، الذى فرضته الدولة العثمانية فى ولاية السلطان عبد المجيد الأول. كان المُعلن عنه أوَّل الأمر أنه مُحاولة للإصلاح والمساواة، وردٌّ لجميل الغرب المسيحى بعد مساندة قوية للباب العالى، لكن الحقيقة أنه كان تقنينا للتقييد، ورهن بناء الكنائس وترميمها لمراسيم مُباشرة من السلطان نفسه، وحتى مع محاولة تحسين الأمر بقائمة من عشرة شروط، عُرفت باسم "شروط القربى باشا" بالعام 1934، ظل الأمر مُعجزا للأقباط، إلى حدِّ نُدرة الكنائس الجديدة وبطء وتعطُّل الترميمات. لا مُغالاة لو قلنا إن تلك الصورة لم تعتدل فعلا إلا فى السنوات الأخيرة، مع صدور قانون بناء وترميم الكنائس رقم 80 لسنة 2016. مُنذ ذلك التاريخ قُنِّنت أوضاع مئات الكنائس، وبُنيت عشرات غيرها على امتداد مصر، لعلّ أبرزها كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية، لتكون مواجهة بشكل مباشر لمسجد الفتاح العليم، بعدما ظلّت تلك المُجاورة القريبة من المحظورات طوال قرون.
 
فى حديثه على هامش قدّاس الميلاد مساء أمس، قال الرئيس عبد الفتاح السيسى إن الجمهورية الجديدة التى يبنيها المصريون دولة قادرة لا غاشمة، ومُسالمة لا مُستسلمة، وتَسعُ الجميع من دون تفرقة أو تمييز. بعيدا من الدلالات الخارجية المُتّصلة بالجغرافيا والمصالح الوطنية ومُحدّدات الأمن القومى، فإن الأمر لا يخلو من مَعانٍ داخلية. انعدام الغشومة يبدأ من منح الحقوق، والقدرة عنوانها بسط ولاية الدولة على فضائها، وتحجيم خطابات الكراهية وكل ما يمكن أن يمسّ الاستقرار ويُهدِّد السِّلم. الاستسلام المرفوض أن نسمح لكارهى الحياة والأوطان ببثّ سمومهم فى شرايين المجتمع، والمسالمة المقبولة أن يتعايش الجميع جنبا إلى جنب من دون انسحاق أو افتئات. كل مصرى يملك من هذا البلد قدر أخيه، ما داموا جميعا تحت مظلَّة الدولة ولم يتعدَّوا ضوابطها وأُطرها القانونية. هكذا تكون الدولة العادلة الحازمة، وبهذا تُبنى الجمهورية الجديدة.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة