أصيب الخديو توفيق بنزلة برد استمرت ثمانية أيام، فلزم قصره فى حلوان، حسبما تذكر جريدة «الأهرام» يوم 9 يناير 1892.. تضيف الأهرام: «كان يعالجه كل من صاحب السعادة سالم باشا سالم، وعيسى باشا حمدى، فقررا أن المرض المصاب به سموه إنما من نوع النزلة الوافدة إلا أنه قد تعاظم المصاب، والتهبت منه الرئتان وتعذر إيجاد العلاج الشافى، فاستدعى لمعاونة حضرة طبيبه الخصوصيين المشار إليهما نخبة من أطباء العاصمة، ولكن عاجلته المنية فى الساعة السابعة والدقيقة 17 من مساء الخميس 7 يناير 1892».
تذكر «الأهرام»: «اتصل هذا الخبر المفتت الأكباد بسكان العاصمة ليلا فأقفلت التياترات والمحلات العمومية، وقضوا ليلتهم فى كدر وأسف، ولما كانت الساعة السابعة صباح 8 يناير، مثل هذا اليوم، 1892 احتشدوا جميعا فى رحبة سراى عابدين، وفى شوارع المدينة حتى إذا كانت الساعة الثانية عشرة وربع حمل فقيد مصر وسيدها على نعش مجلل بالشالات الثمينة والحلى الفاخرة والنياشين من الرتب العالية من قصره فى حلوان إلى غرفة خصوصية فى قطار خصوصى بصحبة سمو البرنس حسين شقيقه، وبعض رجال المعية وكبراء القوم وسار بهم القطار حتى بلغ محطة باب اللوق فى الساعة 12 والدقيقة 50».
سار النعش من محطة قطار باب اللوق إلى سراى عابدين، ويذكر أحمد شفيق باشا رئيس ديوان الخديو عباس الثانى فى مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن»: «ضم موكب جنازته النظار وممثلى الدول والعلماء والأمراء والرؤساء الروحانيين وكثيرا من وفود الأقاليم والجموع الكثيرة من الشعب وجماعة الماسونيين لأن المتوفى كان ماسونيا».
تستفيض «الأهرام» فى الحديث عما أسمته «أحزان المصريين» على الفقيد وتتجاهل أنه هو الذى استدعى الإنجليز لاحتلال لمصر، ويذهب «شفيق باشا» نفس ما ذهبت إليه الأهرام، قائلا إن موت توفيق البالغ من العمر 40 عاما أدى إلى «الحزن العميق بين الطبقات» و«لبست البلاد كلها ثوب الحداد وحزن الشعب كله على أمير كان يحبه»، ويتحدث عنه بوصفه حاكما «وطنيا عادلا»، غير أن «أحمد عرابى» يعتبره فى مذكراته خائنا، ويقول الكاتب المفكر والمؤرخ محمد عودة فى كتابه «ليبراليون وشموليون وقصة الديمقراطية والحزبية فى مصر»: «لم يبال أحد بنهاية حكمه ولم يذرف أحد من أسرته أو من شعبه دمعة حزن عليه».. يضيف عودة أن والده «إسماعيل» الذى كان يعيش فى اسطنبول بتركيا بعد عزله، تلقى خبر وفاته ببرود وصمت، فهو الذى قال عنه: «أمير يحمل نفسية العبد ويفتقر إلى العقل والقلب والشجاعة، وكان يتآمر مع القناصل ضدى، رغم أننى امتهنت نفسى وركعت تحت أقدام السلطان» العثمانى وملأت جيوبه بالذهب لكى أغير قانون الوراثة حتى يصبح خديو من بعدى».
يستشهد «عودة» بآراء الصحف البريطانية فيه ومنها صحيفة «فارايتى» التى قالت: «كان كائنا أليفا لطيفا محدود المواهب دائم الشك فى كل شىء وكل أحد ويفتقد الثقة فى نفسه، وكل ما كان يعرفه وما يقتنع به عن يقين أنه لا بقاء له على العرش الذى يجلس عليه إلا فى حماية بريطانيا».. وكتبت «المانشستر جارديان»: «يكفى أن يطوف الزائر بمصر أسبوعا واحدا متجولا فى أرجائها، لكى يدرك أن أبغض شخصية إلى الأهالى وأحقرها هو الخديو، وهناك إجماع على ذلك من كل الفئات والطبقات، وأقرب شخصية إليه هى مشعوذة يبدأ يومه بالاستماع إلى تنبؤاتها، وذلك قبل أن يتلقى تقارير الجواسيس الذين يستقبلهم كل صباح، وليس للخديو من يعتمد عليه فى مصر سوى بريطانيا»، وقالت صحيفة «الكرونيكل»: «لم يكن أكثر من دمية مطيعة فى يد بريطانيا، استمر بوسيلة وحيدة فقط هى قدرته الخارقة على الدس والتآمر».. وكتب المستر «بيمان» من كبار موظفى الوكالة البريطانية فى مصر قائلا فى رثائه: «لا يكره المصريون أحدا ويمقتون ويحقدون عليه مثل توفيق، بل إنهم أكثر كراهية له من كراهيتهم لنا، لأنه هو الذى جاء بالاحتلال وخان شعبه وبلاده».
يذكر «عودة»، أن توفيق هو الابن الأكبر للخديو إسماعيل، وأمه الجارية لوالده «نور هانم شفق»، ولم يعترف بها زوجة شرعية إلا قرب الاحتفال بافتتاح قناة السويس، فبسطت سلطتها على القصر بالتآمر، وهى التى أوحت لابنها بأن يمنع كل أخواته غير الأشقاء حسين وحسن وإبراهيم من العودة إلى مصر، وتحقق حلم «الأم» بأن يكون ولدها خديو، وكان ذلك بالنسبة لها ردا على سنوات ظلت فيها مجرد «جارية» لوالده، وفى 24 يونيو عام 1879 كانت أسعد الناس بخلع «إسماعيل» من الحكم وتولى ابنها توفيق بدلا منه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة