لا أرى خطراً على الاقتصاد، ومعدلات النمو، ومستقبل الاستثمار أكثر من الأجواء السلبية التي يشيعها البعض، والحديث المتصل عن الغلاء والأسعار، حتى بات سمة وعلامة في كل مجلس، بداية من المقاهي والكافيهات والأندية، حتى السوشيال ميديا بكل أدواتها ووسائلها، لدرجة صار معها الجميع يشتكي، المقتدرون قبل الفقراء، بل وأصحاب الملاءات المالية والأغنياء بالوراثة، وصولاً إلى طبقة الموظفين وأصحاب الدخول الثابتة، باعتبارهم الأكثر تأثراً بموجات التضخم الراهنة، لذلك صارت أحاديثهم المحمومة تشع إحباطاً واكتئابا وتثير قلقاً.
الأصل في حالة الإحباط التي يصدرها البعض هي أن أغلبنا لا يقبل الخسارة، فالمصريين لا يعرفون الخسارة، وقاموسهم دائماً لا يقبل سوى المكاسب، لا أحد يتنازل، لا أحد يحترم الأزمة، أو يتعظ منها، لا أحد يقدر الظروف، أو يتعلم من تجارب الشعوب، بل الكل يتشبث بنسبته من المكاسب ولا يتنازل عنها، وفي سبيل ذلك لا يجد حرجاً من اكتناز الدولار أو المتاجرة فيه، أو الإضرار بمصالح الناس، فالهدف الأول ألا ينال الخسارة، مهما كانت النتيجة، ومهما تضرر المجتمع، دون أن يعرف أن الخسارة والمكسب ليست أكثر من صورة معكوسة، فكل رابح أمامه خاسر، لذلك معادلاتنا دائماً مضطربة ولا تصل إلى النتيجة التي نتمنى.
كل دولة في العالم المتقدم تحترم عملتها الوطنية، و لا تقبل أبداً الإضرار بها على أي نحو، بينما المواطن في بلادنا يفكر كيف يكتنز وكيف يكسب ويتاجر بها، ثم كيف يجني ثمارها، حتى وإن كانت النتائج على الاقتصاد الكلي كارثية وخطرة، وتبعاتها على المجتمع قاسية ومهلكة، فالبعض للأسف بات يفكر في تحويل مدخراته إلى الدولار، والبعض الآخر يحولها إلى الذهب، وأصبح الجميع سماسرة، في بلد لا تبيع سلعة واحدة بالدولار أو أي عملة أجنبية أخرى، بل إن ملايين المصريين لا يعرفون شكل الدولار إلا من خلال الصور!
نتحدث عن الأزمة الخانقة والأسعار المرتفعة والحياة التي ضربها الغلاء، بينما ارتفع الطلب على المشغولات الذهبية، وفقاً لتقرير مجلس الذهب العالمي، بنسبة 8.4% خلال الربع الثالث من عام 2022، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، مسجلاً أعلى مستوى ربع سنوي منذ عام 2015، بنصيب 9 أطنان مقابل نحو 8.3 طن خلال نفس الفترة من عام 2021، فكيف نحافظ على قيمة العملة الوطنية، ونحن لا نفكر سوي في اكتناز الذهب، وهو في الأصل معدن مقوم بالدولار، وشرائه والتهافت عليه ليس أكثر من صورة لاكتناز الدولار.
البعض سيقول من حق كل مواطن أن يحافظ على مدخراته وقيمة أمواله أمام الهزات العنيفة التي لحقت بالجنيه خلال الفترة الماضية، وهذا صحيح جزئياً، لكن عليكم أن تضعوا في اعتباركم أنكم تنفقون بالجنيه، وتبيعون وتشترون به، فالغلاء واحد، وإن كنت تظن أنك تحافظ على أموالك، سيلتهمها شبح الغلاء في المستقبل القريب، بعدما أطعمته يومياً بالمضاربة على قيمة العملة الوطنية، وشراء الذهب، وأغلقت من أجله مشروعاتك واستثماراتك، مقابل قطع من المعدن الأصفر لن تدر عائد، ولن تخلق فرص عمل، بل تمتص سيولة السوق، وتسرع من وتيرة الركود والانكماش، الذي يعد السيناريو الأخطر والطرح الأصعب للفترة المقبلة.
الكل يشتكي، وفي الوقت ذاته يكتنز، فتصعد الأسعار وتستمر الشكوى، بل إن جميعنا يحفر في السفينة على طريقته الخاصة، وجميعنا أيضا لا يجيد السباحة ولا يعرف طريق الشاطئ، و لا أدري كيف أصبح من يمتلكون الفيلات والقصور يصدرون لنا الشكوى من غلاء المعيشة، ويكتبون المنشورات عن الجبن التي تضاعفت أسعارها، والمنتجات المستوردة التي لم تعد موجودة في السوبر ماركت والأسواق، ولا أعلم ماذا ترك هؤلاء للفقراء والأسر المستفيدة من البرنامج الحكومي تكافل وكرامة، الذين يقتاتون بدعم تمويني، و500 جنيه شهرياً .
حالة عدم الرضا التي تتملكنا وتنتشر في المجتمع أشد خطورة وتأثيراً من أي جائحة اقتصادية أو تراجع لمعدلات النمو، وهجرة الأموال الساخنة، وتأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية والأزمات المرتبطة بسلاسل الإمداد حول العالم، خاصة أننا في مجتمع يتفنن في عرض شكواه، وتصدير قلقه وإحباطه لكل من حوله، في حين أن الأزمات لن يحلها الصراخ أو البكاء وإشاعة اليأس، بل علينا أن نعمل ونجتهد ونتكافل فيما بيننا، دون الإسراف في الانشغال بثلاثية بالذهب والدولار والأسعار.
الحياة أقصر مما نتخيل، لذلك ليست فكرة جيدة أن تصيبنا النقمة على كل شيء، اجعلوا للخسائر هامشاً في حياتكم، ولا تتهيأوا لفرص غير مضمونة، ولا تنظروا إلى اليورو والدولار نظرة مجردة، لكن وظفوا الأمور وقيموا حجم الغلاء الذى ضرب العالم كله، فمازالت الأسعار معقولة ومقبولة مقارنة بالأسعار عالمياً، وإذا أردت التجربة فعليك الدخول إلى أحد مواقع التسوق العالمية، وحاول شراء أي سلعة، وقد أجريت تجربة بنفسي وحاولت شراء كرتونة "مياه معدنية"، بها 32 عبوة 600 مل تقريباً من أحد العلامات التجارية التي تتداول في مصر، لأجد سعرها 18 دولاراً، وهذا الرقم لو تم تحويله للعملة المصرية سيصبح 450 جنيهاً أي ما يعادل تقريباً 8 أضعاف الثمن لنفس السلعة في مصر.
"السعادة تنتقل بالعدوى.. لا تنتظر عدوى أحد، وكن حاملاً لهذا الميكروب"، أنيس منصور، الكاتب الصحفي والأديب الشهير، وهى نصيحة أغلى بكثير من الذهب والدولار، فبلدنا مازالت بخير، وسنعبر الأزمة رغم كل التحديات، وإلى كل من ينذروننا : كفاكم إحباطاً، وعليكم طرح أفكار ورؤى أكثر إيجابية، وتعاونوا مع الدولة بحلول ومبادرات، وشجعوا الناس على السعي والعمل.
علينا أن نتعلم دائماً أن كل الأمور على المكسب والخسارة، بل إن قبول الخسارة في الكثير من الأحيان قد يكون دافع نحو البحث عن المكسب، فلا تضيق النظرة وتأكد أن الأمور إلى انفراجه، وتاريخ الدنيا مملوء بمحن وأزمات عاتية، كان مسارها النهائي إلى انفراجة، فلا تدعهم يسرقون سعادتك، وفكر في إسعاد ذاتك أولاً قبل أن تتطوع بالتفكير لغيرك، ولا تستمع لأحد، بل أنصت لنفسك ودللها وعاونها على تجاوز الصعاب، واعلم دائماً أن المستقبل مرهون بيد الله، وكل ما علينا هو السعي والعمل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة