حالة من الانقسام والاستقطاب، تعانيها القارة العجوز في المرحلة الراهنة، تمثل في الأساس جوهر المأزق الذي تعانيه أوروبا، في ظل الأزمات المتتالية، وأبرزها الأزمة الأوكرانية، وما ترتبت عليها من تداعيات كبيرة، لم تقتصر في نطاقها على السياسة، وإنما امتدت إلى حياة الشعوب، في ظل ارتباطها بقطاعات ترتبط مباشرة بمفهوم الأمن القومي، على غرار الغذاء والطاقة، وهي الأزمات التي تبدو حديثة العهد، على المشهد القاري، في ظل الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها، سواء على المستوى الجمعي، في إطار الاتحاد الأوروبي، أو على المستوى الفردى للدول الأعضاء، وهو ما ساهم في حالة عامة من "الضجر" الشعبي، تجلت في إضرابات وتظاهرات، تراوحت بين الاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية، جراء موجات التضخم العاتية والارتفاع الكبير في الأسعار تارة، والسياسات الجمعية التي وصلت إلى حد المطالبة بالخروج من "أوروبا الموحدة" تارة أخرى، وهو ما يزيد تلك الحالة المنقسمة التي تهيمن على المشهد الأوروبي تعقيدا، إذا ما قورنت بمناطق أخرى في العالم.
الأزمة الحقيقية التي تواجهها أوروبا، في اللحظة الراهنة، تتجسد فيما يمكننا تسميته بـ"الانقسام المركب"، والذى يتجلى في ثلاثة أبعاد متوازية، أولها على النطاق الضيق، جراء الخلاف على سياسات الداخل التي تتبناها كل دولة، والتي يرى قطاع كبير من المجتمعات أنها فشلت في احتواء الأزمات سالفة الذكر، وهي مرتبطة بالأساس بالوضع اللحظي الراهن، بينما يحمل البعد الثاني نطاقا قاريا أوسع، حول الاتحاد الأوروبي وسياساته، تجاه العديد من القضايا الدولية المثارة، على غرار الموقف من روسيا، حيث أبدت عدة دول تحفظها على الإجراءات الجمعية ضد موسكو، في ظل الارتباط بها، فيما يتعلق بقضيتي الطاقة والغذاء، وما تحملاه من تبعات على مسألة الأسعار، وهو الأمر الذي يعود إلى عدة سنوات ماضية، مع زيادة تدفق اللاجئين، والمخاطر الأمنية والاقتصادية التي ترتبت عليها، في حين يثور الانقسام، في بعده الثالث، حول البقاء تحت مظلة "المعسكر الغربي"، والذي تترأسه الولايات المتحدة، في ضوء التحول في السياسات الأمريكية في السنوات الماضية، والتي شهدت تخليا ملموسا عن الحلفاء، مما ساهم في زيادة حدة الأزمات التي تعانيها، وعدم القدرة على حلها سواء فرديا أو أوروبيا.
ولعل حالة "الانقسام المركب"، الذي تعانيه أوروبا العجوز، ليست وليدة اللحظة، ولا يمكننا اعتبارها حالة جديدة، ترتبت على الأزمات التي تواترت في السنوات الماضية، وإنما تحمل في طياتها، صراعات طويلة المدى، منذ صراع الامبراطوريات الاستعمارية، وحتى وعندما اتخذت خطواتها نحو الوحدة، لم تكن على أسس "قارية" عادلة، حيث قامت "أوروبا الموحدة"، والتي خطت أول خطواتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية في الخمسينات من القرن الماضي، على أساس من الانقسام، بين أوروبا الشرقية الموالية للاتحاد السوفيتي، والغربية الخاضعة للهيمنة الأمريكية، في إطار عقود من الحرب الباردة، التي تآكل خلالها شرق القارة، بينما صعد غربها بفعل الدعم الأمريكي.
ومع نهاية الحرب الباردة، تحول الصراع داخل أوروبا من طبيعته الأيديولوجية (بين الرأسمالية والشيوعية)، إلى ما يشبه "الصراع الطبقي"، بين أغنياء القارة وفقرائها، رغم دمج العديد من دول أوروبا الشرقية للاتحاد الأوروبي، وهو ما أثمر، في نهاية المطاف، عن حالة من التمرد في "أوروبا الغربية" بسبب تدفق مواطني الشرق (الأكثر فقرا) إلى الغرب ليزاحموا المواطنين الأصليين في سوق العمل، في ظل سياسة الحدود المفتوحة، وكذلك ضجر القوى الرئيسية في القارة من تقديم الدعم لانتشال الدول ضعيفة الإمكانات من الأزمات التي ضربتها، على غرار الأزمة المالية العالمية، وهو ما يفسر في أحد جوانبه انفصال بريطانيا "بريكست"، وصعود تيارات اليمين المتشدد، التي تطالب بالعودة مجددا لاحترام الحدود الوطنية والخصوصية والهوية الثقافية التي تتمتع بها كل دولة.
وهنا يصبح المأزق الأوروبي الراهن، ليس أكثر من نتيجة، تبدو منطقية، لـ"إرث" من الصراع داخل القارة، ربما طغى على حالة الاتحاد نفسها، والتي تكشفت هشاشتها، مع تواتر الأزمات، وتراجع الدعم الأمريكي، رغم النظر إليه لعقود طويلة باعتباره نموذجا فريدا وغير مسبوق، حيث طغت فكرة مصالح "المعسكر"، على حساب "القارة"، بينما كانت الولايات المتحدة هي بوصلة الاتحاد الأوروبي، وليست أوروبا نفسها.
الحالة الأوروبية الراهنة تمثل فشلا ذريعا في التحرر من نهج "الجزر المنعزلة"، وإن كانت قد خرجت، من حيث التطبيق، من إطار الدولة الضيق، إلى نطاق أوسع في إطار "أوروبا الموحدة"، والتي ساهمت بدورها في تضييق الخناق على دول أخرى بالقارة ومحاصرتها وتصدير الأزمات لها، لصالح القوى المهيمنة التي تدين لها بالولاء وهي الولايات المتحدة، على اعتبار أن تلك الأزمات لن تؤثر عليها.
إلا أن المعطيات تغيرت، والقيادة الأمريكية اتخذت منحى مغايرا، والأزمات باتت ممتدة، وهو ما يعني أن الحاجة باتت ملحة لتغيير ملموس، على مستوى التعامل القاري مع المستجدات الإقليمية، في اللحظة الراهنة، ليس فقط من خلال "لملمة" الاتحاد الأوروبي في صورته الحالية، وإنما عبر تبني مقاربات مختلفة في التعامل مع القوى الرئيسة في القارة، وعلى رأسها روسيا، وكذلك الأزمات التي تشهدها، على غرار الأزمة الأوكرانية، حتى يمكنها الوصول إلى حلول، والعودة مجددا للتأثير في المحيط العالمي.
المقاربة الجديدة، ربما تلامس معها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عبر دعوته في مايو الماضي، لتدشين منظمة أوروبية جديدة، تندمج فيها أوكرانيا الساعية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي دون جدوى، وبريطانيا التي تعاني من توتر العلاقات مع دول الجوار منذ "بريكست"، وهو ما يمثل طرحا منطقيا يقدم حلولا لحالة التفكك الأوروبي الراهن، ولكنها في الوقت نفسه تحمل أبعادا أوسع نطاقا، أهمها تدشين رؤى جديدة، وأكثر مرونة، في التعامل مع المحيط القارى برمته، سواء من حيث قضاياه أو أزماته، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع روسيا، وهو ما يبدو في حديثه الأخير حول التفكير في تقديم ضمانات أمنية لها عند التفاوض معها، وهو ما يمثل خروجا ضمنيا من الأفكار النمطية التي طالما تبنتها "أوروبا الموحدة"، ومن قبلها الناتو.
وهنا يمكننا القول بأن السبيل الأنجع أمام أوروبا لإنهاء حالة "الانقسام المركب"، التي تعانيها في المرحلة الراهنة يتجسد في تجاوز الإرث الصراعي داخل القارة، والعمل بشكل مستقل ومحايد، لتحقيق المصالح المشتركة، لدولها، سواء في الشرق أو الغرب، لتجاوز الأزمات الراهنة، في ظل حاجة الدول لبعضها، بعيدا عن سياسات التنظير والعقوبات التي اعتمدتها لعقود طويلة تجاه الدول المارقة.