بيشوى رمزى

"الوقائية" و"بناء الاستقرار".. رؤية مصرية لتجاوز الأزمة الأوكرانية

الأربعاء، 16 مارس 2022 12:48 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ربما لم يكن احتداد الأزمة الأوكرانية إلى الحد الذى وصلت إليه اليوم، متوقعا من قبل قطاع كبير من المتابعين للمشهد الدولي، في ظل العديد من المعطيات أبرزها، تواري مفهوم استخدام القوة العسكرية المباشرة في السنوات الماضية، إلى الحد الذي دفع الولايات المتحدة، باعتبارها القوى الدولية الأكبر في العالم إلى التحرك نحو الانسحاب من العديد من المواقع التي تواجدت فيها عسكريا، سواء في أفغانستان أو العراق، بل والتخطيط لتخفيف وجودها من دول الحلفاء الرئيسيين، سواء في أوروبا الغربية أو آسيا، مع وجود العديد من البدائل، ومنها الحرب بالوكالة، وإثارة الاضطرابات والفوضى داخل دول الخصوم، ناهيك عن ظهور مفاهيم جديدة ارتبطت بالسيطرة الدولية، على غرار المساعدات والأبعاد الإغاثية، بالإضافة إلى الهجمات الإلكترونية، والتي من شأنها الهيمنة على مؤسسات الدولة، عبر قرصنة مواقعها.

ولعل غياب التوقعات باحتدام الأزمة إلى الحد الذى وصلت إليه، يمثل تراجعا كبيرا في الأداء الدولي برمته، وخاصة آلية ما يسمى بـ"الدبلوماسية الوقائية"، وهى المفهوم الذى أرساه الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، داج همرشولد، ثم سعى إلى تطويره الدبلوماسي المصري القدير الدكتور بطرس غالي، عندما تولى المنصب في التسعينات من القرن الماضي، حيث يقوم على التنبؤ بالصراعات الدولية، ومن ثم العمل على احتوائها قبل أن تندلع، وهو الأمر الذي يتطلب تعاون كافة أطراف المجتمع الدولي، عبر التفاوض البناء، إلا أن التزامن بين حقبة غالي على رأس المنظمة الدولية، ورؤيته، ربما لم تتوافق مع "الهوى" العالمي في تلك الفترة، إثر تزامنها مع التغيير الكبير في النظام الدولي، جراء التحول من الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي، والتوجه نحو نظام الهيمنة الأمريكية المطلقة، وبالتالي فاعتمد النظام الدولي نهجا قائما على الدوران في الفلك الأمريكي عبر فرض كلمة واشنطن بالقوة، التي تصل إلى حد التدخل العسكري إذا ما اختلفت الرؤى، وهو ما يتعارض كليا مع الدبلوماسية في مفهومها القائم على فكرة التفاوض، في حين يبقى "بناء السلام"، مرحلة لاحقة، حال وقوع الصراع فعلا.

ولكن بعيدا عن البعد الدبلوماسي لمفهوم "الوقائية"، يبدو أن ثمة أبعاد جديدة، خلقتها الأزمة الأوكرانية، ترتبط في معظمها بتداعياتها على الداخل، بعيدا عن المفهوم الدولي بصورته الجمعية، عبر التنبؤ بالأزمة قبل وقوعها لاتخاذ الاجراءات "الوقائية"، على المستوى الداخلى، ومن ثم التحول نحو ما يمكننا تسميته بـ"بناء الاستقرار"، في مرحلة ما بعد اندلاع الأزمة، حيث تبقى المرحلة الثانية بمثابة نتيجة لاحقة للسياسات "الوقائية" التي اتخذتها الدولة في البداية، والتي سبقت وقوع الأزمة فعليا.

ويعد التعامل المصري مع الأزمة الأوكرانية بمثابة ترجمة فعلية وحقيقية لمفهومى "الوقائية" ثم "بناء الاستقرار" في مرحلتى ما بعد الأزمة وما قبلها، على مستوى الداخل، عبر التنبؤ المسبق بها، وهو ما تجلى في خطوات متسارعة ارتكزت على احتواء تداعياتها قبل اندلاعها، من خلال، على سبيل المثال، الشروع في بناء صوامع القمح، والعمل على زيادة المساحات المزروعة منه خلال السنوات الماضية، وهو ما يمثل انعكاسا لرؤية متميزة وقراءة مبكرة للواقع الدولي، تمثل انعكاسا صريحا لحقيقة مفادها استعداد الدولة المصرية لـ"أزمة بعينها"، إذا ما وضعنا في الاعتبار ارتباط التطورات الأخيرة بواردات القمح التي تعتمد فيها مصر وغيرها من الدول حول العالم على الدولتين طرفي النزاع للحصول على احتياجاتهم من هذه السلعة الاستراتيجية.

وفى الحقيقة فإن عملية "بناء الاستقرار" لا يمكن أن تكون مجرد "رد فعل" يبدأ بعد اندلاع الأزمة، وإنما تنطلق قبل اندلاعها من الأصل، وبفترة مناسبة، عبر سياسات "وقائية"، تتسم بطول مدتها نسبيا، ناهيك عن أنها جزءً لا يتجزا من العملية التنموية بصورتها الكلية، وبالتالي فإن عبقرية القيادة المصرية في التعامل مع الأزمة الحالية، يتجسد في قدرتها على استباق الأحداث، والتنبؤ بها، وهو ما يمثل ركنا رئيسيا في إدارتها، وهو ما ينطبق كذلك على العديد من المشاهد الدولية الأخرى، ربما أبرزها دعوة القيادة المصرية، في أكثر من مناسبة إلى إصلاح بعض المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، في إطار إرهاصات تجلت بوضوح حول عجز محتمل في التعامل مع الأزمات الدولية، وهو الأمر الذى بدا في الأزمة الأوكرانية.

وهنا يمكننا القول بأن الأزمة الأوكرانية تبقى دليلا جديدا حول نجاح كبير للإدارة المصرية ليس فقط في التعامل مع الأزمة، وإنما في قيادة عملية متواصلة من "بناء الاستقرار"، تهدف في المقام الأول إلى مجابهة ما يطرأ على المشهد الدولي من مخاطر، ربما تترك تداعيات على حياة المواطن، من جانب، ناهيك عن العمل على عليها في مسار متصل مع المساعى الرئيسية التى وضعتها "الجمهورية الجديدة" على عاتقها لتحقيق التنمية، بأبعادها المستدامة والشاملة، لتخلق حالة من التكامل بين الأهداف الاقتصادية للدولة المصرية من جانب، وارتباطها في الوقت نفسه بالتعامل مع الطوارئ التي قد تطرأ على المشهد الدولي من جانب أخر، فى إطار قيادة متزنة للمشهد العالمي الجديد، وأبعاده ومختلف تعقيداته.

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة