تغيرات كبيرة باتت تشهدها الساحة الدولية، إثر تصاعد الأزمة الأوكرانية، في أعقاب العملية العسكرية التي أطلقتها روسيا، في الأراضى الأوكرانية، تراوحت بين تغيير ملموس في موازين القوى، إثر نجاح موسكو في استرداد جزء كبير من مكانتها الدولية، ليس فقط عبر الأزمة الراهنة، وإنما قبل ذلك بسنوات، منذ الظهور القوى في جورجيا عام 2008، فيما يطلق عليه حرب "الأيام الستة"، والتي اعترفت فيها باستقلال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ثم الأزمة الأوكرانية في 2014، عبر ضم شبه جزيرة القرم، وما تلا ذلك من أحداث، أبرزها القدرة الكبيرة للقيادة الروسية في ملء الفراغ الأمريكي في العديد من مناطق العالم، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى اقتحام مناطق النفوذ الأمريكي في أوروبا الغربية، عبر أنابيب النفط، ناهيك عن التوغل في آسيا من خلال التحالف مع الصين، بينما صعدت بكين، هي الأخرى بقوة، لتزاحم واشنطن على قمة النظام الدولي، عبر دور دبلوماسي واقتصادى قوى أثار قلق كبير لدى المعسكر الغربي، بقيادة أمريكا، دفعها إلى تغيير خريطة تحركاتها العالمية نحو المحيط الهادي على حساب الهيمنة على منطقة الأطلسى.
ولعل التغيير الكبير في موازين القوى الدولية، يمثل نقطة تحول مهمة في العديد من المسارات، ربما أبرزها تغيير منطقة الصراع الدولي، لتصبح في قلب أوروبا، والتي تمثل جناحا مهما لـ"المعسكر الغربي"، وأحد مناطق النفوذ الأمريكي، حيث حرصت الولايات المتحدة، على الإبقاء على الحالة الصراعية، على المستوى الدولي، حتى في ظل الهيمنة المطلقة لواشنطن في ظل "الأحادية القطبية"، ولكنها تمكنت من الاحتفاظ بها بعيدا عن مناطقها الجغرافية، أو عمقها الأوروبي، وهو ما يبدو على سبيل المثال، في حقبة "الحرب على الإرهاب"، والتي اختصموا خلالها الهوية الإسلامية، عبر حروب استهدفت العراق وأفغانستان، بينما امتد الأمر بعد ذلك خلال ما يسمى بـ"الربيع العربي"، والذي استهدف تأجيج الصراعات في الشرق الأوسط، لتتحول من المستوى الدولي إلى الطبيعة الأهلية مما يساهم في تقسيم دول المنطقة، وإعادة رسم خريطتها.
وتمثل منطقة الشرق الأوسط ومحيطها الجغرافي، بمثابة البؤرة التي اعتمدها الغرب خلال العقود الثلاثة الأخيرة، لتكون محلا للصراع، منذ ما قبل الهيمنة الأمريكية المطلقة، حيث كانت المساحة التي يمكن للولايات المتحدة وحلفائها استعراض قدراتها العسكرية لفرض كلمتها بالقوة الصلبة، سواء بالتدخل المباشر، على غرار الحرب على العراق، في 2003، وقبلها الحرب على أفغانستان في 2001 أو التحالف الدولي الذى شكلته واشنطن للحرب على داعش في سوريا في 2013، وهو ما خلق حالة من التوتر "اللانهائي"، في المنطقة، إثر تأجيج الصراعات بين دول المنطقة من جانب، أو إشعال الفوضى داخل كل دولة من جانب أخر، مما ساهم في إنهاك المنطقة بأسرها.
وهنا يصبح التحول في منطقة الصراع إلى أوروبا بمثابة تغيير كبير تشهده الساحة الدولية في المرحلة الراهنة، لا يتوقف مداه على شكل المنافسة الدولية على مستوى القمة، وإنما أيضا تمتد تداعياته إلى مناطق أخرى، ربما تبتعد جغرافيا عن المعركة الدائرة حاليا في أوكرانيا، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط، وفى القلب منها المنطقة العربية، والتي ربما تجد نفسها أمام العديد من الفرص التاريخية، أبرزها توحيد المواقف الجمعية وتحقيق التقارب فيما بينها، من رحم الأزمة الحالية، بينما تمثل في الوقت نفسه فرصة مهمة لـ"هدنة" احتاجتها المنطقة، تلتقط فيها الأنفاس، خاصة مع زيادة مساحة المناورة، فيما يتعلق بالقضايا العربية، إثر تعدد القوى الدولية المتنافسة على قمة النظام العالمي، والحصول على أكبر قدر من الدعم الدولي والمكاسب السياسية.
فلو نظرنا إلى المواقف العربية من الأزمة الأوكرانية، نجد أن ثمة حالة من التناغم، تجلت بوضوح في اجتماع عقدته جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين قبل عدة أيام، لمناقشة الحرب الروسية الأوكرانية، بناء على طلب من مصر، حيث يمثل انعقاد مثل هذا الاجتماع، في "بيت العرب"، بمثابة "نقلة" نوعية، وربما غير مسبوقة على المدى المنظور، في ظل ارتكاز دور المنظمة الإقليمية الأعرق في العالم، على القضايا العربية ومحاولة "لم الشمل"، في مواجهة الانقسام تارة، أو صراعات مع دول الجوار الإقليمي تارة أخرى، ليكون التغيير في منطقة الصراع بعيدا عن منطقة الشرق الأوسط بابا مهما لتحقيق التوافق، ومن ثم العمل معا على تحقيق أكبر قدر من المكاسب فيما يتعلق بالقضايا العربية المشتركة في المستقبل القريب.
وهنا يمكننا القول بأن الحرب الروسية الأوكرانية الراهنة، تمثل فرصة مهمة، وربما نادرة، من شأنها تخفيف الضغوط الدولية الكبيرة على منطقتنا من جانب، بينما تفتح الباب أمام حالة من الهدوء الذي يبدو مطلوبا للغاية في المرحلة الراهنة، من جانب أخر، في حين تمثل محطة مهمة لتنحية الخلافات، عبر تبنى موقف موحد، يسمح باستغلال التعددية الوليدة على المستوى الدولي، وحالة الاستقطاب المتوقعة من قبل القوى المتنافسة لتحقيق المصالح المشتركة، من جانب ثالث، وهي الفرصة التي لا ينبغي إهدارها، في إطار متغيرات كبيرة، في زمن تتشكل فيه التحالفات، في ظل عدم قدرة دولة واحدة، مهما بلغت إمكاناتها، على التحرك بمفردها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة