"التحول نحو التكامل".. شعار ترفعه مصر في العديد من المحافل الدولية، وربما كان بمثابة البوصلة التي قامت عليها دبلوماسية "الجمهورية الجديدة"، منذ مولدها قبل 8 سنوات، لتمثل انعكاسا لمنهج الشراكة، والذي تبنته الدولة المصرية خلال السنوات الماضية، في إطار العديد من التحالفات التي دشنتها، والتي تجاوزت في جوهرها، النقاط التقليدية، في الدوائر الدبلوماسية المصرية، نحو استكشاف مناطق جديدة كانت مهمشة، على غرار التقارب مع قبرص واليونان في الدائرة المتوسطية، في الوقت الذى كانت اقتصرت فيه العهود السابقة على علاقاتها مع دول أوروبا الرئيسية، كفرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرهم، وكذلك في إفريقيا، حيث تجاوزت الدبلوماسية المصرية دول حوض النيل نحو مختلف القوى القارية الهامة، وهو ما يعكس توجها صريحا نحو تحقيق شبكة متكاملة من العلاقات، تقوم على تحقيق الشراكة في مختلف المجالات، فيما يتعلق بالعلاقات مع المحيطين الدولي والإقليمي.
ربما التوجه المصري نحو التكامل مع الشركاء الدوليين، يمثل الوجه المعاكس لفكرة الصراع أو التنافس، هو الأمر الذي يمثل جوهر العلاقات الدولية، لسنوات طويلة، وهو ما يبدو في صراع القوى الاستعمارية، في حقبة الحروب العالمية، ثم صراع الأيديولوجيات، في مرحلة الحرب الباردة، لتتحول بعد ذلك وجهة الصراع نحو الحضارات المختلفة، بينما شهدت الحالة الدولية منافسات جانبية، امتدت إلى العلاقات بين الحلفاء، تتعلق بالرغبة في التنمية واستنزاف موارد الدول النامية، لتحقيق أكبر قدر من النمو الاقتصادي، للدول المتقدمة، ليجد العالم نفسه في مواجهة أزمات جديدة، أبرزها أزمة التغيرات المناخية، والتي تحمل تداعيات خطيرة قد تأكل الأخضر واليابس، بينما كان الوباء، في السنوات الماضية، نموذجا أخر للصراعات غير المتوقعة.
وهنا أصبح العالم في المرحلة الدولية الراهنة، في مواجهة غير مسبوقة مع ما يمكننا تسميته بـ"تحالف الأزمات"، في ظل التزامن بين الصراع مع الطبيعة، والذي يتجلى في تفشي وباء كورونا وظاهرة التغيرات المناخية، من جانب، بالإضافة إلى الأزمة الأوكرانية، وما تحمله من تداعيات كبيرة على الاقتصاد العالمي، والأمن الغذائي وأمن الطاقة، بينما تعيد فى الوقت نفسه إلى الواجهة صراعات القوى الدولية، لتحقيق السيطرة والنفوذ على العالم، بعد سنوات من الهيمنة الأمريكية المطلقة، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينات من القرن الماضي من جانب أخر.
ولعل تواتر الأزمات في المرحلة الراهنة كان كاشفا لحقائق عدة، أهمها عدم قدرة دولة بمفردها، مهما بلغت إمكاناتها الاقتصادية أو التكنولوجية، أو نفوذها السياسي، على التعامل مع الأزمات الجديدة، وتداعياتها، وهو ما يبدو مثلا في أزمة التغيرات المناخية، لتصبح الحاجة ملحة إلى خلق صيغة مناسبة من التعاون بين دول العالم المتقدم والنامي من أجل احتواء تلك الظاهرة التي لن تضع في حسبانها التصنيفات التقليدية للدول، بين العالم الأول والثالث، وهو ما يعكس أهمية التكامل لتحقيق اختراق ملموس في التعامل مع تلك الأزمة، والتي تجسد أحد أهم صور "الصراع مع الطبيعة" في المرحلة الراهنة، عبر تقديم الدعم للدول الفقيرة حتى يمكنها تحقيق التنمية، مع مراعاة المعايير البيئية، وذلك لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع العالمي.
الحاجة إلى التكامل لا تقتصر على قضية "الصراع مع الطبيعة"، وإنما تمتد إلى الصراعات الدولية، وفى القلب منها الأزمة الأوكرانية الحالية، والتي وضعت دول أوروبا المتقدمة، في حاجة ملحة إلى دعم الدول النامية، ليس فقط على المستوى السياسي، وإنما أيضا للحصول على الغذاء، على اعتبار أنه يمكنهم تطوير انتاجهم الزراعي، وكذلك الوصول إلى مصادر الطاقة، في ظل العجز الكبير في الصادرات التي كانت تحصل عليها أوروبا من أوكرانيا وروسيا، مع اندلاع الأزمة الأخيرة، وهو ما يعنى الحاجة لوجود مصدر بديل لدول الأزمة حتى يمكن الحصول على أكبر قدر من احتياجاتهم لتعويض النقص الناجم عن الصراع الدولي الراهن.
ولكن تبقى البنية الأساسية غير المؤهلة، سواء فيما يتعلق بعملية نقل الطاقة، أو زيادة الإنتاج لتلبية احتياجات الداخل والخارج معا، بمثابة معضلة هامة، في ظل تهميش تلك المناطق من قبل القوى الكبرى، وإهمالها لسنوات طويلة، حيث انكفت دول العالم المتقدم على تحقيق التنمية لديها، بمنظور أناني، بل وسعت إلى إفقار الدول الأخرى، لاستنزاف مقدراتها، دون النظر إلى المصلحة الدولية، بمفهومها الجمعي، ليجدون أنفسهم، في ظل الأزمة الراهنة، دون ظهير دولي، يمكنه دعمهم في مواجهة التداعيات الكبيرة للصراع، وهو الأمر الذي يفرض التحول نحو التكامل الدولي، في إطار مسؤولية القوى الدولية الكبرى لتحقيق الأمن العالمي، وهو المفهوم الذي طالما اقتصر على فكرة احتواء الصراعات المسلحة، بينما بات متشعبا ليحمل في طياته أبعادا أخرى، تمثل تهديدا للسلم والأمن الدوليين.
وهنا يمكننا القول بأن التحول المصري نحو التكامل مع الدول الأخرى، والذي بدأ منذ 8 سنوات، يمثل خطوة استباقية هامة، للأزمات التي يشهدها العالم، على مستوى العلاقات الدولية، والتي باتت في حاجة إلى إعادة هيكلة، في المرحلة الراهنة لمواجهة الأزمات العالمية، خاصة مع عجز الدول ذات الإمكانات الكبيرة على المواجهة بمفردها، وهو ما يبدو في أزمات المناخ والتضخم والغلاء ونقص السلع، والتي باتت تؤرق دول العالم الأول، جنبا إلى جنب مع الدول الفقيرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة