"إذا كان غريمك سريع الغضب، احرص على مضايقته وتظاهر بالضعف حتى يتمادى في غروره " هذه واحدة من القواعد المهمة في فنون الحرب، فالمقاومة التي أبدتها أوكرانيا على الأرض خلال الفترة الماضية، جعلتها تطمح في استعادة المدن التي فقدتها في أيام الحرب الأولى، وبدأت في تنظيم صفوفها لمواجهة الروس من جديد، لكن الدب كان يراقب جيداً، ضمن خطة أكبر وأعمق، استطاع خلال السيطرة الكاملة على مدينة "زابوريجيا" في جنوب وسط أوكرانيا، التي تعتبر مركزاً صناعيا هاماً ومصدراً أساسياً للطاقة الكهربائية.
تمتلك أوكرانيا 15 مفاعلاً نووياً، بالإضافة إلى مفاعلين اثنين تحت الإنشاء، وفق بيانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهذه المفاعلات موزعة على 4 محطات نووية، أكبرهم على الإطلاق محطة زابوريجيا، التي تضم 6 مفاعلات بقدرة 950 ميجا وات لكل مفاعل، بإجمالي 5700 مجيا وات، ما يجعلها تمثل حوالى نصف حصة الطاقة النووية في أوكرانيا، وتعتبر ثاني أقدم محطات الطاقة النووية في البلاد، وقد دخل أول مفاعلاتها الخدمة عام 1985، والثاني 1986، والثالث 1987، والرابع في 1988، أما الخامس في 1989، أما السادس والأخير فقد دخل الخدمة في العام 1996.
تعتمد أوكرانيا بصورة أساسية على الطاقة النووية في إنتاج الكهرباء، وتمثل حصتها نحو 51% مقارنة بمصادر الطاقة التقليدية، وبمثال بسيط حتى نفهم سنجد أن كل 100 لمبة في أوكرانيا 51 منها تضاء بكهرباء مصدرها الطاقة النووية، لذلك لمحطة زابوريجيا أهمية خاصة باعتبارها أكبر محطة نووية في البلاد، والأكبر في أوروبا، بل وضمن أكبر 5 محطات نووية في العالم كله، وهذا ما يجعلها ذات أهمية استراتيجية ضخمة بالنسبة لأوكرانيا، والسيطرة عليها تجعل العديد من المدن الأوكرانية في الجنوب تحت وطأة الظلام الدامس.
القوات الروسية سيطرت بشكل كامل على مدينة زابوريجيا الأوكرانية، مع العلم أن المدينة ليست المحطة النووية فقط، فتعتبر مركزاً صناعياً على درجة كبيرة من الأهمية للصناعات الثقيلة والمعادن، والسيارات، وميناء مهم على نهر دنيبر، يستخدم في نقل البضائع، وحركة التجارة من إقليم دونباس، وتعتبر زابوريجيا سادس أكبر المدن الأوكرانية، ويزيد عدد سكانها عن 750 ألف شخص، منهم حوالي نصف مليون أوكراني، بينما يوجد 200 ألف روسي، ثم العديد من الجنسيات الأخرى، لذلك اعتقاد البعض أن مدينة زابوريجيا محطة نووية فقط اعتقاد خاطئ.
بالفعل مدينة زابوريجيا ليست فقط المحطة النووية، لكن السيطرة على تلك الأخيرة له أهمية خاصة، فالمتحكم في هذه المحطة يستطيع قطع الكهرباء عن عشرات القرى والمدن والأوكرانية، وهذا إجراء قد يتخذه الروس في أي وقت، خاصة أن أسلم الحلول حال استمرار الاشتباكات وتصاعد المواجهة، سيكون وقف تشغيل المحطة، وهذا إجراء سيترتب عليه مشكلات لا حصر لها في أوكرانيا، أهمها قطع الكهرباء والخدمات المتصلة بها، بالإضافة إلى توقف الأنشطة الصناعية التي تعتمد بصورة مباشرة على التغذية الكهربائية، وهذا بدوره يزيد من حدة الأزمة، ويضع كييف بين فكى موسكو.
أتصور أن الحرب الروسية الأوكرانية مازالت تحمل العديد من المفاجآت، خاصة أن روسيا تدرس تحركاتها بصورة استراتيجية، وتحاول السيطرة على المنشآت الحيوية، لتجعل كفتها أرجح، وأقرب لحسم الصراع، بينما الجانب الأوكراني مازال يعتمد على الأسلحة الأوروبية والأمريكية، التي تطيل أمد الصراع، لكنها لن تأخذه إلى طريق الحسم، فمازالت هذه الأسلحة أقل فنياً وتكنولوجيا من تحقيق النصر في المعركة على الأرض، بل قد تطيل أمد الحرب وتزيد الموقف تعقيداً على المدى الطويل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة