تكمن ماهية الأمن في شعور أفراد المجتمع بالطمأنينة ومن ثم إزالة الخطر ومسبباته على الفور وفق تدابير وقائية تمتلكها الدولة، ويشمل الأمن صورته المادية والفكرية والتي يصعب بحال الاستغناء عنه على مستوى الفرد أو الجماعة أو الدولة.
ويرتبط الأمن الفكري بصيانة أذهان وأفكار الفرد من الأفكار التي تتسق مع المعتقدات الخطأ؛ كونها تشكل خطراً على المجتمع وأمن الدولة قاطبة، ومن ثم يستهدف الأمن الفكري سلامة الفكر وتحقيق عوامل الأمن والاستقرار المجتمعي عبر خطط الدولة الاستراتيجية التي ترتقي بالوعي في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، وتقوم على كاهل مؤسسات الدولة الرسمية والأجهزة المنوطة بتحقيق غايات الأمن الفكري.
ويُعنى الأمن الفكري بسلامة الفهم والانحياز إلى الاعتدال والوسطية فيما يتعلق بالجوانب الدينية والسياسية، وبما يحصن الفرد من الوصول لمرحلة الغلو أو الانحراف، وبما يؤدي إلى سلامة المعتقد والسلوك من كل فكر منحرف أو دخيل، وهذا ما يؤكد توافر القيم والتصورات السليمة التي تعزز ضوابط السلوك لدى أفراد المجتمع، ومن ثم تسهم في إشاعة الأمن في النفس، وتمنع من الجنوح تجاه العنف، وتعمل على تأكيد التوافق والتكيف مع المجتمع.
ويحافظ الأمن الفكري على هوية المجتمع من كل فكر أو ثقافة تستهدف تغيير النسق القيمي لهذا المجتمع، كما يحافظ على المكونات الثقافية الأصيلة في مواجهة التيارات الثقافية الوافدة التي قد تمس ثوابته، ويعمل الأمن الفكري على تحصين عقيدة المجتمع ويزيل ما يهدد ويضعف هذه العقيدة، ويرسخ الآليات التي تساعد على شعور المجتمع وأفراده بالهدوء والطمأنينة والاستقرار، وبما يؤدي إلى بقاء التميز الثقافي والمعرفي للمجتمع ومنظومته الفكریة.
وتقوم المؤسسة التعليمية بدور فاعل في الحفاظ على الأمن الفكري عبر أنشطتها التعليمية المختلفة؛ لتسهم في تحصين عقول المتعلمين بتعضيد الأفكار الصحيحة المرتبطة بالجوانب الدينية والسياسية والثقافية، كي يتمكن كل متعلم من تصويب الفكر غير الصحيح بصورة ذاتية، بما يؤدي إلى نماء الشخصية السوية بين أطياف المجتمع؛ لذا بات الأمن الفكري عمادًا رئيسًا لأمن المجتمع، يحقق الفكر القويم الذي يجعل الفرد يستمتع بمفردات حياته ومجتمعه فيما يرتبط بالجانب الديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والبيئي، والغذائي، والثقافي، وفي هذا الإطار يتمكن الفرد من الابتكار لتوافر مقوماته الأساسية المتمثلة في البيئة المطمئنة والآمنة.
وحري بالذكر أن المؤسسة التعليمية يقع على كاهلها، عبر ما تتبناه من برامج تعليمية، العمل على غرس القيم والمبادئ الإنسانية التي تعزز الانتماء والولاء للوطن، وترسخ الفكر المعتدل، وتحصن أفكار المتعلمين من التيارات الضالة والتوجهات المشوهة، وتربيهم على الفكر السديد الذي يمكنهم من التمييز بين الحق من الباطل والنافع من الضار، كما تعمل المؤسسة التعليمية على ترسيخ الإحساس بالمسئولية تجاه الوطن والحفاظ على مقدراته ومكتسباته، وتحرص على إشاعة روح المحبة والتعاون بين المتعلمين عبر مناشطها المتعددة، وتواجه المؤسسة التعليمية ما ينتشر عبر العالم الافتراضي من شوائب عقدية تتعلق بأساس من الأسس التي يقوم عليه أمن الدولة والمجتمع والتشكيك فيها، أو استغلالها بما قد يؤدي إلى القضاء على الأصول الثابتة التي تقوم عليها البنية الاجتماعية.
ويتنوع الأمن الفكري ما بين أمن فكري وقائي يؤكد على الوسطية والاعتدال والتوازن، ويعمل على ترسيخ الولاء والانتماء لدى المتعلمين، وتعريفهم بالأفكار الهدامة والمنحرفة عن النسق القيمي للمجتمع بغية تجنبها وتحصينهم ضدها، مع تأصيل مبادئ الحوار البناء وفق ضوابطه وأسسه بما يحافظ على تماسك المجتمع ويحقق غاياته؛ وهناك الأمن العلاجي والذي يحرص على تقديم أدوات ووسائل علاج، من شأنها مساعدة من يُخطئ في الرجوع عن خطئه، ومن امتلك فكراً ضالاً في الإقلاع عن ضلاله، وذلك بشعوره بسلبيات هذا الفكر وتصويبه بما يساعد في تكوين السياج الأمني الذي يمنع المجتمع من الأذى المادي والمعنوي.
وفي ضوء ما تقدم يمكننا القول بأن الأمن الفكري يعد الدعامة الرئيسة لاستقرار الأمن بمفهومه العام؛ لأن من يرتكب الجريمة يصاحبه خلل ما في فكره، قد يرجع إلى عوامل متنوعة منها ما يرتبط بالعوامل الأخلاقية والنفسية أو العوامل النفسية والاجتماعية أو العوامل النفسية والعضوية، ومن هنا أضحى الاهتمام بتنمية الوعي الصحيح لدى الفرد من خلال تعليم متميز يستهدف تنمية مهارات التفكير العليا وتنمية مقومات الشخصية السوية في بيئة مقصودة تحت مظلة برامج ومناهج مخطط لها سلفاً من قبل مؤسسات تربوية.
ويصعب أن ينفك الأمن الفكري عن مقوم الحرية للفرد تجاه ما يحب ويرغب، وما يرد إلى فهمه من أفكار تتدفق عبر البيئة الافتراضية، أو من وسائل الإعلام المتعددة؛ فله أن يقبل وأن يرفض وفق ثوابته الثقافية والقيمية، وفي هذا المقام يعد الأمن الفكري حجر الزاوية لممارسة الفرد حرية التفكير والتي تعد ركيزة أساسية في العمل الديمقراطي؛ لكنها مشروطة بتحمل المسئولية؛ حيث إن إطلاق حرية الرأي والتعبير دون اعتبار للمسئولية تجاه ما يتبناه المجتمع من قيم يشكل خطراً على أمن المجتمع.
ويسهم الحوار باعتباره أحد مقومات الأمن الفكري في بناء شخصية الفرد وتحويله من الحالة الساكنة إلى الحالة التفاعلية التي تؤدي إلى حالة من النماء الفكري وصقل الخبرات لديه، بتدريبه على رؤية القضية من زواياها المختلفة، ومن ثم يدرك الحقيقة غير منقوصة؛ حيث ينتقل من الرؤية الأحادية إلى الرؤية الجمعية الشاملة؛ لذا بات الحوار من المقومات التي تساعد في تحقيق الأمن الفكري، وعليه فقد صار تأصيل الحوار بين الأفراد داخل المؤسسات التعليمية وخارجها أمراً لا غنى عنه، كونه يعمل على تكوين الوعي الفكري السديد ويعزز آليات التفاهم والتسامح لدى الفرد.
ومن مقومات الأمن الفكري المهمة توافر البيئة التربوية التي تعمل على تكوين الخبرة في مجالاتها المعرفية والوجدانية والمهارية، ومن ثم تؤدي إلى غرس المفاهيم الصائبة التي تتسق مع ثقافة المجتمع وقيمه، بما يحافظ على عقولهم من محاولات النيل منها، ولا بديل عن تنمية مقدرة الفرد ليتمكن من التمييز بين الصحيح والخطأ من معلومات في العالم المفتوح، ويشكل ذلك قمة الحماية الفكرية.
ومخاطر غياب الأمن الفكري عديدة؛ فمنها ما يرتبط بالثقافة؛ حيث إن ما تبثه الفضائيات ومواقع العالم الافتراضي المسمومة من أفكار جديرة بأن تضعف مقدرة المتعلم على تحقيق أهداف التعلم، بمزيد من الانشغال عنها، وضعف الهمة نحو الجد في اكتساب الخبرات التعليمية، وإضاعة الوقت بالتفاهات، وتلقين الفرد بمفاهيم تناقض الهوية وتقوض القيم المجتمعية، ومن ثم تمتد المخاطر للجوانب الأخلاقية بانحراف الفرد عن تعاليم الدين الوسطية، وحفز الغرائز وإشاعة الرزيلة، والوقوع في براثن الفكر والتيار الضال؛ لذا تتأتى المخاطر الاجتماعية محدقة بالمجتمع لما يتعرض له من فكر جارف يعارض القيم والمبادئ المجتمعية، ويعضد الأنماط التي تتعارض مع النسق المجتمعي القويم.
وتعزيز الأمن الفكري يقوم على استراتيجيات عديدة منها الإقناع؛ حيث العمل المقصود والمخطط لتغيير اتجاهات وقيم الأفراد متى، اقتنع أنها تتعارض مع المصلحة العامة، وهنا يمكننا إكساب القيم الإيجابية للفرد وتحقيق الأمن الفكري للحفاظ على المجتمع. وهناك العلاج السلوكي الذي يضمن تعديل السلوكيات غير المرغوبة لديهم وتعزيز السلوكيات الإيجابية. وهناك التدريب المستمر الذي يسهم في تنمية المعارف وزيادة الخبرات في المجالين التعليمي والحياتي. ولا ينفصل ما تقدم عن تعضيد الشراكة بين المؤسسات التعليمية والمجتمعية لتشيكل أطر من التواصل والتبادل الخبراتي؛ ليصبح المتعلم نواة ذات فائدة في مجتمعه يمتلك من الفكر القويم ما تعززه تلك المؤسسات المتشابكة والمترابطة في تعاونها.
حفظ الرحمن شبابنا الذين هم الركيزة الرئيسة التي تعلق عليها الجمهورية الجديدة آمالها العريضة في نهضتها، باعتبارهم الهدف الأول للتنمية، وسدد خطى قيادتنا السياسية في نهضة البلاد والعباد.