أصيبت السيدة ملك حفنى ناصف، الشهيرة بلقب «باحثة البادية»، بالحمى الإسبانيولية وهى ببادية الفيوم سنة 1918، ونصحها الطبيب ألا تفارق غرفتها ولا تركب عربة أو قطارا، لكنها سافرت إلى بيت والدها فى شبرا بالقاهرة لتلازم والديها يوم نظر محكمة الجنايات فى اتهام أخيها «مجد الدين» بتهمة سياسية، كان مهددا فيها بالإعدام أثناء الأحكام العرفية على مصر المفروضة من السلطة العسكرية الإنجليزية وقت الحرب العالمية الأولى عام 1914، حسبما يذكر الكاتب طاهر الطناحى فى كتابه «الساعات الأخيرة».
يؤكد «الطناحى» أن «باحثة البادية» سُرت ببراءة أخيها، لكن الحمى تمكنت منها، فأضعفت حركة التنفس، وفى 17 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1918 رفع الطبيب يده، قائلا: «خلاص، ضاع الأمل»، وذهل الوالد على موت ابنته وعمرها 32 عاما، وظل صريع الأشجان والآلام، فكتب الشاعر حافظ إبراهيم عنه: «قد زعزعته يد القضاء/ وزلزلته يد القدر/أنا لم أذق فقد البنين/ ولا البنات على الكبر/ لكننى لما رأيت/ فؤاده وقد انفطر/ ورأيته قد كاد يحرق زائريه إذ زفر/ وشهدته أنى خطا/ خطوا تخيل أوعثر/أدركت معنى الحزن- حزن الوالدين- فما أمر».
كان الحزن كبيرا، فالموت اختطفها «فى وقت تقود فيه نهضة نسائية، وحركة إصلاحية فى حياة المرأة المصرية، كانت كاتبة شاعرة، خطيبة بليغة مؤثرة، تناقش وتدافع عن المرأة وعن حقوقها المهضومة، رائدها فى ذلك الاعتدال، والسير على سنة الدين الحنيف من المبادئ السامية التى تتمشى وحاجة المجتمع وتطوره ورقيه»، وفقا لتقدير «طاهر الطناحى».
تستدعى السيدة هدى شعراوى ماضيها معها لحظة تلقيها خبر وفاتها، قائلة فى مذكراتها: «خيل إلىّ أننى أسمع صوتها يدوى بقاعة المؤتمر عام 1910 مطالبا بحقوق عشرة للنساء، وتجسم خيالها أمام ناظرى فى محاضراتها بالجامعة المصرية وهى تلقى دروسا فى الأخلاق والواجبات، ومرت بخاطرى مناقشاتنا فى السفور والحجاب فى الاجتماعات التى كنا نعقدها قبل الحرب، وكانت تنظر لأقوالنا ونشاطنا بابتسامة ممزوجة بشىء من الشك والاستغراب، وعلى الفور قمت فارتديت ثيابى وخرجت قاصدة دار الراحلة، وإذا بنعشها يختصر علينا الطريق، ويقابلنا ملفوفا بالعلم المصرى، وتسير خلفه جماهير المشيعين، وتبعتهم حتى مقرها الأخير، حيث واروا التراب ذلك الجسم النشيط، وأغلقوا القبر على شعلة الذكاء المتقد».
هى «أول ابنة مصرية تنال شهادتها الابتدائية»، وفقا لتأكيد محمد رشيد رضا فى مقاله «باحثة البادية وحفنى ناصف» بالجزء الـ21 من «كتاب مجلة المنار»، ويقدم كتاب «باحثة البادية» للآنسة مى زيادة سيرة موجزة عنها، قائلا: «هى ملك حفنى ناصف كريمة اللغوى المحقق المرحوم حفنى بك ناصف الذى شغل المناصب العالية بوزارة المعارف والقضاء، وولدت بالقاهرة، الاثنين من ديسمبر 1886، وتلقت مبادئ العلوم بمدارس أولية «مكاتب» مختلفة، ثم دخلت المدرسة السنية فى أكتوبر 1893، وحصلت على الشهادة الابتدائية سنة 1900 وهى أول سنة تحصل فيها الفتيات المصريات على تلك الشهادة، وانتقلت إلى القسم العالى بالمدرسة المذكورة وحصلت على الشهادة العليا «دبلوم» سنة 1902، واشتغلت بالتعليم بمدارس البنات الأميرية، وفى 28 مارس اقترن بها صاحب السعادة العربى الحميم عبدالستار بك الباسل «وجيه قبيلة الرماح» بالفيوم.
اختارت لقب «باحثة البادية» للتوقيع على مقالاتها وشعرها بالجرائد، ويكشف «رشيد رضا» سر هذا اللقب، مشيرا إلى أن زواجها من عبدالستار الباسل أتاح لها العيش فى ثلاثة أماكن هى، القاهرة، والفيوم، وقرية «قصر الباسل»، حيث مزارع وقبائل الباسل، وفيها عرفت الفلاحين وسكان الخيام من البدو، وعاشرت نساء الفريقين، ومن ثم انتزعت لنفسها لقب «باحثة البادية».
يضيف «رضا» أن لقبها ظهر أول مرة بصحيفة «الجريدة» برئاسة أحمد لطفى السيد سنة 1326 هجرية «1908 ميلادية»، وذلك فى ذيل اقتراح ببناء مدفن لعظماء رجال مصر، فرددنا على هذا الاقتراح فى «المنار» ردًّا دينيًّا، ورجحنا أن المقترح رجل متنكر فقلنا فى أول الرد: نشر هذا الاقتراح بتوقيع «باحثة البادية»، وما هو إلا خيال باحث فى الحاضرة، أو متفرنج فى العاصمة، وأخبرنى عبدالستار بك أنها أرادت يومئذ أن ترد على المنار، واستشارته، فأشار عليها بألا تفعل قائلا: لن تستطيعى أن تجادلى كاتبا من أئمة الدين فى مسألة دينية كهذه، ثم إنه علم منها بعد ذلك أنها استنبطت أنه يكره لها أن تكتب فى الصحف مطلقا، فصرح لها بأن ظنها هذا خطأ، وأنه لا يكره أن تكتب ما ترجى فائدته، فكان هذا بدء حياتها الإصلاحية وخدمتها العامة.
يذكر «رضا»: «كتبت مقالات كثيرة، ونظمت قصائد ومقاطع من الشعر، وألفت خطب فى محافل اجتمع فيها مئات من كرائم النساء فى القاهرة، وشرعت فى تأليف كتاب عن حقوق النساء فى الإسلام، ولم يتم، ونشر أكثر ما كتبت فى «الجريدة» وجمع بعضه فى كتاب سمى «النسائيات».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة