قضى المحاصرون، من الضباط والجنود المصريين فى الفالوجة بفلسطين، ليلة عجيبة تحت معركة مثيرة من حرب الأعصاب، حيث طارت طائرات العدو الإسرائيلى على مواقع الكتائب المصرية المحاصرة تلقى المنشورات، وأمسك قائد أركان حرب الكتيبة السادسة «إحدى ثلاث كتائب محاصرة»، وهو الضابط جمال عبدالناصر، بمنشور يقرأه، حسبما يذكر الكاتب الصحفى عبدالله السناوى فى كتابه «يوميات جمال عبدالناصر فى حرب فلسطين.. النصوص الكاملة بخط يده».
استهدف المنشور الإسرائيلى محاولة إضعاف معنويات المحاصرين بسلسلة من المزاعم كالادعاء بأنه صاحب الأرض، وقال نصا: «أيها الضباط والصف والعساكر باللواءين الثانى والرابع، هل تعلمون أنكم محاطون؟ إن اللواء الثانى محاط، وكذلك اللواء الرابع، ولا توجد أى وسيلة للاتصال بينهما ولا مفر من الإحاطة، هل تعرفون ما معنى الإحاطة؟ إن الإحاطة معناها الفناء والموت، إنكم لا تشعرون بذلك فى المستقبل القريب، ولا يستطيع قوادكم أن يبرروا بوعودهم الكاذبة قائلين إن النجدات من الرجال والمهمات والوقود ستصلكم قريبا.. كلا».
يضيف المنشور: «احتلت القوات الإسرائيلية بئر السبع، بعدما دقت قواتكم دقا وسحقتها سحقا تاما، وإذا اتكلتم على النجدات التى سيبعثها الملك عبدالله «ملك الأردن»، فاعلموا أنه لا ينوى إلا طرد قواتكم من قواعدها فى بيت لحم والخليل. إنكم ترون الآن فى هذه البلاد نتائج الدعاية الكاذبة التى كنتم تصدقونها قبل ما أرسلتم من مصر، وصف قوادكم وساستكم مرحلة فلسطين بأنها سهلة، ووعدوكم بالغنائم وبالتمتع، أين الغنائم؟ وأين التمتع؟ لم تجدوا هنا إلا المصائب، ولم تلاقوا إلا الخسائر الفادحة، ولن تلاقوا غير هذا فى المستقبل، وقد شاهدت عيونكم بأن اليهود يعفرون الدفاع عن وطنهم وأراضيهم، ويحسنون التجارب، فإنهم لم يحتلوا بلادا غريبة ولم يفكروا- ولا يفكرون- فى احتلال أى بلد ليست لهم، وإذا تطلعتم بالخريطة، تبين لكم أن الجيوش الإسرائيلية تحيطكم إحاطة السوار بالمعصم».
يواصل المنشور مزاعمه: «عليكم أن تختاروا، إذا أردتم البقاء فى الحياة، فاستسلموا وستعودون سالمين إلى بلادكم، واعلموا أنه كذب من قال إننا نقتل الأسرى، فهذه أقبح دعاية اخترعها قوادكم الذين ينتظرون الأوسام والنياشين ولا يكترثون بموت المئات والألوف من جنودهم.. هل لهم النياشين ولكم الفناء؟ أمر اللواء أحمد بك محمد على المواوى الجنود المحاطين فى بيت عفا وفى عراق السويدان بالقتال حتى الموت، ولكن أين سعادة صاحب العزة الآن؟ إنه ولى دبره تولية الجبان بعد ما أسرنا من ضباط رئاسته، افتكروا قبل الموت، اصغوا إلى إخوانكم الأسرى، يدعونكم للاستسلام، انجوا بأنفسكم واستسلموا، كل من يحضر وبيده هذا المنشور ستؤمن حياته، ويعود سالما إلى بيته».
يختتم المنشور مزاعمه: «أيها الضباط.. اعلموا أننا سنحترم حقوق مندوبكم الذى يتقدم حامل الراية البيضاء لتجرى معه المفاوضات، وثقوا باحترام حقوقكم العسكرية فى أديارنا.. أعلمتم.. أنذرتم».
أسقطت الطائرات الصهيونية هذا المنشور على الضباط والجنود بعد ستة أيام من حصارهم فى الفالوجة، الذى بدأ فى «16 أكتوبر، مثل هذا اليوم من عام 1948»، بعد أن دخلت الجيوش العربية فلسطين لمحاربة العصابات الصهيونية، وكان الجيش المصرى إحداها، وهناك الكثير من التفاصيل فى هذه الحرب التى تعد بمثابة النكبة الكبرى التى أضاعت فلسطين، وكانت البوابة لتغيرات كبرى بالمنطقة فى النصف الثانى من القرن العشرين.
كان حصار الفالوجة واحدا من دراما هذه الحرب، فالجيش المصرى ذهب إلى مهمة قومية بحماس بالغ من الضباط والجنود ويسجل بطولات رائعة، لكن القصة لدى الملك فاروق الذى اتخذ قرار خوض حرب فلسطين فى 15 مايو 1948 كانت بغرض تحقيق مكاسب له، وحسب رأى محمد حيدر وزير الحربية: «تلك الحرب مسألة خاصة لمولاى»، حسبما تذكر الدكتورة لطيفة سالم فى كتابها «فاروق الأول وعرش مصر».
ذهب الجيش دون استعدادات كافية، فوقع حصار الفالوجة وهى قرية تقع على بعد 40 كيلومترا من غزة و75 كيلومترا من القدس، وفقا لعبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثالث من كتابه «ما بعد الثورة المصرية.. ثورة 1919»، مضيفا: «إن الحصار بدأ فى 16 أكتوبر 1948، وكان يرابط فيها اللواء الرابع بقيادة القائمقام «الأميرالاى» السيد طه «اشتهر بلقب الضبع الأسود»، واستمر مائة وثلاثين يوما كاملة والقوة المصرية صامدة أمام هذا الحصار لا تذعن ولا تستسلم، واحتمل أفرادها عناء القتال والحصار بثبات وشجاعة وصبر، جعل منهم مفخرة من مفاخر الجيش المصرى، وظلت روحهم قوية عالية إلى أن تم توقيع الهدنة الدائمة فى جزيرة رودس، وكان من شروطها أن تبارح القوات المصرية الفالوجة بأسلحتها ومعداتها وعتادها ابتداء من 26 فبراير 1949، واستقبل الشعب المصرى أبطال الفالوجة، واحتفلت العاصمة بعودتهم يوم 10 مارس سنة 1949 احتفالا قوميا رائعا».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة