كأنها أشعةُ الشمس تخترق حجاب السماء، عبرت عشرات الطائرات المصرية من غرب قناة السويس إلى شرقها. وكأنها التماعاتُ الشروق على وجه الماء وكُثبان الرمل، تساقطت دانات المدافع فيضًا لا يُعَدّ ولا يُصَدّ، وتدفَّق آلاف الجنود فى قواربهم كأنهم ضوء الظهيرة يفترش الأُفق، ويهتك ما تبقّى من رواسب الرجفة والخمول. كان المشهد عند منتصف نهار السادس من أكتوبر انعكاسًا للأمكنة والمواقيت: الظُلمة التى ابتلعت سيناء قبل ستِّ سنوات تغمرها أرواحٌ لامعة وأجساد مُتوهّجة، وناحية الشرق التى جاءنا منها الليل تختبر حظَّها من الهمِّ والنكد، وتطلع الشمس على قطعة الفيروز من الغرب للمرّة الأُولى، بعدما اعتدنا طوال تاريخنا أن يأتى النهار من هناك.
لم يكن مُجرّد مشهد حربٍ وثأر للجغرافيا والزمن؛ إنما كان مُختبرًا وطنيًّا يُعاد استكشاف الذات والهويّة فى أروقته، وتُرسَم من ثناياه معالم مرحلة جيوسياسية جديدة بالكُلّية، وربما غريبة على المنطقة فى آخر قرونها. جاءنا العثمانيون من تلك الجهة، وحتى الإنجليز أتمّوا سحق إرادتنا على تُخومها، ثمّ أتى الإسرائيليون مرَّتين فى عشر سنوات، وأخيرًا نذهب مُبادرين بدلاً من انتظار فواجع الأقدار، ونكتب بالدم المصرى الطاهر أوَّل موجةٍ انكماشية للعدو الصهيونى منذ زُرِع عُنوةً فى تُربتنا الطيّبة، واعتاد أن يمرح على خريطة المنطقة يمينًا وشمالاً من دون رادع. كان يوم العبور نقطةً فى آخر جُملة التغوُّل والجشع والافتراس، ومُفتتَحًا لسطرٍ جديد يقرأ فيه العدو واقعًا لم يُجرّبه من قبل. أفاق المصريّون من كبوتهم، ونفضوا غبار المعارك القديمة، وتقدَّموا يحملون الشمس على أكتافهم، ويسبكون سياجًا حديديًّا عاليًا، يشرخ سرديّة «من النيل إلى الفرات»، ويضع حدودًا حارقةً للكيان الذى توهَّم طويلاً أنه سيّد الأرض وخازن النار.
غابت سيناء وراء ستارٍ حالك، نسيجه الغطرسةُ والمرارة وجروح الكرامة؛ أكثر من كونه ساترًا ترابيًّا أو دُشمًا خرسانية وفوّهات نابالم؛ لهذا كانت العودة سُطوعًا كأنها النهارُ بعد ليلٍ طويل. بالجغرافيا طلعت شمس التحرير من الضفّة الغربية على عكس المُعتاد، وبالأثر الدينى فإنّ الشروق من الغرب آيةٌ على القيامة، وكانت الحرب زلزلةً تُشبه الحَشْر للصهاينة فى أهمِّ وأقدس أعيادهم، وعلى بلاغة المجاز فإنها تعبيرٌ عن تحقُّق المستحيل، أو ما تصوَّر العدوّ أنه فى عِداد الاستحالة على جيشٍ لا يُقهَر، وعلى مانعٍ هو الأقوى فى التاريخ العسكرى؛ حتى أنه يتجاوز موانع الحرب العالمية بحسب روايتهم. بالورقة والقلم كانت الحرب حُلمًا بعيدًا، وإن داعب الخيال فالأقرب أن نستفيق منه على كابوس؛ أمَّا بحسبة الإرادة والثأر، والمصرىّ الذى لا يصفو له العيش على ضَيمٍ وانكسار، فإنّها الواقع بعينه، والفرض الذى لا تُعوّضه نوافل وقُربات. قرأ الإسرائيليّون كلَّ شىءٍ إلّا سيكولوجية المصريين، وتحوَّطوا من الحاضر لكنهم لم يعوا دروس التاريخ، وتفرَّغوا لرصّ العوائق بيننا، ولم يتحسَّبوا لمأثورنا الذى يملأ الوعى بأن «كل عُقدة وليها حلّال». اجتهدوا لصناعة الليل، وفاتهم أنّ أطنانًا وسنوات من الظلام لا تصمد أمام شمعة، ولا فى مواجهة جندىّ يلتهب قلبُه، ويتفجَّر النورُ من بين أضلُعه!
لم تبدأ المحنةُ مع نكسة يونيو؛ بل كانت سابقةً على ذلك بكثير. تحديدًا منذ اندلعت ثورة يوليو ووضعت التحرُّر واستقلال القرار الوطنى فى مُقدَّم أهدافها. كان إجبارُ الإنجليز على الجلاء مُفتتحَ الخصومة، ثمَّ التحوُّل جهةَ الشرق، وإبرام صفقة الأسلحة التشيكية، وتغيير المناهج والعقائد الحربيّة ومسار البعثات، كلها بمثابةِ إنذارٍ بالخطر، ودقَّ جرسُ الصدام مع اضطرار «عبدالناصر» لتأميم القناة، ردًّا على موقف الغرب والبنك الدولى من مشروع السدّ العالى؛ فكان العدوان الثلاثى ومُحاولة الإسرائيليِّين المُبكّرة لابتلاع سيناء. بعدها برزت أدوارُ القاهرة فى إسناد حركات التحرُّر فى مُستعمرات الأفارقة الفقراء، وتمدُّدها إقليميًّا بالوحدة مع سوريا ثم مُجابهة الرجعيّة فى اليمن، لتُشكِّل قاعدةً جديدة تأسَّست عليها رُؤيةٌ عدائية للمشروع المصرى الناهض. فكان قرارهم بنسج غلالةٍ سوداء وزحزحتها من جهةِ الشرق؛ لحصار الطموح الناصرىّ المُتصاعد، وإجباره على التلهِّى فى محنة الاحتلال وقَضْم التراب الوطنى.
انتكس الحُلم؛ لكنه لم ينكسر. كانت الهزيمة فى يونيو وبدأت مسيرة الثأر مطلع يوليو، عندما نجحت وحدات الصاعقة فى منع المُدرّعات الإسرائيلية من احتلال «رأس العش» عند بورفؤاد، مُفجِّرين شرارةَ حرب الاستنزاف، صفحة العسكرية المصرية الناصعة لأكثر من 1100 يوم، بآلاف العمليات النوعية والفدائية برًّا وبحرًا، وفى العُمق وصولاً لميناء إيلات؛ حتى «مُبادرة روجرز» التى كانت هُدنةَ استعداد وتحضير بعدما تمَّ بناءُ حائطِ الصواريخ. حوَّل المصريّون عبور القناة إلى طقسٍ مُعتاد، والتجوّل خلف خطوط العدو لنزهةٍ يوميّة مُتكرّرة، وبالتوازى كان العمل على إعادة بناء الجيش وتسليحه، وإعداد الكوادر وتدريبهم، ما يسَّر للقيادة الجديدة بعد رحيل «ناصر» أن تصيغ رؤيةً ناضجةً للحرب والسلام، بدأت بفرض الإرادة القوية فى الميدان، وانتهت بإعلائها على طاولة التفاوض، وتثبيت التفوُّق بالقانون الدولى وجولات التحكيم حتى عادت طابا، مُتمِّمةً رجوع سيناء كاملةً دون شبرٍ ناقص.. إنها ملحمةٌ رزينةٌ وفوّارة فى مُناورة الليل المفروض من الخارج، وتزكيةِ الضوء شمعةً إلى جوار شمعة؛ حتى صار مجموع الجروح والتضحيات والشهداء وأطنان الدانات والقذائف والوثائق والمفاوضات، نهارًا جليًّا وجليلًا ولا سبيل لإنكاره أو إغماض العين عن بهائه النبيل.
أثمنُ ما فى مُدوّنة أكتوبر أنها شهادةٌ للعزيمة فى مُواجهة التحدّيات، ولبلاغةِ الألم عندما يكون حافزًا على اختراع الأمل. كانت مصر تُرتِّب سرديَّتها الوطنية مُستعينةً بالأدوات المُتاحة، ومُتقافزةً وسط غابة من المشاحنة والاستقطابات الدولية. حسبنا الغربُ على الشرق ولم نكن تابعين إلّا لمشروعنا، والدليل أن جمال عبدالناصر كان من آباء «عدم الانحياز» منذ مطلع الستينيات، فعادانا الأوروبيّون والأمريكيون وتشدّدوا فى الخصومة والاستهداف. وحاسبنا الشرق على أننا نعتصمُ بالحياد ولا نصرف أوراقنا لحلفٍ ضد آخر، فقتَّر علينا وأغلق قنوات التسليح؛ إلا بحسابٍ ضيِّق حافظ للعدو على تفوُّقه النوعى. كانت قوَّتنا أقرب للدفاع الخالص، ولمّا طلبنا تسليحًا هجوميًّا ماطلوا ومنعوه؛ وقد وظَّف «السادات» ذلك بحنكةٍ فى خطَّة الخداع الاستراتيجى؛ حتى أوحى للإسرائيليِّين أنه لن يُحارب قبل استكمال عُدَّته المطلوبة، ثمّ وكَّد خديعته بطرد الخبراء السوفيت. كان التحدّى صعبًا فى اختراق موانع الطبيعة والاصطناع، والتقدُّم فى طبوغرافيا مكشوفة مع أفضلية هجومية لدى الخصم؛ ولعلَّ استثنائية الحرب تنبع من ذلك السموِّ فى الإرادة، ومن وضع العقيدة فوق الظروف الضاغطة، والمُقاتل الفرد قبل السلاح والتجهيزات.
يُولَد النهار ناعمًا وبطيئًا؛ لكنه يختزن خلف ولادته عملاً دؤوبًا للشمس، ودورانًا أرضيًّا لا ينقطع، وهكذا وُلِد نهار سيناء من أنين الرمل تحت أقدام العدو، ومن انصهار الكرامة وغليانها فى صدور الجنود.. 6 أكتوبر ليست مُجرّد معركةٍ توافرت لها سياقاتٌ وأسباب، ولا انتصارًا عاديًّا كسوابق الانتصارات فى تواريخ الأُمَم والجيوش؛ بل كانت مُواجهةً وُجوديّة تعلو فيها فُرص التراجيديا على احتمالات النصر اليسير، ويتكتَّل الأعداء جبهةً قاسية بينما ترتخى قبضةُ الأصدقاء أو تخور. وكانت اختبارًا حاسمًا من زاوية أنها خصومةٌ مع عدوٍّ أدمن التوسُّع، وطموحٌ إلى دفعه للانكماش، وابتكار صيغةٍ جديدة لصراعٍ قديم يُدمِى الإقليم بكامله. ما فعله أبناءُ الفلّاحين أنهم أغلقوا كتاب «الأسطورة الصهيونية» ووضعوه على رفّ الواقع الخَشِن لأوَّل مرّة، وبات عاديًّا ومقبولاً وفى المُتناول أن يتخلخل «مسمار جحا» المغروز فى لحم المنطقة عمدًا، وأن يحلم المظلومون على امتداد الخريطة العربية بالمُستقبل صافيًا من الهزائم والانكسارات؛ إذ حتى لو طالت الانتكاسة فى ناحيةٍ أو أكثر، فالوعد قائمٌ بعدما أنبته المصريّون من العدمِ تقريبًا.
استُهدفت «أكتوبر» مُبكّرًا؛ سعيًا إلى قطع الطريق على فُرص وقوعها من الأساس. وبقدر الأثر الذى أحدثته فى الخرائط والنفوس، كان الاستهداف التالى لها شرسًا وشديد التطرُّف والانحياز. كانت الإدارة الأمريكية ظهيرًا عتيدًا للإسرائيليين، علنًا وفى الخفاء، وتعاملت بتعالٍ واستهانة عندما قدَّم «السادات» مُبادرةً للتسوية السلميّة، واعترف هنرى كسينجر، وزير الخارجية وقتها، فى حوار قبل أسابيع مع «معاريف» الإسرائيلية، بأنهم بذلوا كل طاقتهم حتى لا يتحقَّق للعرب انتصارٌ كاسح. ثمّ بعد الطلقة الأولى دشَّنت واشنطن جسرًا جويًّا بأحدث الأسلحة والمُعدّات الطازجة لقَلبِ مسار المعركة، ونشطت الماكينة العبرية، ولا تزال؛ لتزييف الرواية وادّعاء النصر زورًا، تُساندها آلة الدعاية الغربية بكل شراستها وتماديها المُتبجّح فى الاختلاق والتلوين. ولم تسلم الحرب الوحيدة الناصعة فى تاريخ العرب الحديث من النيران الصديقة، فعمد فريقٌ إلى تغليفها بمسحةٍ دينية، وتعمَّد آخرون التضخيم من الدعم العربى، وهو مشكورٌ ولا طعن فيه، وشكَّك الأكثر وقاحةً من كل هؤلاء فى الحدث، مُدَّعين أنه كان للتحريك لا التحرير، ولولا أحسن «السادات» إدارة المُقدِّمات وطرد خُبراء الروس؛ لكان خصومُ الداخل والخارج قد استمرأوا سرديَّة الانحطاط ونسبوا إنجاز المصريين لغيرهم.
كان تشويه القيادة جزءًا من لُعبة القدح والتهوين. سُنَّت السكاكين على الرئيس السادات لأنه قال إن «99 % من أوراق اللعبة فى يد أمريكا»، وثبت لاحقًا أنه كان على صواب، بل إنّ خصومه وكارهيه وضعوا اللعبة بكامل أوراقها فى عُهدة واشنطن، وقد استمات طابورٌ طويل فى محاولات سَلبه شرف التخطيط للحرب وإدارتها، بزَعم أنها كانت خطّةً سابقةَ التجهيز من زمن عبدالناصر، كما صنَّعوا رواياتٍ دعائية تُقلِّص دورَه لصالح آخرين؛ ثم طعنوه تحت ستار اتفاقية السلام، وكانت ضرورةً لازمة لتحصين نتائج الحرب واستحصال ما تبقَّى من الأرض، وأخيرًا انتهت مهمَّة الضِّباع باغتيال الرجل وسط جنوده وفى الاحتفال بذكرى انتصاره المُلهِم.. كُنتُ شخصيًّا فى مراهقتى ممَّن تورَّطوا فى التخليقات الناقدة للرئيس الراحل بحدَّةٍ وعُنف، وبعدما نظرت عميقًا فى الحوادث وحقائق الأرض وفوضى البيئة الدولية، عرفت كيف أنها أكبرُ من مظلَمةٍ شخصية، وأنّ رَشق «السادات» بالخناجر حينًا، وبالورد المسموم أحيانًا، ليس سوى طعنٍ فى الحرب نفسها. والمعارك على قدر قادتها، ومن عصمتهم تستمدّ ما يليق بها من البهاء والعصمة.
لم ينبُت مشهد أكتوبر فى بيئةٍ قاحلة، ولا جاء من فراغٍ وعدم. الحربُ حصيلة مُقدّماتٍ مُوجعةٍ ومشحونة ومُسطَّرةٍ بالعرق والدم. كانت يوليو 1952 بطموحاتها البيضاء سطرًا افتتاحيًّا عريضًا، وبناء الجيش وإسناد المظلومين والتقدُّم لقيادة الإقليم سطورًا أخرى، وكانت حرب الاستنزاف وإعادة التسليح وتأهيل الضباط والجنود صفحةً مُضيئةً فى كتاب الملحمة. من يسعون إلى اختزال المعركة فى يوم العبور وحده، أو فى وقف إطلاق النار وبدء المفاوضات ومعاهدة السلام؛ إنَّما يستهدفون تكسير بعض المصابيح وشَطبَ أسماء ومحطَّاتٍ من كتاب الفخر الوطنى. وهم لا يختلفون عمَّن قتلوا «السادات» غدرًا ومن يختصمونه بُهتانًا إلى اليوم. الجنود الذين حاربوا فى 1973 حضر أغلبهم انتكاسة 1967، وتجرَّعوا مرارتها وعرفوا منها مشاعر الحميَّة والثأر، والقادة كذلك، أمَّا السلام فإنه لا يُعطى هدايا مجانيّة لأحد، ولا يأتى طيّعًا وعلى قدر المأمول إلّا للأقوياء القادرين. طلقةُ المُقاتل ودانةُ المدفع شريفتان مثل خطبة القائد ومُرافعات الدبلوماسيين والقانونيين، ومن حصيلة الموقفين زُرِعت الأرضُ بالأرواح وعادت محمولةً على صهوة القانون.
فى خطبة النصر أمام البرلمان، قال «السادات» بعد أحد عشر يومًا بالضبط من اندلاع الحرب، إن للمصريين أن يطمئنوا ويفخروا وقد صار لهم درع وسيف، وقولةُ الحق ثابتةُ اليوم كلما نظرنا إلى سيناء العزيزة عضوًا أصيلاً وعفيًّا فى الجسد الأم. ولنا أن نفخر لأننا دفعنا موكبَ الصهيونية إلى الوراء بعدما تخيَّل أنه فى تمدُّدٍ أبدىّ، كما لنا أن نفخر بأننا أرسينا مُعادلةً لم يتوقَّعها الخصوم والحُلفاء من العرب، فهزمنا الغطرسةَ وانحراف المنظومة العالمية بالقوَّة؛ ثم أجبرناها على السلام بشروطنا الكاملة.. ستظل «حرب أكتوبر» دليلَ قدرةٍ على النجاة من غابة الأعداء، مهما بدت كئيبةً ومُظلمة، وستظل آيةً على أنهم إن كانوا قد زرعوا الليل على جبهتنا الشرقية، وكانوا يُريدونه تهديدًا دائمًا؛ فإننا قادرون على التحدِّى وخرق القوانين العادية؛ فينعكس دوران الأرض، وقد تُشرق الشمس من الغرب مرّةً بعد مرة، كما أشرقت بهيّةً ومُضيئة وحارقةً قبل خمسين سنة.