كان الوقت ظهرًا، حين أطل الشاعر الفلسطينى محمود درويش فى مؤتمر صحفى عالمى بمبنى الإذاعة والتليفزيون، 11 فبراير، مثل هذا اليوم، 1971 معلنًا مجيئه من موسكو إلى القاهرة للإقامة فيها، وعدم عودته إلى فلسطين المحتلة بعد أن خرج منها فى بعثة دراسية إلى الاتحاد السوفيتى، قضى منها عامًا.
كان الحدث كبيرًا ومهيبًا وقتها، بدليل أن وزير الإعلام محمد فائق هو الذى قدم «درويش» فى المؤتمر، بعد أن وصل سرًا قبل أكثر من أسبوع بصحبة الكاتب الصحفى عبدالملك خليل مراسل الأهرام فى موسكو، وفقًا لتأكيد الإعلامى والمذيع السابق بإذاعة صوت العرب عبدالوهاب قتاية فى مقاله «سر الأسبوع الأول لمحمود درويش فى مصر» بجريدة «العربى الناصرية، 31 أغسطس 2008»، كاشفًا أن محمد عروق رئيس إذاعة صوت استدعاه إلى مكتبه ضحى 4 فبراير 1971، وحين دخل لاحظ وجود ضيف غريب لا يعرفه، فبادره «عروق» بالسؤال عن شعراء المقاومة الفلسطينية ومدى نصيبها فى برامج «صوت العرب، فراح يتحدث عن النصيب الوافر لهذا الشعر فى برامج صوت العرب، وسأله عروق: لمن من الشعراء؟ فرد قتاية: الجميع.. رد عروق متعمدًا إسماع الضيف: مثل من؟.. أجاب قتاية: محمود درويش.. قاطعه عروق قائلًا، وهو يشير إلى الضيف: إذًا سلم عليه.
فى التفاصيل التى تكشفت فيما بعد، يتأكد أن هذه الخطوة تمت بتخطيط وسرية تامة لفترة طويلة، ولأن درويش جاء إلى القاهرة بعد ما يزيد عن أربعة شهور من رحيل عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970، فإن السؤال الذى يطرح نفسه: هل كان التخطيط لحضوره قبل رحيل عبدالناصر، وبموافقة منه، وهل قابله؟
تصدى الكاتب الصحفى والناقد سيد محمود للإجابة عن هذا السؤال مرتين، الأولى فى كتابه «محمود درويش فى مصر..المتن المجهول»، ويذكر فيه الإجابات التى حصل عليها، فالكاتبة صافنياز كاظم، قالت: «ترتيبات الزيارة كانت معدة سلفًا، وكان من المفترض أن تنجز خلال حياة الرئيس جمال عبدالناصر»، وتكشف الكاتبة منى أنيس التى كانت مقربة من درويش: «ترتيبات حضوره استغرقت نحو عام ونصف العام، قبل موت ناصر، الذى أفسد غيابه كل شىء جرى التخطيط له».. ويكتفى محمد فائق بالقول: «كان وجود درويش معنا حدثًا له دلالته الرمزية، لأنه عزز الأمل لدى الرأى العام فى احتضان المقاومة الفلسطينية والتأكيد أن النصر قادم لا محالة».
أما المرة الثانية التى تصدى فيها سيد محمود لهذا السؤال، فكانت فى مقال تحقيقى له بعنوان «هل قابل جمال عبدالناصر درويش سرا فى موسكو 1970»، بمجلة الأهرام العربى، 16 أغسطس 2020، تعليقًا منه على ما ذكرته السيدة ليلى شهيد سفيرة فلسطين السابقة فى باريس لفضائية «فرانس 24»، قائلة إن جمال عبدالناصر التقى محمود درويش شخصيًا خلال زيارته السرية لموسكو، وقدم له دعوة للإقامة فى مصر، وتكشف أن درويش أسر لها ذات مساء بهذا السر الذى ظل محتفظًا به كسر كبير، إذا قال لها: «سألنى عبدالناصر فى المقابلة ماذا تفعل هنا فى الثلج؟، فقلت له: بسبب أوراقى الإسرائيلية لا أستطيع الذهاب إلى أى بلد عربى؟ فأرسل عبدالناصر إليه جواز سفر دبلوماسى مصرى، وهكذا تيسر له الانتقال إلى القاهرة بترتيبات استثنائية».
يذكر سيد محمود بأنه لا توجد لديه شواهد لتختبر صحة هذه الواقعة، لكنه يتتبع احتمالات حدوثها، ويرجح أنها كانت فى آخر زيارة لعبدالناصر إلى موسكو، يوليو 1970، أى قبل وفاته بشهرين، ويذكر أن الشاعر الفلسطينى معين بسيسو المقيم فى موسكو وقتئذ هو من قام بتعريف محمود درويش بالدكتور مراد غالب سفير مصر فى موسكو وقتئذ، وكان «غالب» بحكم منصبه بإمكانه الاتصال مباشرة بعبدالناصر لاتخاذ إجراءات فاعلة فى هذا الموضوع.
محاولات سيد محمود تعززها رواية للكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل ذكرها للكاتب الصحفى محمد الشافعى «الهلال - أول ديسمبر 2012»، قائلًا: «كنت أحد أطراف عملية الترتيب لعدم عودة محمود درويش إلى فلسطين مرة أخرى ليصبح أكثر حرية بعيدًا عن الاحتلال، وحدث ذلك عندما كنت ضمن وفد مصرى فى موسكو، وأخذنا درويش للسفارة المصرية، ومن موسكو جاء إلى القاهرة لينطلق بعدها يغرد بأشعاره فى كل العالم، وأذكر أن الدور الأكبر لعملية تهريبه كان لسفيرنا فى موسكو مراد غالب».
لا يحدد هيكل تاريخًا لوجود الوفد المصرى بموسكو، لكن الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية وقتئذ، يذكر فى مذكراته «حرب الثلاث سنوات، 1967 - 1970»، أن الوفد الذى اصطحبه عبدالناصر فى زيارته لموسكو من 29 يونيو إلى 17 يوليو 1970، تكون منه وهيكل وعلى صبرى ومحمود رياض، وبالتالى فالأرجح أن كل شىء بخصوص درويش حدث وقتها، وليس من المنطقى أن يكون هيكل أحد أطرافها دون أن يخبر عبدالناصر بها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة