ربما يبقى الطابع "البرجماتي" هو السمة الرئيسية للعلاقات الدولية، في ظل ارتكازها على الأبعاد "المصلحية"، وهو ما يفسر التغييرات الكبيرة التي قد تطرأ عليها بين الحين والأخر، والتي تصل إلى حد التحول من التحالف، إلى الخصومة في بعض الأحيان، أو العكس، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد العالمية، على مر التاريخ، والتي شهدت تحولات جذرية في العلاقة بين دولتين أو مجموعة من الدول، إلا أن درجات التحول في العلاقة، تعتمد على مقدار ما تحظى به من "خصوصية"، قد تلعب دورا كبيرا في تفاقم الخلافات وربما تحولها إلى درجة "الصراع" طويل الأمد من جانب، أو التخفيف من حدة التوتر، وبالتالي تداعياته، وتقصيره مداه الزمني من جانب آخر.
ولعل الحديث عن "الخصوصية" في العلاقة بين الدول، ترتبط بالعديد من الأبعاد، منها ما هو تاريخي، أو ما يرتبط بالهوية الدينية أو الثقافية أو اللغوية، أو غير ذلك من العوامل، التي غالبا ما تخلق حالة من الترابط الشعبوي، والذي غالبا ما يتجاوز العلاقات في إطارها الرسمي، وبالتالي يساهم في تعزيزها إلى حد كبير، بل ويتجاوز ما يطرأ عليها من قضايا خلافية، وهو الأمر الذي يتجلى في العديد من النماذج الدولية، التي طغت فيها مسألة "الخصوصية"، على حساب عوامل أخرى تحمل أهمية "جيوسياسية"، رغم أهمية الأخيرة، وارتباطها بالعمق الجغرافي للدولة، وتأثيرها في عمقيها الإقليمي والدولي.
فلو نظرنا إلى بريطانيا، كنموذج دولي في هذا الإطار، نجد أن ثمة حالة من الخصوصية، تحظى بها علاقتها مع الولايات المتحدة، ربما طغت على العلاقة مع المحيط الأوروبي، بسبب تاريخ طويل مشترك، يرجع إلى القرن الثامن عشر، منذ الاستعمار البريطاني للأمريكتين، ناهيك عن الارتباط بين البلدين، فيما يتعلق باللغة والثقافة، إلى حد وجود مدن أمريكية وبريطانية تحمل نفس الاسم، على غرار كليفلاند وبوسطن وبرمنجهام وأكسفورد وغيرها، وهو ما انعكس على حالة الانسجام الكبيرة بين البلدين، في الإطار السياسي، حتى في حالة بزوغ بعض الخلافات، ربما تجسد بصورة كبيرة في حالة "العقوق" البريطاني بـ"أوروبا الموحدة"، لينتهي الأمر بالانفصال التام عن حالة الاتحاد القارية، وهى الخطوة التي لاقت "مباركة" أمريكية، في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، والذي كان داعما بصورة كبيرة للخطوة، رغم اعتبارها من قبل العديد من المتابعين للشأن الدولي بمثابة "تحديا" من قبل واشنطن للحلفاء الأوروبيين، ربما يسهم في انفراط "عقد" المعسكر الغربي".
تلك الحالة من الانسجام ربما لم تتوافر في نماذج أخرى، ربما نجحت في ترويج نموذج "الوحدة" الكاملة، على غرار "أوروبا الموحدة"، والتي يبدو أحد أكثر الأشكال "الوحدوية" التي حملت تأثيرا دوليا منذ معاهدة ماستريخت، في التسعينات من القرن الماضي، بفضل الدعم المقدم لها من القوى الأمريكية، التي هيمنت على النظام الدولي في العقود الماضية، إلا أن تواتر الأزمات الدولية، وظهور التهديدات الكبيرة، ناهيك عن تراجع الدعم من قبل واشنطن، ربما كانت كاشفة إلى حد كبير عن حالة من "العجز" الكبير على الصمود، وهو ما يبدو في صعود بعض النزعات الانفصالية، وبزوغ تيارات اليمين المتطرف، في العديد من دول القارة، والتي سعت إلى استلهام الانفصال البريطاني، عن الاتحاد الأوروبي، وترجمته في صورة مظاهرات حاشدة للمطالبة باتخاذ الخطوة نفسها، وهو ما يرجع في جزء منه إلى اختلاف الهوية، والتاريخ الصراعي بين الامبراطوريات الأوروبية، خلال حقبة الاستعمار.
وربما تعد الأهمية الكبيرة لتلك الحالة المنسجمة في العلاقات بين الدول، على خلفية ما تحظى به من "خصوصية" تاريخية أو ثقافية، دافعا نحو إحياء الإرث المندثر بين دولتين أو أكثر، وهو ما يرجع في جزء منه إلى الزخم الذي يضفيه هذا البعد على العلاقات على المستوى الرسمي، حتى وإن ثارت بعض الخلافات، والتي تتوقف عند إطار محدود لا يمكنها تجاوزه، وهو ما يتجلى بوضوح في نموذج العلاقات بين مصر واليونان وقبرص، والتي شهدت تقاربا كبيرا في السنوات الماضية، ارتبط، بمسارين متوازيين، أولهما "برجماتي" في إطار "مصلحي"، يقوم على استكشاف موارد الدول الثلاثة من الغاز الطبيعي، بينما يعتمد في مسار أخر، على أبعاد من الخصوصية التاريخية، التي ربما توارت خلف سنوات من التباعد، عبر مبادرة "إحياء الجذور"، من خلال تنظيم الزيارات لأبناء هذه الدول ممن عاشوا في مصر لسنوات طويلة، وأبنائهم، للأماكن التي كانوا يعيشون فيها قديما، مما يخلق قدرا من الحنين، والارتباط الشعبي بين الدول الثلاثة، يساهم في تعزيز العلاقات الرسمية.
بينما تبقى المنطقة العربية، هي الأكثر حظا فيما يتعلق بـ"الخصوصية"، في توفر العديد من العوامل التي تعزز تلك الحالة، بدء من الدين مرورا باللغة والثقافة، وحتى التشابه الكبير في العادات والتقاليد، أضفت تقاربا على حالة "البرجماتية" السياسية، والتي تبدو جزءً لا يتجزأ من الإطار المصلحي للتقليدية السياسية، وهو ما يساهم في توارى الخلافات، إن وجدت، وراء تلك العوامل، مما يقدم مزيجا من "برجماتية" السياسة من جانب، خصوصية العلاقة، في ضوء عوامل التقارب المذكورة، من جانب آخر، ربما يبدو أكثر واقعية في قيام العلاقات على فكرة الشراكة في إطار توافقي من شأنه تعظيم المصالح المشتركة، فيما يتعلق بمختلف القضايا المطروحة على الساحة السياسية.
وهنا يمكننا القول بأن إلغاء البعد "البرجماتي"، في العلاقات الدولية، يمثل أحد ضروب "الرومانسية" السياسية، غير المقبولة على الإطلاق، بينما تحمل أبعاد "الخصوصية" تأثيرات عميقة، من شأنها خلق المرونة المطلوبة، في التعامل مع المستجدات الدولية، في ظل بروز الأوضاع الإنسانية، في الأزمات المستحدثة، جراء الأوبئة والكوارث التي باتت تحل بمناطق جغرافية واسعة في الآونة الأخيرة، ناهيك عن تداعيات كبيرة باتت ترتبط بقطاعات حيوية، تمس حياة الشعوب، كالغذاء والطاقة، وما نجم عنها من تضخم وغلاء، ربما يدفع العالم نحو البحث عن المشتركات في المرحلة المقبلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة