تساؤلات عدة، تطرحها زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، إلى أوكرانيا، تدور في معظمها حول الهدف منها، في لحظة دولية استثنائية، تبدو فيها الحاجة ملحة لإنهاء الصراع، والتحول نحو التفاوض، لوضع حد للأزمات المتواترة التي يشهدها العالم، بعد مرور عام كامل منذ بدء العملية العسكرية الروسية، والتي تمثل نقطة مفصلية في انطلاق حقبة جديدة من النظام العالمي، خاصة مع التداعيات الكبيرة للأزمة على حياة ملايين البشر، سواء في الشرق أو الغرب، وما ينجم عنها من اضطرابات يومية، تمثل تهديدا صريحا لحالة الاستقرار العالمي، الذي بدا هشاً خلال العقود الماضية، في ظل الهيمنة الأحادية التي سيطرت على العالم منذ نهاية الحرب الباردة في التسعينات من القرن الماضي.
والهدف الظاهري للزيارة، يبدو في إبراز الدعم لأوكرانيا، مع إحياء الذكرى الأولى للعملية العسكرية الروسيه، مع تقديم الوعود بكييف بمزيد من المساعدات العسكرية، لاستنزاف موسكو، وتحقيق الحسم على ساحة المعركة، لصالح الغرب، بمفهومه السائد منذ الحرب الباردة (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية)، على حساب روسيا، وهو ما يمثل تقليدا توارثه الرؤساء الأمريكيين، وأبرزهم جورج بوش الإبن الذى قام بزيارة شبيهة للعراق في نوفمبر 2003، في أعقاب سقوط نظام صدام حسين، وزيارة أوباما لأفغانستان، وهي زيارات أحاطت بها السرية على غرار زيارة بايدن لأوكرانيا، وربما حملت ظاهريا نفس الهدف، وهو تقديم الدعم للأهداف التي يتبناها المعسكر الغربي، في مواجهة الخصوم، سواء كان الحرب على الارهاب أو التحول نحو الديمقراطية، بينما رسخت كل منها الانتقال إلى مراحل مختلفة في الاستراتيجية الأمريكية الخالصة، والبعيدة كل البعد عن هدف المعسكر في صورته الجمعية.
فلو نظرنا إلى زيارة بوش للعراق، نجد أن الهدف الحقيقي وهو ترسيخ قبضة واشنطن على بلاد الرافدين، عبر الحسم العسكري في مواجهة الميليشيات المسلحة، في ظل هيمنة الجيش الأمريكي على الأرض، مع وجود بعض القوات البريطانية والفرنسيه، وهو ما يعكس استراتيجية واشنطن آنذاك، والقائمة على فرض نهجها بالقوة، بينما حملت زيارة أوباما هدفا مغايرا، وهو التمهيد للانسحاب العسكري، مع الإبقاء على عدد محدود من الجنود الأمريكيين للقيام بمهام التدريب للجنود الأفغان، في انعكاس لرؤية قائمة على ضرورة تحميلهم المسؤولية وعدم الاعتماد على الوجود الأمريكي لحماية بلادهم، وهو ما أفضى في نهاية المطاف إلى الانسحاب الكامل وسيطرة حركة طالبان، التي أسقطتها أمريكا نفسها في عام 2001، على مقاليد السلطة، وهو ما يمثل ليس فقط تراجعا للأهداف التي تبناها الغرب، وإنما في جوهره هزيمة نكراء بعد معركة طويلة الأمد، دفع ثمنها الحلفاء مع تزايد أعداد اللاجئين إلى أراضيهم هربا من التغييرات الجذرية التي شهدتها البلاد.
بينما تمثل زيارة بايدن إلى أوكرانيا، استراتيجية ثالثة، تقوم في الأساس على تأجيج المشهد الصراعي، في ظل غياب كامل للجيش الأمريكي عن ميدان المعركة، على عكس الحالتين السابقتين في العراق وأفغانستان، بينما تتورط فيها أوروبا الغربية، عبر ملايين اليوروهات من المساعدات العسكرية، ناهيك عن حديث روسي متواتر عن وجود عسكريين أوروبيين في كييف، لتتحول الاستراتيجية الأمريكية نحو مرحلة جديدة من استنزاف الحلفاء، في معركة، ربما تطول، حال الفشل في الوصول بها إلى مائدة التفاوض، وهو الأمر الذي لا يقتصر على التكلفة الباهظة جراء التدخل المباشر، وإنما يحمل ضريبة سياسية واسعة النطاق سواء على المستوى الجمعي في إطار الانقسام داخل أوروبا الموحدة، او على مستوى الدول جراء الاضطرابات الناجمة عن تداعيات الحرب واستمرارها.
وللحقيقة، فإن التحولات في الاستراتيجية الأمريكية، تعكس تغييرات سريعة في موازين القوى الدولية، بدت في الزيارات المذكورة لرؤساء الولايات المتحدة، إلى ساحات المعارك، حيث بدا العنفوان واضحا في المشهد العراقي، بينما بدأ التراجع في أفغانستان، عبر تسليم السلطة لدولة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، لتعلن عن تخليها نسبيا عن تخليها مبادئها على المستوى العالمي، في حين تبدو زيارة بايدن لأوكرانيا بمثابة بادرة للتخلي عن المعسكر الغربي، وتسليم الأزمة لأوروبا وحدها.
وهنا يمكننا القول أن التحول في الاستراتيجيات الأمريكية، يمثل تغييرا في النهج القائم على تقديم الحماية للحلفاء، وهو ما شهد إطارا منتظما في السنوات الأخيرة، بدءً من رفع المزايا الاقتصادية والتجارية، مرورا بتصدير أزمات الهجرة واللجوء والارهاب، وحتى دفعهم نحو مواجهة روسيا في معركة صعبة، على الأراضي الاوكرانية، وهو ما يمثل امتدادا لخطة أمريكية منظمة لإنهاء حالة الاعتماد الكلي على واشنطن من قبل الحلفاء، وهو ما يضع الأوروبيين في خيار بين الانجرار وراء طبول الحرب التي تدقها الولايات المتحدة لتوريطهم فيها، أو اللجوء إلى طريق أخر من شأنه الوصول إلى حلول فعلية على الأرض عبر التفاوض.