سجّل ناصع عنوانه تحرير سيناء، تتعدّد فيه التواريخ والمواقف المشهودة.. اليوم نحتفل بالعيد الحادى والأربعين للاستعادة الرسمية، وفى مارس كانت الذكرى الرابعة والثلاثين لمحطة تحرير طابا، لكن يظل السادس من أكتوبر 1973 التاريخ الذهبى فى تلك المسيرة، صحيح أن لكل يوم منها سحرًا وقيمةً لا تقل عن نظيره، وظروفًا وتحديات وحكايات وبطولات تستحق الاستدعاء والإحياء دومًا، لكنها تُشكّل معًا عُقدًا من الفيروز يُطوّق خاصرة الأرض المقدسة، ويصح أن نحتفل بسيناء فيها جميعًا، وفى بقية أيام السنة، لأنها تستحق أن تكون مناسبةً حاضرة طوال الوقت، ولأن لكلّ يوم من أيامها أبطاله الذين يحقّ لهم أن يظلّوا أحياء فى الذاكرة وفى مُدوّنة الفخر والاحتفال.
لم تكن تجربة يونيو 1967 محاولة الاقتطاع الأولى لسيناء من جسد الوطن، سبقتها جريمة شبيهة خلال العدوان الثلاثى وانتهت بانسحاب العدو إلى نقطة تربُّصه السابقة. المشهد نفسه أُعيد بصيغة مُغايرة بعد يناير 2011، وفى الحالتين كان الردُّ واحدًا: بدأت حرب الاستنزاف بعد أسابيع قليلة من هجمة يونيو الغادرة، وانطلقت «العملية نسر» بعد أسابيع أيضًا من انفجار موجة الإرهاب، استمرّ الجيش فى بطولاته وتضحياته مدعومًا بأهل سيناء شهورًا طويلة حتى معاهدة روجرز ثم بدء مسار الإعداد للحرب، والأمر نفسه فى عمليتى «سيناء وحق الشهيد» 2013 و2015، وأخيرًا وصلنا محطة النصر بعد ظهيرة السادس من أكتوبر 1973، كما وصلناها مع العملية الشاملة صبيحة 9 فبراير 2018.. احتفلنا بالتحرير فى إبريل 1982 ومارس 1989، كما احتفلنا بالتنمية فى 2020 وما بعدها وصولًا إلى التطهير الكامل ومائدة الإفطار العملاقة على شواطئ العريش مساء السابع والعشرين من رمضان 2023، قد تبدو المحطّات مُتباعدةً والعدو مُختلفًا، لكن الحقيقة أن المشهد مُتطابق تقريبًا، وغايته الوحيدة اقتطاع سيناء، إمّا لصالح عدو جغرافى منظور، أو لصالح شبكة مُعقّدة ومُتداخلة من العداوات المحمولة على أكتاف أفكار تكفيرية وحركات إرهابية تُحقّق أهداف آخرين من المموّلين والرعاة بالوكالة.
من قبيل المفارقة، وربما ليس مُصادفةً اعتباطيّة ، أن الأيادى السوداء التى استهدفت سيناء منذ 2011 أحفاد من حرموا الرئيس الراحل أنور السادات، قائد معركتى الحرب والدبلوماسية وصولاً إلى التحرير الكامل، من جنى ثمار جهده وسط رجاله ورفع علم مصر فوق رمال سيناء. 6 شهور تقريبًا بين اغتياله فى الذكرى الثامنة للنصر، واستعادة الأرض عقب كامب ديفيد واتفاقية السلام.. هذه الحالة الغريبة من التقاء المصالح بين عدوّين لا يبدو أن بينهما رابطًا ظاهريًّا، تُؤكّد بقطعٍ لا يقبل الشكّ أن الاستهداف واحد، والعبرة ليست فى لون ملابس العدو أو من أىّ أرضٍ أتى، إنما بالغاية التى يجتمع عليها خصومك فيصبحون فريقًا واحدًا وإن ادّعوا عكس ذلك!
احتجنا، بعد نصر غالٍ وفاتورة باهظة من الدم والمال، إلى جولةٍ دبلوماسية شاقة، بدأت اضطرارًا وحسب توازنات القوى وقتها فى مُنتجع رئاسى أمريكى تحت رعاية القوة العالمية الأولى والداعم الأكبر للعدو، ورغم تأكيد النصر السابق وتجديد الفوز على العدوّ بقوانين السلم والتفاوض، تطلّب الأمر معركةً ثانية لسبع سنوات، بعد محاولة إسرائيل التلاعب فى ثلاث عشرة علامة حدودية، وصولاً إلى حُكم بإجماع هيئة التحكيم الدولية بأحقّية مصر فى طابا خلال سبتمبر 1988 ثم اتفاق روما التنفيذى فى نوفمبر التالى.. بالمثل، ومع لعب قوى كبرى إقليميًّا وعالميًّا بورقة الإرهاب أو صمتهم عنها، كان علينا قضاء أعوام تحت الاستهداف والمعاناة، ثمّ قطع شوطٍ من خمس سنوات بين «العملية الشاملة» وإفطار آلاف الأهالى باطمئنان وأريحية على شواطئ العريش، لكن هذه المرة تبدو استعادة الأرض مُحصّنة بفلسفة جديدة، قوامها مدّ الجسور مع الجسد الأم، وتعويض ما فات من برامج التنمية بغرض تأمين الجغرافيا بالديموغرافيا، دون تخلٍّ عن اشتراطات القوة وامتلاك مُرتكزات أمنيّة فعّالة وواسعة الانتشار، تضمن ألّا تغيب سيناء لحظة عن عين المركز وقلبه، لأنها قطعة مُهمّة من هذا القلب، ولأنّ الأمان فى التنمية والحياة وكفاءة الوصول وسرعته طوال الوقت وتحت أى ظرف.
سعى «الإخوان» خلال سنة حكمهم السوداء، وقبلها، إلى تغذية حالة الفوضى فى سيناء والاستفادة منها لصالح التنظيم، ليس فى بُعده المحلى فقط، إنما فى امتداداته الإقليمية والدولية.. شهدت الفترة بعد 2011 اتّصالًا محمومًا من الجماعة بجماعات الإرهاب، وتسهيل عبور المتطرّفين والتكفيريين من الخارج والداخل، وكلنا نُذكر جملة المعزول مرسى خلال اختطاف عدد من الجنود فى مايو 2013 عندما تحدّث عن «سلامة الخاطفين»، ورسالة البلتاجى الوقحة وغير الوطنية عن «توقّف أنشطة الإرهاب فى سيناء» إذا تراجعت الدولة عن مُساندة مطالب الشعب فى ثورة يونيو، فضلاً عن خُطط أخرى مشبوهة لتوطين بعض الوافدين من دول وأقاليم مُجاورة، أو تمليكهم أرضًا فى سيناء، أو محاولات تدشين ميليشيات لتكون جيشًا موازيًا يخضع للتنظيم ويأتمر بأوامره.. كل تلك المواقف والذكريات لا تنفصل عمّا عاشته «أرض الفيروز» تحت الاحتلال، أو مع نفايات الحركات الإرهابية، فالهدف واحد دائمًا رغم تعدّد الأعداء، والنصر واحد أيضًا.
اليوم نُجدّد الاحتفال بذكرى عودة الأرض كاملةً غير منقوصة، ومن تلك الحالة نستعيد بطولات السابقين واللاحقين من رجالنا الذين صدقوا ما عاهدوا الله والوطن عليه، فأنفقوا أرواحهم ردعًا لعدوّ بعيد أو صدًّا لعدو قريب، يلبس ملابسنا ويتحدّث بلساننا وليس منّا فى شىء.. أهمية الذكرى أنها تُجسّد قوة الدولة المصرية فى أبعادها المؤسَّسية والشعبية، وقدرتها على مُجابهة التحديات، وأنها لا تُفرّط فى حقوقها ولا تقبل المساومة عليها مهما كان العدوّ وشكل العداء ومستوى الاستهداف، والآن بينما نتذكر جميعًا تلك الحالة من الفداء والتضحية والإجماع الوطنى، تدور ماكينة العمل على امتداد الأرض الطاهرة، بحزمة شاملة من مشروعات التعمير والتنمية، تتكامل مع شبكة الطرق والأنفاق والجسور التى وضعت سيناء فى قلب مصر فعلًا، وليس على مستوى الرمزية وبلاغة الخطاب، كما اعتدنا لعقود سابقة، ومع كل إنجاز على الأرض وتوطيد للروابط فى صدور الناس، يتجدّد النصر كل يوم.. سيناء دّرة الوطن وجوهرته الغالية، بما فى ذاتها من مزايا وإمكانات، وما لها فى تاريخنا الوطنى من محطّات، وما أنفقه أنبل أبنائنا راضين من أجلها، وستظل مُنتصرةً وآمنةً دائمًا.