حازم حسين

توازن مصر الدقيق وحبل السودان المشدود

الأربعاء، 26 أبريل 2023 02:11 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كل الدول مُستقرّة فى أوقات الرخاء، صحيح أن سياسة شؤون الداخل والخارج قد تشهد تفاوتات وفق طبيعة كل دولة ومداخيلها وقوّة مؤسَّساتها؛ لكن تظلّ التقييمات مُتقاربة دون فوارق واضحة تضع واحدة فوق أخرى.. فى الأخير، تُقاس قدرات الدول وثباتها تحت الضغط، وفى أوقات الأزمات؛ لا سيّما إن كانت تحمل مخاطر وتحدّيات مُركّبة على أكثر من محور، بالضبط كما يحدث فى مُحيطنا الإقليمى منذ سنوات ويتصاعد حاليًا.
 
أحد عشر يومًا تقريبًا منذ اندلاع التوترات الأخيرة فى السودان بين القوات المُسلّحة الشرعية وقوات الدعم السريع، حملت تصعيدًا عسكريًّا وتوترات سياسية عديدة، ووضعت عشرات الدول أمام اختبارات جادّة وقاسية فيما يخص العلاقات وتأمين قنوات الاتصال ولعب أدوار مُؤثّرة، والأهم صيانة مصالحها والحفاظ على أرواح رعاياها. خلال تلك الفترة عجزت أطراف كُبرى عن السير فوق الحبل المشدود بثبات واتّزان، بينما قطعت الدبلوماسية المصرية أشواطًا بعيدة، تُؤكد كياسة الدولة ومؤسَّساتها الفاعلة، وحُسن إدارة الملف وفق توازناته الدقيقة المطلوبة: من التزام مُحدّدات الأمن القومى بمعايير صارمة، إلى تأمين جالية ضخمة على خريطة انتشار واسعة، ثمّ مدّ يد العون لآلاف النازحين، وقبل كل ذلك وبالتزامن معه مواصلة لعب دور مُتوازن بين الفرقاء، من دون تخاذل أو انحياز!
 
حتى اللحظة، عبرت مئات الحافلات تُقل آلاف المصريين وبعض الجنسيات إلى جانب الأشقاء السودانيين.. لا يتوقّف العمل فى معبر «أرقين» البرى على مدار الساعة، إلى جانب نشاط مُكثّف من سفارتنا فى الخرطوم وقنصلية بورتسودان والمكتب القنصلى فى وادى حلفا، وتنسيق عميق ومُتقدّم بين القوات المسلحة ووزارات الخارجية والداخلية والهجرة وأجهزة المعلومات المصرية، وحضور الهلال الأحمر وهيئة الإسعاف بحزمة خدمات صحية وإغاثية ودعم نفسى وتوفير للإعاشة والأدوية والانتقالات والاتصالات، والتنسيق مع الهلال الأحمر السودانى واللجنة الدولية ومكتب الاتحاد الدولى لجمعيات الصليب والهلال الأحمر وفرعى جنوب السودان وتشاد.. لا شائبة أو ملاحظة يُمكن تسجيلها على آلية العمل، رغم حجم الضغوط وثقلها طول الفترة الأخيرة؛ ما يُؤكّد أننا إزاء جاهزية نفسية ولوجستية إن لم تكن ناشئة عن خطط استباقية، فإنها تُشير قطعًا إلى قدرة استثنائية على الحشد وسرعة التحرّك ومدّ قنوات الاتصال والعمل بكفاءة وإتقان.
 
عملية الإجلاء الواسعة التى انطلقت مساء الأحد، سبقتها خطوة أكثر تحدّيًا وإحكامًا بالنظر إلى التوقيت وسياق التنفيذ وطبيعة منطقة العمليات، فمع هبوط أربع طائرات عسكرية فى «قاعدة دنقلا» لإجلاء أفراد القوات المُسلحة من طواقم التدريب المشترك مع الجيش السودانى، واكتمال المهمّة بعودة نحو 204 من الضباط والجنود سالمين بعد أيام قليلة من اندلاع الاشتباكات، بدا واضحًا أن القاهرة تحوز وضعيّة خاصة فى المناخ السودانى المُتوتّر حاليًا، لا سيّما أن دولاً عديدة فشلت فى إجلاء مواطنيها وبعثاتها الدبلوماسية، واضطر آخرون لتحريكهم داخليًّا، بل وصل الأمر إلى فشل مهام إنقاذ عديدة خلال تلك الفترة، كان أبرزها عودة ثلاث طائرات ألمانية مساء الأربعاء 19 إبريل بعد إخفاقها فى تأمين الهبوط.
 
الهُدنة التى رتّبتها الوساطات الدولية بعد أيام من اندلاع الصراع لم تصمد إطلاقًا؛ إلا وقتما حلّقت الطائرات المصرية فتوقّف الطرفان عن تبادل النيران. تلك الوضعية الخاصّة تتأسّس على «بياض الثوب المصرى» بالأساس، وأن القاهرة وسيط نزيه لا يُمارس لعبة الانحياز وتغذية الصراعات الداخلية، وكما نطالب الجميع بالنأى عن التدخُّل فى شؤون الدول، فإننا نضرب المثال العملى الأوضح على التزام ما ننادى به من قيم وأعراف.. حدث ذلك فى ليبيا من قبل؛ فلم نتورّط خلال أية لحظة فى اللعب مع فريق ضد آخر، وظلّت القاهرة محطّة فسيحة تحتضن كل الليبيين؛ سعيًا إلى جبر اختلافاتهم وتقريب رؤاهم، وكان الموقف الوحيد وقتما أعلن الرئيس السيسى فى يونيو 2020 أن «سرت/ الجفرة» خطّ أحمر، انطلاقًا من مُحدّدات الأمن القومى ورفضنا لأن يُتّخذ الجوار مع دولة شقيقة قاعدة انطلاق لتقويض استقرارنا أو تهديد مصالحنا، وبعد هذا الإعلان لم تعد أحوال ليبيا كما كانت قبلها، وسارت الأمور فى سياق أكثر هدوءًا وعقلانية.
 
لا تهاون من جانب مصر فيما يخصّ سلامها وثوابتها، وهكذا تعمل على محاور أمنها القومى غربًا وجنوبًا، وفى التّماس الشرقى وشرق المتوسط، والمجالات الحيوية المُتّصلة بتلك الدوائر عربيًّا وأفريقيًّا.. السنوات الماضية شهدت بناءً مُنظّمًا وشاملاً للقدرات العسكرية، وأصبحنا بالفعل أكثر جاهزية بحرًّا وجوًّا وعلى المحورين: الغربى «قاعدة محمد نجيب» والجنوبى «قاعدة برنيس»، لكن تظلّ تحرّكاتنا كُلّها تحت عنوان «الدبلوماسية البيضاء»، سعيًا للتفاهم وتكامل الجهود، ولعب أدوار فعّالة فى التهدئة بدلاً من التوتر، وهو التزام شاق تتكبّده مُؤسَّسات وطنية عديدة، تتشابك أطرافها وتتداخل مجالات عملها؛ لنرى النتيجة فيما يحدث من اختراقات ناعمة على جبهات مُلتهبة.
 
يتفوق الجيش السودانى عددًا وعتادًا، ولديه ميزة مُضاعفة بالمعدّات الثقيلة وسلاح الجو؛ ما ساعده على تقويض نفوذ غريمه، فتمكّن من تدمير معسكرات «الدعم السريع» الرئيسية وأنظمة الاتصال والقيادة، لتندفع المجموعات إلى الانتشار فى المدن والأحياء السكنية دون توجيه أو خطوط إمداد مُستقرّة، ما يُلقى تبعات أمنية قاسية على ظروف المعيشة وجهود الإجلاء.. تلك الحالة دفعت دولاً عديدة إلى ترتيبات عاجلة لمُغادرة بعثاتها الدبلوماسية وإغلاق السفارات، أبرزها الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وإسبانيا والسويد وسويسرا، ولا تزال المواقف تتوالى، ونسّقت غيرها «هولندا وإيطاليا وفلسطين نموذجًا» مع مصر لإجلاء رعاياها وبعثاتها، وتلك الحمّى الواسعة ربّما تُشير إلى قراءة مراكز صنع القرار الدولية لأن الأزمة غير مُرشّحة للانتهاء قريبًا؛ إما لافتقاد خطّة تهدئة واضحة، أو غياب الطريق إلى طاولة تفاوض مُقنعة للطرفين، أو صعوبة حسم الصراع لصالح أحدهما، تلك الحالة المُلتبسة تعنى مزيدًا من التحدّيات والأوضاع الإنسانية السيئة، ومزيدًا من الأعباء على عاتق المؤسَّسات المصرية؛ باعتبارنا الجار الأقرب والأكثر تأثُّرًا بما يحدث فى عُمقنا الأفريقى المباشر.
 
يعزّ علينا أن نضرب مثالاً بالسودان على المآلات القاسية إذا تُركت الأوطان للصراعات؛ لكن الواقع أن ما يشهده البلد الشقيق الآن، وما يتجدّد فى ليبيا بين وقت وآخر، وما عاشه العراق وسوريا واليمن؛ تُؤكّد كّلها أن حصانة الدول فى مناعة جبهاتها الداخلية فقط، وأن أى «صراع بَينى» لن يطول مداه قبل أن تتدخّل فيه أطرافٌ خارجية تسعى إلى مصالحها، وبطبيعة الحال لا تضمر خيرًا للبلاد والعباد.. نتمنّى السلامة للسودان، ولا شكّ فى أن مصر ستعمل جاهدةً لمساعدة مُكوّناتها الوطنية على تحصيل الاستقرار، جنبًا إلى جنب مع جهود تأمين حدودنا وإجلاء مواطنينا ومدّ يد العون للنازحين، رغم ضخامة العبء مع جالية تتجاوز 10 آلاف بتباينات الأماكن والظروف؛ لكنّنا اختبرنا قُدرة بلدنا سابقًا فى كلّ الحوادث والملمّات، واستعدنا آلاف الطلاب من أوكرانيا بعد الحرب، وقبلها تجارب إجلاء ناجحة لمئات من اليمن وليبيا وأفغانستان، ومن الصين وغيرها إبان أزمة كورونا، واستعادة مجموعات بحّارة وفرق صيد من دول جوار عديدة؛ والدلالة هنا أيضًا أن استقرار الدول وأمنها يسمح للمُؤسَّسات بأن تعمل وتشغل حيّزًا لائقًا فى مجالها الحيوى، وأن الإدارة المصرية تُضيف سلامة مواطنيها بالخارج إلى مُعادلة أمنها القومى المصونة وغير القابلة للمساس؛ وبهذا القدر الذى نُعاينه من الثبات والثقة والكفاءة، نطمئن إلى الجغرافيا رغم اتّساعها، ونأمن الملفّات الساخنة رغم احتدامها، ويحقُّ لنا دائمًا وأبدًا أن نفخر بمصر ومؤسَّساتها الوطنية الراسخة.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة