لا شىء على الإطلاق يُبرّر إراقة الدم، ويتعاظم الجُرم إن طال المدنيين، ويصبح الوقع أشدَّ فداحةً إن كان الضحايا من الدبلوماسيين؛ إذ هم بمثابة «حمامة السلام» بين الدول، ولا تقتضى مهام وظائفهم أن يكونوا هدفًا للرصاص، كما أنهم مُحصّنون إلى جانب اتفاقية جنيف الرابعة 1949 ومُلحقاتها باتفاقية فيينا 1961، ورغم تألّمنا لما يعيشه السودان والأشقاء فيه كان جُرحنا أكبر باستشهاد مساعد الملحق الإدارى فى السفارة المصرية محمد الغراوى؛ لأنه قضى بينما كان مُنهمكًا ضمن البعثة فى مهام إجلاء المصريين ومعاونة السودانيين راغبى السفر لمصر، وراح ضحيّة تصعيد لا يستند إلى أسباب منطقيّة مُقنعة حتى اللحظة، كما لم يكن الحلقة الوحيدة فى مساعى تقويض أثر الدبلوماسية على رقعة حربٍ يبدو أنه يُراد لها الاستمرار والتمدُّد!
تبادل طرفا النزاع الاتهامات؛ فقال الجيش السودانى إن عناصر الدعم السريع يتعدّون على مقرات البعثات الدبلوماسية وأطلقوا النار على عدّة سفارات ومواكبها، منها سلطنة عُمان وفرنسا وقطر وماليزيا، كما تحدّث وزير الخارجية الأمريكى عن إطلاقهم النار على بعثة بلاده، وفى المقابل حاول الأخيرون إلصاق الشُبهة بالقوات المسلحة، ونشروا صورًا زعموا أنها لتأمين إجلاء البعثة النيجيرية؛ لكن ربما ينصرف المنطق إلى أن الجيش من حيث كونه واحدًا من مُؤسَّسات الدولة، ينضبط بأعرافها وتُلزمه اتفاقاتها الدولية، أكثر حرصًا على سلامة الدبلوماسيين ومقرّاتهم، فضلًا عن مصلحته المُباشرة وراء الأمر، بينما قد يكون قطع القنوات الدبلوماسية وتفريغ العاصمة من مراكز الاتصال المُؤثّرة وشهود العيان الأجانب أمرًا فى صالح «الدعم السريع» بدرجة أكبر، لا سيّما أنهم المنتشرون حاليًا وسط أحياء الخرطوم.
بزغت الحاجة للدبلوماسية فى العلاقات الدولية مُبكّرًا؛ لكنها ظلّت فى صورة بدائية عبر السَّفْرات العارضة والرُّسل العابرين؛ لتتّخذ شكلاً حديثًا بعد صُلح «وستفاليا» قرب منتصف القرن السابع عشر، ومع تحلل صيغة الحكم الملكى «إلهى النكهة» فى أوروبا وإحلال أنظمة دستورية أو جمهورية بدلاً منه أُعيدت صياغة قنوات الاتصال الدولية، وأخذت الدبلوماسية شكلها المعروف؛ لكن فى كل مراحلها كانت احتياجًا حقيقيًّا فى السلم والحرب؛ كما أنها مُحرّك مُباشر لهما أيضًا، إذ فى الغالب لا تبدأ الحروب إلا بعدما تفشل الدبلوماسية ولا تنتهى أيضًا إلا على طاولاتها.. النَّيل من الدبلوماسيين يبدو كأنه مُحاولة لتركيب «كواتم صوت» فى فوّهات البنادق، والرحيل كأنه مُعاونة بوضع «سدّادات» فى الآذان!
استشعار الخطر مُقدّر ومشروع؛ لكن مُبادرة دول عديدة بينها قوى كبرى لإجلاء بعثاتها وإغلاق المقرات ربما يحمل دلالات سلبية عن مدى رغبتها فى مُقاربة المشهد؛ إذ كان يُمكن تقليص الأعداد وترشيد النشاط، أو نقل العمل لمناطق أقل انفلاتًا خارج العاصمة؛ بينما الاستعاضة عن ذلك بالمغادرة الكاملة قد تُشير ضمن طبقات معانيها العديدة إلى أن تلك الأطراف لا تتوقّع هدوءًا قريبًا، وأنها تنفض يدها من الساحة، وتُغلق الممرّات التى كانت تسمح لها بالوساطة المباشرة، وتُريد للاحتدام أن يأخذ مداه إلى آخره؛ لتتكسّر القوى على نصال بعضها أو يفرز الواقع توازنات جديدة، والأهم أنها لا تنشغل بالبقاء على مقربة تسمح بالتواصل الجاد والاشتباك الفعال من موقع المُعاين وشريك اللحظة، وفى المقابل فإن الاستهداف يُشير إلى رغبة طرف بالداخل فى ردع الدبلوماسيين معنويًّا، وتغطية العيون، وخوض صراع صفرى مطلوب لذاته؛ إذ لا معنى لسدّ كل القنوات القادرة على تقريب الرؤى وتصفية الأجواء، إلا أن التقارب والصفاء غير مطلوبين من الأساس.
إخلاء ساحة الصراع من رقابة العيون المُحايدة، وكثافة انتشارها، ربما يقود إلى تغذية حروب البيانات المُتبادلة بين الطرفين دون رواية ثالثة، وإلى انفلات قواعد الخشونة دون ضبط أو خوف من العواقب.. يمكن القول إن الوجود الأجنبى ضمن تأثيراته العديدة كان يُشكّل رقيبًا ناعمًا على قواعد الاشتباك، ومع غيابه لن تجف منابع المعلومات الأقل تلوينًا فقط؛ إنما سينصرف كثيرون حول العالم عن الاهتمام بالساحة السودانية وتطوّراتها، إمّا لأن الأمر لم يعد يعنيهم بشكل مباشر، أو لأن الصورة ستتخذ بُعدًا نمطيًّا كأى نزاع أهلى جرى تفريغه من مضمونه والإخلال بمعادلاته الوطنية والسياسية القويمة؛ يصعب افتراض أن وراء الأمر مؤامرة مقصودة لا يعدو الدبلوماسيون الدوليون أن يكونوا ورقة من أوراقها، لكن رغم بياض الافتراضات فإن الصورة لا تخلو من انحراف فى مسارات التعامل!
يتصل السودان بحدود مع ثمانى دول، منها بوابتان مُتّصلتان بنقاط توتر وسخونة فى الساحل وغرب أفريقيا وحوض بحيرة تشاد. الداخل تتمدّد فيه ثمانى مجموعات مُسلّحة، وإن كان أغلبها داعمًا للجيش فإن مناخ التوتر وما قد يُسفر عنه يُهدّدان باحتمالات الانفلات، لا سيّما مع امتدادات عرقية واقتصادية وفكرية لبعضها ولقوات حميدتى فى تشاد وأفريقيا الوسطى، ومنها إلى هلال انتشار داعش والقاعدة وبوكو حرام فى مالى وتشاد والنيجر وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وتوجو ونيجيريا وبنين وامتدادته حتى الصومال وموزمبيق.. ضحايا الساحل ثُلث قتلى الإرهاب عالميًّا بعدما تضاعفت أرقامهم 35 مرة منذ 2007، وشهد 2021 وحده سقوط 1994 قتيلًا فى مالى والنيجر وبوركينا فاسو.. اهتزاز الاستقرار فى السودان يُهدّد بعبور التنظيمات المُتطرّفة إمّا محمولة على أكتاف ميليشيات الداخل أو مدفوعة من قوى الخارج، خاصة أن المُثيرات هناك: هشاشة الدول والحروب الأهلية والتهريب وتجارة المخدرات وصراعات القبائل وأنشطة التعدين غير الشرعية، كلها ليست غائبة عن المجال السودانى، ويُنتظر أن تتّسع إذا لم تستعد الدولة الوطنية سيطرتها وتُمكّن مؤسَّساتها سريعًا.
خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، شهد العالم تغيّرًا دراماتيكيًّا فى منظومة العلاقات الدولية، اتّصالاً بالواقع الناشئ عن الحرب الباردة وصراع الأحلاف وقتها، وبدء تقدّم الولايات المتحدة للانفراد بقيادة العالم.. كانت المرحلة مُلتبسةً فى توازنات القوى بين صعود مُهيمن لواشنطن وحُلفائها، وبوادر خفوت للاتحاد السوفيتى وميراثه القديم، وبزوغ وبلورة تجارب استقلال وتحديث لقوميات إقليمية فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية أو ابتكار لأوراق توتر ترسم معالمها الجماعات المسلحة والأفكار الدينية، تلك الفوضى التى طالت بأثرها ممرّات الدبلوماسية أسهمت فى إطلاق قنابل العنف، لتشهد المرحلة فورة فى عمليات استهداف السفراء والبعثات، كانت ذروتها بين اقتحام السفارة الأمريكية فى طهران أواخر 1979 واحتلال العراق وما بعده حتى 2005، وكان من معالمها اغتيال المبعوثين بالرصاص والسيارات المفخخة، ومهاجمة السفارات بصور عديدة وصلت إلى ضربات الصواريخ، واحتلال المقرات أو خطف الدبلوماسيين لتصفيتهم أو المساومة عليهم، وبحصر تقريبى شهدت تلك الفترة أكثر من 40 اعتداء متفاوتة الحجم، أسفرت عن مقتل دبلوماسيين من الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية والكويت والأردن وسوريا والإمارات وغيرها.
الشهيد الغراوى ليس الحبّة الوحيدة فى عقد الشرف لدى الدبلوماسية المصرية، فسبقه إصابة أحد أعضاء البعثة، ومن قبل قدمنا شهداء على مذبح العمل الدؤوب من أجل السلم والاستقرار وفق الأطر السليمة للعلاقات الدولية: الشهيد محمد صلاح كمال الدين الذى ارتقى فى أبريل 1957 بعدما لعب دورًا مهمًا فى استقلال وتنمية الصومال، والسكرتير الثانى وثلاثة من أطقم الأمن فى سفارتنا بباكستان 1955، والسفير إيهاب الشريف 2005 الذى كان ضحيّة انزعاج جماعات الإرهاب من دعم مصر للعراق وتنشيط بعثتها الدبلوماسية فى البلد الشقيق.. واستمرار العمل فى السودان رسالة بأننا مُلتزمون تجاه جاليتنا والأشقاء، وأن صوت الدبلوماسية لا يجب أن يتراجع أو يصمت، ولدينا رغبة حقيقية فى استقرار عُمقنا الجنوبى نُترجمها عملاً لا شعارات، وحضورًا لا غيابًا، واتصالا فعّالاً لا مناورات فى الغرف المُغلقة وتحت الطاولات.. رحم الله الشهيد الغراوى، وحفظ الدبلوماسية المصرية العريقة، وأسبغ على السودان ما يستحق من استقرار وأمن.