عادت سوريا إلى الجامعة العربية، أو بالأحرى عاد العرب والجامعة إلى دمشق. كان مشهد الغياب مُربكًا، كما كان قطع العلاقات؛ لكن جاءت العودة واضحة المعالم، معروفة الأسباب، صريحة الدلالات، وتأسَّست على موقف ناضج، وقراءة مُتّزنة للظرفين الإقليمى والدولى، ورغبة جادة فى التصحيح ونفض ميراث فُرض على المنطقة بأساليب مُلتوية، ولم يكن نابعًا من احتياج صافٍ أو ضرورة لازمة. على ما فى الرجوع من هدوء وبساطة باديتين، فإنه يكتنز بالمعانى، وفيه من الإشارات ما يتجاوز مُجرّد ملء مقعد فارغ.
لا جدوى من الحُكم على الماضى بخبرات الراهن؛ لكن سعيًا إلى الموضوعية على الأقل، يُمكن القول إن تطليق دمشق لم يكن سليمًا. بدأت الأزمة ربيع 2011 باحتجاجاتٍ صُوّرت كما لو كانت امتدادًا لـ«الربيع العربى» فى تونس ومصر وليبيا واليمن، وسرعان ما أصبحت خشونة مُسلّحة تسير حثيثًا باتجاه الحرب الأهلية. انخرط لاعبون إقليميون، وفُتحت الساحة ليتدفّق السلاح والمقاتلون من كل مكان، ولم يعد الأمر قابلاً للوصف «الاحتجاجى الثورى». أمام المدّ تراجعت الدولة/ المؤسَّسات، وتقدّم المُسلّحون/ الميليشيات، وتغيّر شكل الخريطة باطّراد. بحلول 2015 وصلت سيطرة النظام أدنى حدودها بنحو ثلث المساحة، مع إحكام تنظيم «داعش» قبضته على النصف، والآن عُدنا إلى قُرب البداية: الميليشيات والمعارضة يحوزون نحو 10%، والبقيّة بواقع الثلث للأكراد «سوريا الديمقراطية» والثلثين تحت سلطة الدولة، وهو تناقض أخف قليلاً؛ إذ يُمكن ردمه بتوافقات على شكل العلاقة وصيغة الحكم.
الآن، علينا مُصارحة أنفسنا بأننا دُفعنا قبل 12 سنة إلى خيارات وضعها آخرون. ما يُمكن اعتباره انفلاتًا يمسّ شرعية النظام جرى على صورٍ أخرى فى ليبيا واليمن، ولم يُطردا أو يُحاصرا دبلوماسيًّا، بل سُمح لهم أحيانًا بمُمثّلين لا توافق عليهم. بالبديهة ليس المقصود الطعن فى الموقف العربى من البلدين؛ ولا الجزم بأنه أصوب، إنما الخروج من المقابلة باستنتاج مفاده أن تشابه مسارات الدول الثلاث، مع اختلاف مآلات القرار، قد يُشير إلى استهدافٍ طال سوريا بعينها؛ لا نتحدّث عن سوء نيّة من الجامعة والدول، بقدر ما نُشير إلى جهة خفيّة هندست المشهد وأخرجته مُلتبسًا، ثمّ نشّطت تيارات وأجنحةً تابعة لها لإنجاز المُستهدف.
بوضوح، شق الرئيس التونسى المنصف المرزوقى؛ مدفوعًا من داعميه فى حركة النهضة «إخوان تونس» طريق القطيعة. تبعه استثمار أجنحة التنظيم فى التعبئة والمزايدات العقائدية، ليتأكّد الموقف بحكومة بنكيران «إخوان المغرب».. هناك دول لم تستجب للابتزاز كالجزائر والعراق وفلسطين، وفى مصر يبدو أن الدبلوماسية والمؤسَّسات الصلبة قاومت طويلاً؛ حتى وصلت حكومة الإخوان إلى لحظة حرجة أمام الرفض الشعبى ودعوات 30 يونيو؛ فأعلن «مرسى» المُقاطعة فى مشهد بائس، كما لو كانت مُحاولةً لاستمالة مُحبّى المواقف الشعبوية. استشعار الخطأ ومساعى التصحيح لم ينطلقا من قرار العودة، ولا اجتماعى الرياض وعمّان، إنما تتابعا بدءًا من 2018 بخطوات الإمارات والبحرين والسودان. وقتها كانت القاهرة محورًا أساسيًّا فى حديث التهدئة وترميم البيت؛ ربما تأخّرت فى وصل العلاقة حتى تظل على مقربة من المقاطعين، بما يسمح بامتصاص الحدّة وتليين المواقف، ما يمكن معه القول إن استعادة سوريا اختراق عربى، لكنها نجاح للرؤية المصرية؛ بالنظر لعودة بعض الأشقاء عن خطوطهم الحمراء، وإلى أن القرار جاء بعد مذكرة من القاهرة للجامعة.
تنتظر سوريا مكاسب تتّصل بالتجارة والاستثمار وإعادة الإعمار، وتعضيد جهودها لتوحيد الأرض وتصفية جيوب الإرهاب وإخراج الأجانب، مع غابة قوات من ثمانى دول.. «العزلة» تسبّبت فى رهانات دمشقية خاطئة، والتحرّر منها سينعكس بالتبعية على سياساتها، وعلى شعورها بالتحقُّق والفاعلية فى مجالها الحيوى، ولهذا أثر معنوى يُحفّز التخلص من رواسب الماضى، وصولاً للنضج فى إدارة الحاضر والمستقبل.. أحبطت الدولة جانبًا كبيرًا من خُطط اتخاذها قاعدة مُتقدّمة لتطويق العرب، واستعادتها فى الجامعة تستثمر النجاح للبناء عليه، ضمن جملة فوائد مرجوّة للغلاف العربى: عودة اللاجئين، سدّ قنوات السلاح والمخدرات، قطع الطريق على نزوح المُتطرفين، الاستفادة من فرص التنمية، قوة الموقف الموحّد أمام اللاعبين الآخرين، تخفيف العبء الأمنى عن العراق، وربما حلحلة أوضاع لبنان وسط شغور رئاسى طويل واستقطاب حاد.
ما تواتر خلال شهور، ربما يُوحى بعدم تركيز دمشق على الجامعة، مُنحازةً إلى استعادة العلاقات فى قنوات ثنائية. قد تكون فلسفة «الأسد» أنها صيغة تمنحه أقصى مزايا مع أقل التزامات. من المُعلن أيضًا بحسب تصريحاته أنه يعتبر الوضع الراهن «تجانسًا ديموغرافيًّا»؛ بما يعنى أن النازحين عبء على الهندسة الاجتماعية الجديدة، وهناك إشارات إلى إعادة بناء خريطة الكُتل السكانية، فضلاً عن أحاديث عن تحوّلات مذهبية واستيعاب وافدين. ثمّة من يقرؤون ذلك باعتباره تخلّيًا عن اللاجئين، والملف صعب ومُعقّد من دون شك، لكن الحقيقة أن ما يتعطّل بالاتفاق لن يحدث أبدًا مع القطيعة، والحاجة مُلحّة لعلاج الاختلالات الديموغرافية والتشوّهات المذهبية والعرقية، قدر رغبتنا فى تهدئة الأوضاع وتسييج الجغرافيا بإطار آمن. ربما يرتاح النظام لنوع من الوجود الأجنبى، ويطمئن الأكراد بالأمريكيين، ويلعب الإسلاميون فى الشمال مع فريق ثالث. لن يتفق الجميع، وتظلّ كل التدخلات الخارجية خطأً لا بديل عن تصويبه؛ لذا فإن العودة أفضل الخيارات، وكل ما يبدو مُستحيلاً سيكون مُمكنًا بمُجرّد الجلوس معًا.
أهم المكاسب أن التحرُّك يُعبّر عن مستوى مُتقدّم من النضج. بات القرار العربى مُستقلاًّ وحساباته مقطوعة عن رغبات القوى الكبرى، والدليل أن واشنطن كانت ولا تزال مُعترضةً على «التطبيع» مع سوريا أو رجوعها إلى أيّة أُطر عمل إقليمية ودولية. صحيح أن العرب لم يُقدّموا هدية مجانية؛ فاتفقوا على عودة مشروطة بإجراءات جادة نحو الحل السياسى؛ واعتماد مبدأ «خطوة مقابل خطوة» بما يعنى أنه لا انفتاح كامل دون إجراءات مُماثلة، إلى جانب تشكيل لجنة اتصال وزارية؛ لمتابعة تنفيذ «اتفاق عمّان» ومواصلة حوار التسوية الشاملة؛ لكن كل تلك القيود لا تخصم من دلالة أن القرار استجابة عربية خالصة للظرفين الإقليمى والعالمى؛ لا سيّما مع انشغال روسيا فى أوكرانيا، ومساعى اجتذاب «بشار» شمالاً، وتعقّد مشهد لبنان، واستقطابات العراق، وضغوط الهجرة والتهريب على الأردن، وأخيرًا التهدئة الإقليمية ومسار المصالحة مع مصر والخليج، ثم الاتفاق السعودى الإيرانى، ما يجعل سوريا ميدانًا صالحًا لاختبار جدّية المواقف، وتقييم آثارها، ورسم ملامح العلاقة المقبلة مع المحيط غير العربى.
خطوات دمشق نحونا لم تكن مُمكنةً دون قبول حلفائها، هكذا يقضى المنطق السليم، لا سيّما بعد اتفاقيات استراتيجية وزيارات رفيعة المستوى؛ لكن الرهان على منسوب حضور ضئيل أفضل من الانحسار الكامل، على أمل أن تتكفّل مواسم الأمطار بتعبئة خزّان العلاقات.. الوضع القائم يصعب استمراره مع 753 موقعًا عسكريًّا أجنبيًّا، فمهما بدا الانسجام على بعض المحاور لن يظل النظام راضيًا للأبد. غياب سوريا عن الجامعة سمح بتفاقم الخلافات العربية بشأنها، وأنتج تضارب رؤى كان يُمكن تلافيه لو أُدير ضمن أُطر العمل العربى، الآن تبدو الأجواء جاهزة لإنزال يُغلق الملف. قدمت دمشق عربون احترام بـ«اسكوبار الجنوب»، أو مرعى الرمثان، أخطر تجار المخدِّرات على الحدود، بعد معلومات وفّرتها الاستخبارات السورية للأردن. الظرف مُواتٍ للتقدُّم نحو أدوار أكثر إيجابية، تعويضًا للفتور وسعيًا لملء مساحات خالية أو مُرشّحة للإخلاء؛ حتى لو لم ننجح فى الإحلال الكامل، فإن إبطاء وتيرة الهيمنة الخارجية أو تثبيت مستوياتها، غنيمة مُهمّة لا يجب تفويتها.
أخطأت دمشق فى التساهل مع التطرُّف والتهريب بعد احتلال العراق، ما سمح بإرساء ركائز استندت إليها «النصرة» ثم «داعش» لاحقًا، كما أخطأت فى قمع موجات التظاهر الأولى بدلاً عن احتواء الموقف، وفى احتضان حركات مُتضاربة الولاء والامتدادات الجغرافية، والضغط على مُحيطها لاحقًا بالسلاح والكبتاجون والمُهجّرين، وعليها الإقرار دون مُكابرة، كما عليها الاعتراف بأنها سُحبت لتحالفات تستوجب إعادة النظر، وأن الظهير العربى أكثر ثباتًا ومنطقية، جغرافيًّا على الأقل، وإن بدا مُختلفًا مع رؤية «الأسد/ الشخص والنظام» فى قليل أو كثير؛ لكن إجمالاً لا يُمكن أن تُعاقب سوريا أكثر ممّا فات، أو تُسدِّد فواتير مفتوحة.. بات واقعًا أنها انتصرت على محاولات التسييل تمهيدًا لتصريفها فى البحر أو تعبئتها فى كؤوس الطامعين، وأن ما تعرّضت له كان خليطًا من أمور ليس بينها «الثورة الصافية»، أو بالأدنى ما كان غضبًا شعبيًّا استُثمر ضد السلم الأهلى. الرسالة أن الإرهاب لا يمكن أن ينتصر على المجتمعات مهما تخلّى عنها المُحيطون، وأن إرباك الدول الوطنية مُشكلة لا حلّ، والوصاية الخارجية لم تعد صالحةً لإقناع سياق عربى يعيش تحوّلات جارفة، ويطمح فى إعادة التموضع ضمن توازنات العالم الجديدة.. سوريا الآن فى مكانها الطبيعى، بعد كُلفة باهظة من الوقت والفرص المُهدرة، وفى ذلك درس للجميع: العرب، الإقليم والخارج، رعاة الإرهاب، ودمشق والأسد أوّلاً وأخيرًا. لن يندمل الجُرح سريعًا، لكن الزمن لا يعود، و«المقعد الفارغ» الذى علّمنا الجفاء أو أغرى الخصوم لم يعد فارغًا، ولأنه يصعب الوجود فى مكانين مُتنافرين، فإن جلوس سوريا بين العرب، طال الوقت أو قصر، سيُعيد ترتيب المنطقة حتمًا، وقد يُفضى مع الاعتياد إلى إخلاء أو إعطاب مقعدها على طاولة أُخرى.