اختبار جاد تدخله القوى السياسية بدءًا من اليوم، إذ مع انطلاق فعاليات الحوار الوطنى رسميًّا يبدو أن المشهد العام يدخل مرحلة جديدة، لا فى صلة الأحزاب بالدولة وحدها، ولكن فى علاقاتها البينيّة وداخل كل حزب على حدة، المؤكّد أن كثيرين يتطلّعون إلى إنجاز حالة التقاء صحيّة تسمح بتوسعة المجال العام، وتنشيط قنوات الاتصال، وفتح الباب لمزيدٍ من الفاعلية داخل الطبقة السياسية وفى الشارع، وبالمثل ربما يتمنّى آخرون أن يُخفق المسار الجديد فى إنضاج صيغة ضامنة لاستقرار المرحلة المُقبلة وكفاءة إدارتها وتعظيم مُخرجاتها، هذا التنازع يُلقى مزيدًا من المسؤولية والعبء على أكتاف الجميع.. الساعون بإيجابية يحدوهم الأمل فى تنقية الهواء وتجدُّده، والمتربّصون بسوء نيّة إمّا يُضمرون الشرّ للجميع كحالة الإخوان، أو يُدمنون استمراء غلاف المظلومية وتبرير تقصير أحزابهم والتحلّل من الالتزام تجاه قواعدهم والمجتمع بشكل عام، وبين الأمرين لا بديل عن التجربة، وعن طَرق كل الأبواب المُتاحة على أرضيّة بيضاء صافية، لا يُسيّجها الخوف ورواسب الماضى، ولا يُلوّث صفاءها الطمع أو الانتهازية والابتزاز.
السمة الغالبة على السياسة المصرية أن قواها مُشتّتة ومُنقسمة على نفسها أغلب الوقت، كان الأمر على تلك الحالة فى التجربة الأولى منذ نشأة الأحزاب مطلع القرن العشرين، وبعد دستور 1923 وكامل الحقبة الليبرالية قبل ثورة يوليو، وتجدّد مع المرحلة الثانية لإحياء الحياة الحزبية بدءًا من صيغة المنابر فى 1976 إلى ثورة 30 يونيو 2013، ولعلّه ما يزال مُمتدًّا إلى اللحظة.. فى كل المراحل يُمكن تلمُّس حالة التنازع والشقاق والمُغالبة، خارج مجال القبول الشعبى، فى كثير من الأحيان: صراعات أحزاب الأقلّية وخصومتها مع «الوفد»، وتنازع اليسار داخليًّا ومع اليمين والوسط، واختراق جماعة الإخوان لأحزاب عديدة وتديين بعضها بالفعل، وصولاً إلى تحالفات وقوائم الانتخابات بعد 2011، وجوقة «الإخوان» الحزبية و«أدوات فيرمونت» فى مقابل جبهة الإنقاذ وحركة تمرّد، ثمّ حاليًا شتات الماركسيين والقوميين والليبراليين واختلالات بوصلة بعضهم وتضاربهم حتى داخل النظرية الواحدة.. ما يحدث على منصّة «الحوار الوطنى» الآن ربّما يكون حالة الإجماع الوحيدة، بإقبالٍ حاشد من كل التيّارات السياسية دون مقاطعة أو غيابٍ أو رفض للمبدأ، وفى هذا إشارة للدولة بأن الجميع جاهزون لإنجاز استحقاق التوافق، وإشارة للمؤيِّدين بأن السياق يتطلّب نضجًا وقبولاً للاختلاف دون حساسيّة أو ضيق صدر، وإشارة للمعارضة بأن المناخ مُواتٍ تمامًا لاغتنام الفُرصة والخروج من الكهوف القديمة، بعدما أثبتت التجارب أن الابتعاد عن الشارع لا يضمن البقاء لأية فكرة مهما كانت وجاهتها، وأن الوجود ليس منحةً مجانية، والسياسة من حيث كونها توازنًا للقوى وإدارة للضغط والصراعات وسعيًا إلى المأمول فى إطار المُمكن، تقتضى الانخراط فى الحياة بمرونة وفاعليّة، لا تحويل الأيديولوجيا والرؤى الظرفية إلى معابد راسخةٍ ونصوص مُقدّسة.
بحسب المُنسّق العام للحوار، ضياء رشوان، استبعد مجلس الأمناء بالإجماع قضايا: تعديل الدستور، والأمن القومى، والسياسة الخارجية، من محاور التداول داخل اللجان، انطلاقًا من انضباطها وفق معايير قانونيّة ومُؤسَّسية تتجاوز الرأى والتحزُّبات السياسية، هذا التوافق معناه أن حدود الحوار يُؤطّرها الدستور والفلسفة التشريعية المُستقرّة فى عقل الدولة وتاريخها الحديث، وأن المنطلق العريض لتناول شواغل الساحة يحتفظ بتقديرٍ واعٍ للملفات الحسّاسة، ويُقرّ بكفاءة المؤسَّسات الصُّلبة فى إدارتها، هكذا يبدو المدخل واضحًا ومعالمه مُرسّمةٌ بتوازنٍ واعتدال، ومن هذا التوازن تبرز ركائز صلبة لـ«حاكمية الدستور»، ونشوز كل من يخرجون على شرعيّته، وأن المصالح العليا وعلاقات مصر الخارجية ليست مجالًا للمُزايدة وتنازع الآراء.. يُمكن البناء على هذا المسار مثلاً باعتماد «الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان» بديلاً موضوعيًّا للخطابات العموميّة فى مسائل الحرية والحبس الاحتياطى والنظرة الحقوقية الشاملة، ليُصبح بحثُ أفضل المسارات لتفعيل الاستراتيجية مُرتكزًا صُلبًا يلتقى حوله المُتحاورون، دون حاجةٍ إلى البدء من نقطة مُعلّقة فى الفراغ قد لا يتّفق حولها الجميع، وبالمثل يُمكن إدارة كل الملفّات من مساحاتٍ وسيطة باتّجاه التعديل أو التطوير، ما يضمن مُخرجاتٍ أكثر منطقية وقابليّة للإنفاذ بسرعة وكفاءة.
نشرت أمانة الحوار، قبل أيَّام، بيانًا قالت إنها تلقّته عقب اجتماع المنسّق العام بعدد من الوجوه السياسية البارزة. كان مشهد اللقاء مُختلفًا ومُحفّزًا، لا سيّما أن بعض الحضور كانوا حتى شهور مضت بين من يُقيمون بالخارج مُنقطعين عن المشهد تمامًا أو مُنخرطين فى مشاهد ربما رآها البعض وقتها تنطوى على انحيازٍ وخشونة يُصادمان الدولة عمدًا، وآخرون كانوا مُنكفئين على ذواتهم بالداخل أو يقضون عقوبات فى قضايا أنتجتها فترة الفوضى. المُلفت فى الحالة أن «الحوار الوطنى» كمنصّة ناشئة من داخل بنية الدولة وبرغبتها بدا مُنفتحًا على الجميع بشكل حقيقى، وأن لديه من الأريحيّة والقبول ما يسمح بالمبادرة بنشر بيان الحضور، لتكون الرسالة من داخل منظومة الحوار لا من حسابات الضيوف، فى تقدمةٍ عمليّة للحالة المُبتغاة من تلك المنصّة أصلاً، وهذا ما قاله «رشوان» بتأكيده أن المشهد يُمثّل ما ستكون عليه مصر، ويُعبّر عن فلسفة الحوار الوطنى العميقة، وأنه لن يستبعد شريكًا أو رأيًا، ولن يُصادر على تيّار أو صوت.
تناول البيان عناوين من قبيل القضايا التى يعدّها البعض مُلتهبةً، مثل مسائل الأحزاب والحقوق السياسية والحريات والمحبوسين وتوازن السلطات.. كانت اللغة واضحةً ومُباشرة وساخنة أيضًا، لكنها تضمّنت فى ثناياها إشادة بالحالة، وإقبالاً عليها، وتأكيدًا واضحًا للالتفاف العام وأنه لا بديل عن الحوار، إثارة تلك الموضوعات فى لقاء سابق على الفعّاليات الرسمية، وتدبيجها فى بيان، ثم إعلانه من خلال المُنسق العام، تؤكّد رزمة من المعانى والدلالات، أبرزها أن: منصّة الحوار الوطنى، باستثناء انضباطها بالدستور وثوابت الدولة، لا تفرض محاذير على النقاش ولا تستنكف إثارة أى موضوع، والمجال مفتوح لكل المشمولين بصفة السياسة لا الإرهاب، حتى من كانوا يعتكفون اختياريًّا أو مَن يُخالطهم ظنّ بأنهم خارج المُعادلة لاعتبارات تخصُّ الماضى، وغرض الحالة بكاملها الجدّية وليس الإلهاء أو تفريغ الطاقة وتذويب الوقت، والقطار الذى يُوفّر مقاعد بعدد الواقفين على رصيف المحطّة لن يخسر إن انطلق ناقصًا، إنما الخاسر من سيظل ثابتًا فى مكانه، والأهم أن القوى السياسية بإمكانها تجسير المسافة، وردم الفجوة الزمنية مع الدولة من 2013 حتى الآن، بشرط أن تُحسن اختيار العناوين، وتُجيد صياغة الرسائل على وجه عاقلٍ، يبتغى الحلحلةَ والتحرُّك إلى الأمام، وليس تسجيل الأهداف وإحراز النقاط ببراجماتية وخفّة، مهما بدت للبعض سهلةً وشعبويّة، أو كانت مُغريةً لرغبتهم فى ممالأة المُغالين داخل تيّاراتهم.
فُورة واضحة فى ماكينة الحوار، عبر 53 أسبوعًا منذ دعوة الرئيس السيسى، فى إفطار الأسرة المصرية، ونحو 310 أيّام بين تشكيل مجلس الأمناء وانطلاق الجلسات رسميًّا، سواء بالمشاركة الواسعة من كل القوى والتيارات السياسية، والمجتمع المدنى من جمعيات ونقابات واتحادات وتجمّعات وروابط، والمُستقلين من الشخصيات العامة والخبراء والمثقفين والفنانين، فضلاً عن نحو 90 ألف مُقترح من الأفراد عبر القنوات الإلكترونية، و400 من الأحزاب، وسَبك 113 قضية مهمّة وشاملة تتناولها اللجان فى نحو 30 اجتماعًا أسبوعيًّا، والمُقدّمات الإيجابية فى تفعيل لجنة العفو الرئاسى والإفراج عن نحو 1400 من المحبوسين والتحرُّك باتجاه تطبيق مُقترح أمانة الحوار بشأن تمديد الإشراف القضائى على الانتخابات بعد المُهلة الدستورية المُقرّر انتهاؤها يناير المقبل، الزخم الحادث على كل المسارات يُؤكّد أن المنصَّة الناشئة كانت احتياجًا حقيقيًّا فى الظرف الراهن، وأنها فرصة جادة يبحث عنها الجميع، والتقاء مُناسب بين كل التيارات، لا سيّما السلطة والمعارضة، على أرضيّة لا نحتاج لضمان ثباتها إلا أن تكون مُتّسعة ومُحايدة ولا تحدّها أسوارٌ أو عوائق، وهو ما تأكّد عمليًّا فى المحطّات السابقة، وأحسب أن جلسات اللجان ستسفر عن مزيدٍ من الأدلة الواضحة عليه.. يتحلّق الجميع اليوم حول طاولة واحدة، وفى جوهر الأمر يلتفّون حول الوطن، مصلحة مصر غاية المُتحاورين وعنوانهم، لا شك فى ذلك إطلاقًا، لكننا ننتظر أن يُبرهنوا على محبّتهم برهانًا عمليًّا يُواكب اللحظة ويليق بالبلد والشعب.