حالة انتعاشٍ تشهدها الدراما التليفزيونية منذ سنوات، بدت أكثر وضوحًا خلال الموسم الأخير؛ ليس فيما يخص تنوّع الموضوعات وثراء الإنتاج، والتحرُّر من توازنات السوق القديمة، وفتح الباب لقائمة أطول من الوجوه وخبرات التمثيل فقط، إنّما فيما تعتمده من تقنيات وما تحمله من رهانات جمالية، فى تكاملها وعلى مستوى كل عنصر. الصورة واحدة من أبرز تجلّيات الحيوية والنضج وقَطع الدراما أشواطًا بعيدة فى صياغة رسائلها ومُغازلة الجمهور. يعود الأمر فى جانب إلى تطوُّر الأدوات وخلق توازن فى الإنفاق بين الأجور والمعدّات وعمليات ما بعد الإنتاج، وإلى الاختيارات الجريئة والاختبارات الجادة، وأثر المنصَّات الرقمية والمنافسة المُتنامية فى ابتكار صيغ أكثر تحرّرًا وديناميكية فى التجريب والعرض وضبط المكوّنات؛ لكن أكبر الجوانب وأهمها يخص كفاءة العاملين والفنيِّين خلف الكاميرات. موسم رمضان على ما قدّمه من تميُّز، وما أحرزه من نجاحات تحقّ نسبتها لكل الفاعلين، يظلّ «مديرو التصوير» فى اعتقادى واجهةَ الحالة ومن أصحاب البطولة فيما وصلنا على الشاشات، لا سيّما أنهم الشركاء المؤثرون، الأكثر تعرُّضًا للنسيان والأقل حضورًا تحت الضوء، ومن هنا ربما يكون الاحتفاء بما صنعوه من قبيل الواجب المُستحَقّ.
نجحت أغلب أعمال الموسم فى رهان الصورة، فقدّمت مُعادلاً بصريًّا مُلائمًا للحكايات وطبيعتها؛ حتى فى أعمال نحت للجماهيرية مثل «جعفر العمدة» كانت الكادرات مُتوازنةً فى إدارتها لحيّز التشخيص، وعلاقة الكتلة بالفراغ، وحركة الكاميرا والمُمثّلين. ينطبق الأمر على أعمال أخرى لم تُغرق فى رهان الجماليات البصرية قدر اهتمامها بالتناسب والتعبيرية، مع قدر من الجاذبية والفخامة؛ إلا أنها ظلّت مُحافظةً على مستوى جيد من الاتّزان والإيقاع المُريح للعين.
اجتهد الجميع وفق ما تحتمل التجارب وما يبتغون منها، فلم تكن الصورة مُؤذيةً أو فقيرة؛ إلا بقدر ما تستدعى الحالة أن يكون الزهد والتقشُّف احتياجًا بلاغيًّا لإسناد الحكاية؛ لكن فى مقابل الجبهة الواسعة التى انحازت إلى إيصال الرسائل من أقصر الطرق وأيسرها، هناك فريق أخذ على عاتقه أن يُغامر ويجترح مسالك مُغايرة، صحيح أنها فتحت قوسًا أوسع للسرد، وخدمت الدراما وشخوصها بدرجات أفضل؛ لكنها إلى ذلك قدّمت طرحًا بصريًّا جميلاً فى ذاته، دون انفصال عن سياقها، ودون تخلٍّ عن إمكانات جمالية وتعبيرية تُعزّز أثر التلقّى فى وجهه الظاهر، وتشتغل فى العمق على تأثيرات نفسية وروحية أبعد من الحكاية وغايتها وما تنتهى إليه الأحداث.
تتأسّس الصورة الدرامية على أغراضٍ تعبيرية، تستلزم ألا تكون مُنفصلةً عن ظهيرها الحكائى، وأن تُحقّق رهاناتها الجمالية من داخل عباءة المواءمة والتناسب مع القاعدة الاجتماعية والثقافية والنفسية للقصص وشخوصها. يتحقّق التفرُّد عندما تبرز شخصية الصورة دون أن تجور على الدراما وطابعها، وهذا ما يُميّز «مدير تصوير» عن آخر. صحيح أن الصور تستند إلى جهد مُخطّطٍ ومُتكامل من فريق واسع، ليس أوّله الإخراج ولا آخره التلوين، إذ لا يُمكن القفز على أدوار تنسيق المناظر وعلى الديكور والملابس والاكسسوار والإضاءة؛ بل يتّسع الأمر ليشمل السيناريو نفسه بقدر ما يعتمد من خيارات تُحفّز الخيال وتفتح الباب على طاقات ثريّة ومُشعّة للمكان، والأجواء النفسية، وتعقُّد الأحداث والناس أو بساطتهم؛ لكن يظل «مدير التصوير» مُرتكزًا أساسيًّا تتلاقى عنده كل الخيارات، ويتولّى إدارة العلاقة معها سعيًا إلى توفيقٍ ناعم، دون إخلال برؤية كل عنصر، وحتى يصل إلى حالة عامة مُتناغمة، لا تفقد أثرها ولا يغيب عنها الجمال.. تحقّقت تلك الصيغة بنضجٍ وتجانس فى موسم رمضان عبر عدّة تجارب بالغة الجمال والحساسية: محمد مختار «الكتيبة 101»، بيشوى روزفلت «تحت الوصاية»، تيمور تيمور «رسالة الإمام»، إسلام عبدالسميع «سوق الكانتو» وحسام حبيب «جت سليمة».
مديرو التصوير الخمسة لا يزالون شبابًا، تخرّجوا بين أواخر التسعينيات و2011 تقريبًا؛ ما يعطى تجاربهم طزاجةً فى رؤاها واتّصالها الوثيق بالسياق الثقافى والعملى الراهن للصنعة وأنماط التلقّى الناشئة. الملمح الأبرز أن صورتهم تبدو شابّةً مثلهم، غير مُثقلةٍ بالكُتل الضخمة والتكوينات المُعقّدة، ولا مُترهّلةٍ فى حركتها، ولا تقليديةٍ فى إضاءتها وحلولها الجمالية. يبدون جميعًا مُتأثرين نوعًا ما بجماليات الفن التشكيلى، فيتعاملون مع الكاميرا ومفردات الصورة كأنهم يرسمون بفرشاةٍ فى الفراغ، مُبتكرين لغة جمالية وتعبيرية من التجاور وحواريّات التفاصيل؛ إلى حدّ أن يصبح التناغم بينها قادرًا على توليد أثر نفسى خاص للصورة، التى تصلح لاستدعائها من سياق الحكى لتُصبح تعبيرًا بلاغيًّا دالاًّ بذاته. الرهان قائم على «حساسية جمالية» جديدة، عبر خلق تأثيرات مُكثّفة تتولّد عن معمار اللقطة وتدفّق الضوء إليها، وعن منطقها وحركتها وعلاقتها بما يسبقها ويتبعها؛ لتؤدّى اللقطة دورها المُباشر فى السرد، وتُحقّق غايتها التأثيرية، فضلاً عن الاشتغال الفاعل على الوعى؛ بما يُنمّى مَلكة التلقّى لدى المُشاهد، ويُعزّز قدرته على تذوّق الجمال.. انعكاس ذلك كان باديًا عبر منصّات التواصل الافتراضى، بينما يقتطع المُتلقّون لقطاتٍ وتكوينات لتُصبح طرحًا فنيًّا وجماليًّا، ومادةً للتذوّق، بعيدًا عن حاملها الحكائى ودورها الدلالى ضمن بنية الدراما.
تجارب محمد مختار السابقة، منها مسلسلا «موسى» و«راجعين يا هوى»، كشفت عن رؤية عميقة فى خلق حامل بصرى يقود الحكاية بقدر ما يخضع لها. وفى «الكتيبة 101» قدّم صورة مُنمّقة لا تخلو من شاعرية، ولا تضحّى بجماليات التوازن ودقة التكوين؛ حتى وقتما تسرد أجواء المعاناة والحرب، مستفيدًا من تفاصيل البيئة فى المشاهد الخارجية ومن التدفق المحسوب للضوء فى المشاهد الداخلية. ونجح بيشوى روزفلت عبر «تحت الوصاية» فى تقديم قراءة بلاغية للمكان، والسيطرة على انفتاح الخارجى ومشاهد البحر؛ مُعبّرًا عن الوصاية والقيود رغم إحساس ظاهر بالبراح، ومُتّخذًا مفردات الصورة مدخلاً لنقل الأجواء النفسية بما فيها من اختناق وتسلسل لطبقات القهر بين كل الأطراف، ولم تكن تجاربه السابقة، مثل «طايع» و«العائدون»، مُختلفة فى قدرتها على الاستفادة من طاقة المكان وإحالة التكوينات البصرية إلى حالات نفسية مُتشابكة مع قصّتها، وقادرة على ابتكار أثرها الجمالى. أما تيمور تيمور فقد أدار علاقته بالإضاءة فى «رسالة الإمام» بمثالية عظيمة، فابتكر حلولاً ذكية أنتجت أجواءً مُقنعة لا تنفصل عن طبيعة الحكاية، إذ يبدو فيها شُحّ الضوء عنصرًا جماليًّا وتعبيريًّا ناضجًا، يتكامل مع تكوينات الكُتل وأجساد المُمثّلين ليصنع لوحات تشكيلية شديدة الإتقان، وسوابقه «طريقى» و«جراند أوتيل» حملت ملامح لهذا التوجّه بعيدًا من اختلاف سياقات الأعمال الثلاثة.
فى «سوق الكانتو» أخلص إسلام عبدالسميع للاقتصاد والجمال المحسوب، وعبّر بتنميق واعٍ عن مشاعر الفقر والاختناق والصراع الخشن، بين واقع يقوّضه الاحتلال وشخوص محبوسين فى متوالية من الضغوط، وكما فعل فى «الفتوة» و«جزيرة غمام» قدّم مزيجًا من التعبير والشحن النفسى، دون تخلٍّ عن دقة التكوينات واتّزانها، مع حضور الأجساد البشرية عنصرًا أساسيًّا من مكونات اللقطة. وأخيرًا أدار حسام حبيب رهان الصورة فى «جت سليمة» على وجهٍ يُلائم طبيعة حكايته، كما فعل سابقًا فى «عوالم خفية» و«بدل الحدوتة تلاتة»، مستفيدًا من ثراء العناصر البصرية والملابس والاكسسوار، وأجواء الفانتازيا، بما يسمح بالتحرُّر من القيود المنطقية على الإضاءة، فخلق صورة بسيطة ومُشبعة، أقرب إلى أجواء الحواديت الأسطورية بما فيها من بهرجة وألوان.. استفاد الخمسة من نضج المُخرجين، ومن احترافية فريق بناء الصورة وكفاءة التلوين لاحقًا، فلم تبدُ مشكلة فى مساحات المناورة وحركة الكاميرا، ولا زحام فى التكوينات، ولا رطانة فى بناء اللقطات والنور وحركة الممُثلين، ولا فى الإتقان العام وجودة المنتج الأخير.
التجارب الخمسة السابقة حملت حالةً واضحة من النضج والاقتدار، كانت الصورة فيها بطلاً أساسيًّا من أبطال الدراما، لم تنفصل وظيفيًّا عن الحكاية وعناصرها؛ لكنها لعبت دورًا جماليًّا له قيمة فى ذاته، ويصلح أن يكون رهانًا مُهمًّا من زاوية ما يُقدّمه للصنعة فى مسارها الصاعد، وما يتركه فى روح المُشاهد من أثرٍ فاعل فى صياغة الشخصية، ومدى إحساسها بالجمال وقدرتها على التعاطى معه.. نحن إزاء خمسة مُبدعين من خيرة مديرى التصوير فى مصر والمنطقة، بل ربما يُضارعون فى مستواهم ورؤاهم وكفاءة إدارة أدواتهم ما يُقدّمه نظراؤهم بالخارج؛ وإن كان ذلك دليلاً على ما وصل إليه هؤلاء الخمسة من إبداعٍ، قادرٍ على لفت الأنظار وانتزاع الإعجاب والإشادة، فإنه يُشير إلى أن ثروتنا البشرية لا حدّ لها، والسياق الذى أفرزهم يواصل إنتاج غيرهم، ولن يتوقّف.. الشباب لا يقودون طفرة الصورة فقط؛ بل يخلقون حساسيّات جمالية جديدة فى كل المجالات، المهم أن نمنحهم الفرصة، ونكون جاهزين لاستيعاب كل هذا الفيض من الجمال والإبداع.