بعد أسبوعين تقريبا من احتلال قوات الحملة الفرنسية للإسكندرية، أمر نابليون بونابرت بتسيير كتيبة من جنوده لتجوب بعض جهات مديرية البحيرة، للاطمئنان على سلامة مواصلات الجيش الفرنسى بين المدن والمواقع المهمة، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر».
يذكر «الرافعى»، أن نابليون اختار الجنرال «ديموى» قائدا للكتيبة التى بدأت فى مهمة الطواف فى مديرية البحيرة يوم 17 يوليو 1798، مضيفا: «لقيت الكتيبة عنتا ومشقة فى طريقها، ولما دخلت دمنهور لقيت بها تمردا شديدا، حيث اجتمع من الأهالى نحو ستة آلاف معدين للقتال وقد غصت بهم الطرق والشوارع وتغطت أسطحة المنازل، فرأى قائد الكتيبة أنه من الخطر الاصطدام مع هذه الجموع، فأخلى دمنهور بعد أن قتل بعض جنوده وصدت المدافع الفرنسية هجوم الجموع الثائرة، وانسحب إلى بركة غطاس وهناك استقى الجنود من الماء، وهاجمهم العرب ثانية، فاعتزمت الكتيبة أن ترجع إلى الإسكندرية وتعدل متابعة سيرها إلى رشيد».
رجعت الكتيبة الفرنسية إلى الإسكندرية منهكة القوى، ويذكر الرافعى: «خسرت ثلاثين قتيلا وجريحا وشريدا، وأخفقت شر إخفاق فيما قصدت إليه، وأخذ الأهالى يتعقبونها حتى وصلت إلى الإسكندرية يوم 20 يوليو، مثل هذا اليوم، 1798، وكانت جموع العرب والأهالى تحتشد حول أسوار الإسكندرية متشجعة بما حل بفرقة الجنرال ديموى من الخسائر، وقتلت بعض الجنود المالطيين بجهة عمود السوارى وجرحت جنديا آخر».
يذكر «الرافعى»، أن الفرنسيين لم يتوقعوا هذه المقاومة، وينقل عن الجنرال ديموى فى تقريره: «إنى آسف كثيرا لأنى لم أجد فى جولتى هذه مصريا واحدا يحمل الشارة الفرنسية»، واستنتج من حوادث دمنهور أن هناك مخابرات سرية بين الإسكندرية والمدن التى مرت بها الفرقة، ولاحظ أن أهالى دمنهور كانوا على علم بقدوم الفرنسيين قبل وصولهم معدين لحربهم ما أعدوا».
ارتابت القيادة الفرنسية من ذلك الحين فى محمد كريم، واتهمه بالخيانة لهم وتحريضه للأهالى على الهياج والعصيان، وفقا لما يذكره الرافعى، مضيفا: «كانت عودة كتيبة الجنرال ديموى والخسائر التى لحقتها قد نالت من هيبة الجيش الفرنسى فى الإسكندرية، فأراد كليبر أن يستعيد هذه الهيبة، فأمر بالقبض على محمد كريم فى 20 يوليو، مثل هذا اليوم، 1798 أى يوم عودة كتيبة ديموى، وبعث به إلى ظهر السفينة «ديبوا» التى كانت بالإسكندرية، فأقلته إلى «أبوقير»، حيث كان الأسطول الفرنسى راسيا، واعتقل بالبارجة «أوريان» سفينة الأميرال برويس قومندان الأسطول الفرنسى.
بعد الاعتقال كتب «كليبر» رسالة إلى الأميرال «برويس» يقول فيها: «لقد رأيت أعوان هذا الرجل يبقون ما بقوا آملين عودته إذ ظل هو قريبا من المدينة، لذلك رأيت قطعا لهذا الأمل أن أرسل إليك لتعتقله على ظهر البارجة «أوريان»، وأوصى «كليبر» الأميرال برويس بأن يحسن معاملة محمد كريم، وأن يأمر إذا شاء أن تؤدى له التحية العسكرية إلى أن يعرض أمره على القائد العام نابليون بونابرت، ويقرر فى شأنه ما يراه».
كما كتب كليبر خطابا إلى محمد كريم يوم اعتقاله، قال فيه: «إنى لم أقصد من إرسالكم إلى بارجة فرنسية إلا أن أمكنكم من أن تلحقوا بالقائد العام، وعلى ذلك بعثت بكم إلى قومندان الأسطول الفرنسى ليسهل لكم الوصول إلى القاهرة عن طريق النيل، فإذا وصلتم إلى مقابلة القائد العام أمكنكم أن تثبتوا له أنكم تستحقون ما وضعه فيكم من الثقة وفى انتظار سفركم أرجو أن تبلغونى ما ترغبونه وسآمر بأن لا يمنع عنكم كل ما تطلبون».
كان اعتقال محمد كريم يعنى أن الإسكندرية أصبحت بلا حاكم مصرى، وكان كليبر هو حاكمها الفرنسى فقرر حل هذه المشكلة فورا بدعوته لأعيان المدينة وإبلاغهم أن يختاروا حاكما للمدينة بدلا من محمد كريم، فوقع اختيارهم على محمد الشوربجى الغريانى ووعدوا بمعاونته فى تأديته وظيفته، ويذكر الرافعى، أن موقف الحاكم الجديد كان دقيقا حرجا لأن محمد كريم كان محبوبا ومحترما من الأهالى، وزاد فى احترامه اضطهاد السلطات الفرنسية له، وهو ما كان تحديا أمام الحاكم الجديد، وكانت رسالة كليبر إلى نابليون دليلا على حالة الحاكم الجديد النفسية، وقال فيها:
«أخبرنى السيد محمد الغريانى قبل أن يقبل وظيفة المحافظ «الحاكم» أن أهالى الإسكندرية يختلفون عن سائر أهالى القطر بأنهم أصعب مراسا وأقرب إلى القلق والهياج، وأبدى لى بعض استدراكات وملاحظات تخص إدارة المدينة، فأجبته على ملاحظاته بأن الرجل الذى يتنبأ بمصاعب الوظيفة جدير بأن يعرف كيف يضطلع بها ويتغلب عليها، وبذلك أقنعته بقبول المنصب».
استمر اعتقال محمد كريم حتى إعدامه رميا بالرصاص فى ميدان الرميلة يوم 6 سبتمبر 1798.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة