كان التفاؤل فى ذروته قبل ثلاثة أشهر تقريبًا؛ ثم انطفأت الحماسة نسبيًّا، بعدما تبدّت العثرات المُتتابعة على الطريق. أضاع العرب سنوات طويلة بعيدًا عن سوريا وأزمتها، وعليهم الآن أن يتكبَّدوا فاتورة مُضاعفةً، بأصل المديونية القديمة مُحمَّلاً بغرامات التأخير، ولم يعد هناك بديل عن إنفاق كامل الجهد المُمكن؛ من أجل استعادة دمشق، أو على الأقل وضعها عند أول طريق العودة، واحتمال بُطء المسار وتردُّد الخُطى؛ لا سيما أن الساحة مُكلَّلة بسحابةٍ سوداء من سوء الفهم، ورواسب الشعبويّة، وتبعات الانزلاق فى سرديَّة الأُصوليَّة الدينية وداعميها، منذ اندلاع الأزمة قبل اثنتى عشرة سنة. لعلَّ الحماسة اليوم أقل ممَّا كانت عليه فى إبريل ومايو الماضيين؛ لكن ذلك أدعى إلى الهِمَّة وتكثيف النشاط، وليس اليأس والانسحاب والإقرار بفقدان الشام إلى الأبد.
كانت رسائل لجنة الاتصال الوزارية فى اجتماعها بالقاهرة، الثلاثاء الماضى، واضحةً فى انحيازها الجاد والشامل للدولة السورية. تجدَّد الحديث بوضوح عن الوحدة والسيادة ودحر الإرهاب، وعن التعاون دفعًا نحو مساراتٍ تنموية وشراكاتٍ جادّة، تُنعش البيئة الهشَّة بعد معاركها الطويلة، وتُمهِّد المسالك لعودة اللاجئين، واستعادة المسار السياسى على ضوء القانون الدولى ومرجعيّة القرارات الأُمميَّة، مع صرامةٍ واضحة فى مُقاربة ملف الوجود الأجنبى، وضرورة خروج الميليشيات والقوات غير المشروعة. أفكار وزير الخارجية السورى فيصل المقداد تطابقت مع نُظرائه باللجنة، من مصر والأردن والعراق ولبنان والسعودية، إضافة لأمين الجامعة العربية، وهو توافقٌ إيجابى فى ظاهره؛ إنما تظلّ العُقدة فى التنازع على تلك المفاهيم، وحدود تعريفها لدى كل طرف.
تشهد الساحة نشاطًا عسكريًّا لعدة دول، وبينما يُمكن أن تُصنَّف جميعها تحت لائحة الخروج المطلوب، يطالب نظام الأسد برحيل بعضها وبقاء البعض، انطلاقًا من إسباغه صفة المشروعية على اثنتين فقط منها. كذلك الأمر فى مسألة السيادة؛ فإنه يفرز الأرض الخارجة عن سيطرته فى الشرق والشمال، عن أراضٍ أخرى خارج السيطرة أيضًا فى الوسط وريف دمشق وعلى امتداد الساحل. وفى مسألة المُخدِّرات يُبدى حماسًا لمحاولات السيطرة على مراكز إنتاجها وممرَّات عبورها؛ لكنه يُنكر تورُّط جهاتٍ رسمية فى أنشطتها، ولا يُترجم نواياه الحسنة أفعالاً جادة؛ لذا تنشط تجارة الكبتاجون، وتتكرَّر الضبطيات وإسقاط المُسيَّرات على حدود الأردن والعراق؛ بل إن ألمانيا أعلنت ضبط نقاط إنتاج وتوزيع على أراضيها، قيل إنها تحت إدارة سوريين غير بعيدين عن دوائر الحُكم. قد يصحّ ذلك أو يكون خاطئًا فى بعض التفاصيل؛ إنما لا يمكن إنكار أن كثيرًا من النشاطات غير القانونية مثَّلت موارد دخل ضخمة لسوريا طوال السنوات الماضية، ولم يكن ميسورًا أن تتمدَّد السوق إلا بصمت النظام وأجهزته، ولم تُسجَّل تحرُّكاتٌ صادقة من جانبه ضد الخروقات، وشبكات إدارتها التى باتت «مافيا» ضخمة ومُتوحِّشة.
البحث عن تصفية جدّية للرواسب القديمة، يبدأ من الإقرار بأخطاء الماضى. تعرَّضت سوريا لمُؤامرة لا يمكن إنكارها؛ لعلَّ الشرارة الأولى بدأت شعبية؛ ولعلَّها كانت بريئةً وغير مُنساقة من الخارج، لكن الوقائع تطوَّرت سريعًا باتجاهات مُبرمجةٍ، وإيقاعٍ محموم لدرجة الاصطناع والجنون. فوضى المرحلة وغبار المواجهات، وتمدُّد الموجةِ على رقعة جغرافية عريضة، ساعدت كلها على مُصادرة التعقُّل، ودفعت الجميع صوب انحيازات عاطفية غير مدروسة. كانت القطيعة الواسعة، بدءًا من نوفمبر 2011، خنجرًا حاميًا فى قلب دمشق، حتى مع تثبُّت الشقيقة الكبرى/ مصر إلى أن جاء نظام الإخوان وتاجر بالقضية، وحتى مع إبقاء ثلاث دول على العلاقات. الواقع أن النظام الذى راهن الجميع على سقوطه لم يسقط، وهو أقرب إلى إنجاز فوزٍ كامل، ويستشعر مرارةً فى الحَلق من مواقف الأشقاء، وقد لا يخلو الصدر من توجُّسٍ وشكوك. صحيح أن الروابط المقطوعة اتَّصلت مُجدّدًا؛ لكنها تحتاج إلى التوطيد ورفع المناعة من المحيط العربى، كما يتعيَّن على النظام أن يتحلَّل من عُقَد الماضى، ويتخلَّى عن المُنازلات الطفولية ومحاولة القصاص من الجميع بأثر رجعى.
تخيَّل الرئيس بشار لوهلةٍ أنه أحرز العلامة الكاملة. تسرَّب ذلك بالتتابع، بدءًا من ردود الفعل على لقاء جدّة، ثم ورقة عمّان، وبعدها العودة للجامعة العربية، والمشاركة فى القمَّة الأخيرة بكلمةٍ دعائية عنوانها التحدِّى والإدانة. وكانت نشوة النصر واضحةً فى مقابلته مع فضائية «سكاى نيوز»، الأربعاء قبل الماضى، لكن عقب ساعات من رسائله الطائشة فى كل اتجاه، سجَّل «داعش» ضربةً جديدة قاسية بعد غياب طويل. طالت حافلةً عسكرية فى ريف «دير الزور»، وأسقطت عشرات القتلى والجرحى، وكان آخر استهداف شبيهٍ مطلع 2021، والصادم فى الجريمة أنها عملية على مستوى نوعىٍّ مُتقدِّم، وبعدما فقد التنظيم حواضنه وانزوى فى جيوبٍ هامشية مُتفرِّقة. ربما جاء ذلك ردًّا على الحوار، أو لغايةٍ مُغايرة وضد خصمٍ آخر؛ لكن تظل وراءه دلالة كاشفة، لناحية أن الأوضاع لم تستتب تمامًا للنظام، وأنه ما يزال جالسًا على برميل بارود.
لتكتمل النظرة العاقلة؛ لا مفرَّ من القول إن «نظام الأسد» ربّما حسم مُنازلته مع خصومه من الميليشيات الإسلامية؛ لكنه خسر السيادة على الميدان وفرحة الانتصار. إنه وهو يُطالب الآن بتحصيل فواتير قديمة من جواره القومى؛ لقاء تخلِّيهم عنه فى المحنة حسبما يرى، يُسدِّد فواتير لآخرين دعموه تحت شرط الاندماج الكامل فى برامجهم بالإقليم، ولم يعد قادرًا على التحرُّر من الوصاية، كما يمنعه الكبرياء أن يُقرَّ بها صراحةً؛ لذا يبحث عن مُسوِّغاتٍ أُخرى للوفاء بديونه القهرية للحلفاء، دون حرجٍ أو انكشاف على الأشقاء. فى المُقابلة، قال إن المنظومة العربية شكلية، تُدمن الخطابية والشعارات دون أثرٍ أو فاعلية، واستخلص من ذلك أن عودة سوريا للجامعة ستظلُّ شكليّةً؛ كأنه يُمهِّد للخروج من التزامات الشراكة التى أقرَّتها تفاهمات عمان والقاهرة، وشدَّدت عليها مُخرجات قمَّة جدّة.
من حيث لا يُريد، أصبح «بشار» ورقةَ مناورةٍ فى لعبة إقليمية واسعة، ودُفِعت سوريا تحت مبدأ «وحدة الساحات» لتنضمَّ إلى ميادين عضِّ الأصابع واختبارات الثِّقَل والنفوذ. يحدث ذلك فى لبنان الذى يعيش فراغًا سياسيًّا وتنفيذيًّا عميقًا، وفى اليمن الذى تجاوز الفراغ إلى الضياع، وفى «غزّة» التى أُريد لها أن تكون عودَ ثقابٍ بجوار حقل القشّ، وفى العراق الذى تُدار فصائله مثل قطع الشطرنج، وكلُّها تبتلعها ميليشيات تُوظِّف فوائض قواها لخدمة مشاريع إقليمية «فوق وطنية». سوريا ليست بعيدة عن تلك التوازنات، بل هى فى سُويداء قلبها؛ لأنها حبّة الكريز على وجه «التورتة العربية»، ومَجمَع الجغرافيا الذى تتلاقى عنده أغلب الساحات، والأهم أنها باتت الأكثر خضوعًا، وميدانها مفتوح على آخره للحضور المُباشر.
كانت مصر، ومعها دول عديدة، تجتهد لاستعادة سوريا إلى الحاضنة العربية؛ لكن جولات التوافق استغرقت شهورًا، وعندما أثمرت كان قد سبقها اتفاق سعودى إيرانى برعاية الصين فى مارس الماضى. تجمَّدت مفاعيل الاتفاق سريعًا، وتحدَّثت جهات عن أنه محصورٌ بين طرفيه فقط؛ بعدما كان المأمول أن تُفضى الورقة إلى تهدئةٍ شاملة؛ لكن أطراف البيئات الساخنة فى الإقليم جمَّدت مشاهدها فى انتظار النتائج، مع نموِّ آمالهم فى أن يُضيف الاتفاق لأرصدتهم فى مواجهة الخصوم: رفع الحوثيّون سقف تطلُّعاتهم، وتشدَّد الثنائى الشيعى فى رئاسة لبنان ومسألة السلاح والهيمنة و«اتفاق الطائف» المُكبَّل بالثُّلث المُعطِّل، وتغطرست قوى الحشد الشعبى لترفع حرارة العراق، وبالتبعية لحست سوريا تعهُّداتها للعرب؛ إما مُجبرةً أو من أجل مكاسب أكبر.
لم يُبد «الأسد» اعتراضًا على ورقة التفاهم: التقارب وتشبيك العلاقات، والعمل المشترك ضد المخدِّرات والإرهاب، وعودة اللاجئين طوعيًّا دون ملاحقةٍ أو تخويف، على أن ينضبط ذلك تحت سقف المُقرَّرات الدولية و«الخطوة مقابل خطوة». قطعت الجامعة العربية ودولها الكبرى خطوات، ولم يقطع هو خطوته الأولى، وما زال الغموض يُغلِّف مسألة الترتيبات الانتقالية بموجب القرار 2254 بإطلاق مرحلة انتقالية، وعملية سياسية واسعة تُفضى لانتخابات بشراكة كل التيارات الشرعية. قال الرئيس فى حواره المُتلفز إنه لن يعمل إلا مع مُعارضة «مُصنَّعة بالداخل»، وهو موقف قد يكون مفهومًا ومُقنعًا لو تبعه إعلان المقبولين والمرفوضين على الطاولة المُرتقَبة، لكن ذلك لم يحدث. ما حدث أنه وضع عودة اللاجئين تاليةً لمُساعدات الإعمار، وهو ما لم يكن مُتَّفقًا عليه سابقًا، وما قد ينذر بالتلاعب؛ لا سيما أنه صرَّح من قبل بأن سوريا «أصبحت أكثر تجانسًا» بعد خروج تلك الملايين، ما قد يُشير لرغبة فى إبقائهم بالخارج، أو خطَّةٍ لإعادةٍ انتقائيّة مُوجَّهة جغرافيًّا، بما يُرسِّخ الهندسة الاجتماعية والديموغرافية الجديدة، ويصبغ سوريا التاريخية المُنفتحة بصبغةٍ مذهبية وعرقية، تذهب بها من دولة مُواطنة وتعايش إلى «جيتوهات» وجُزر طائفية مُنعزلة.
فى عملية «داعش» الأخيرة لا يُمكن استخلاص الرابح والخاسر بسهولة. خسر النظام جنودًا؛ لكنه جدَّد فزَّاعة الإرهاب، والأكراد قد يُعانون صحوةَ النظام وحُلفائه؛ لكنهم أكَّدوا أهمية دورهم الراسخ ضد الإرهاب، والأمريكيون قد يُواجهون سخونةً مُضاعفة مع الروس وغيرهم؛ لكنهم امتلكوا مُبرِّرًا للبقاء وتكثيف الوجود، وربط سوريا بامتداداتهم فى العراق. وشمالاً، عاد الحديث عن بقايا الميليشيات؛ لكنهم يستمتعون بانزعاج «الأسد» وتوتُّر دوائره الأمنية أمام الاختبار المُتجدِّد. تلك أفدح مُعضلات الأزمة السورية، أن الخطوط فيها مُتشابكة، والمصالح مُتداخلة، والموقف الواحد يحتمل التأويل على عدَّة وجوه، تُبرِّئ الجميع وتضعهم موضع الاتهام فى الوقت نفسه. القفز إلى الضفَّة العربية يُمكن أن يُنقذ دمشق ونظامها القائم من الأحبال التى أحكمها أعداؤه وأصدقاؤه حول رقبته؛ لكنه أوّلاً لا يُريد ذلك ثأرًا من حوادث الماضى، وثانيًا لا يقدر عليه انطلاقًا من استلاب إرادته، ثم عدم استشعاره للأمان، وأخيرًا ارتباك الإقليم وعدم اتِّضاح ما قد تؤول إليه الأمور فى تقاطعاته الداخلية، ومع قوى الخارج الكبرى.
أدار نظام البعث لعقودٍ علاقات صراعية فى المنطقة.. فرض الوصاية على لبنان، ووضع «حماس» فى حصَّالة أذرعه الطويلة، ورفع شعار «المُمانعة» فى مُزايدة فجَّةٍ على الجوار العربى الباحث عن سياسة رشيدة. كان فى ذلك وكيلاً بدرجةِ شريكٍ لأجندة إقليمية ترفع راية ثورة مذهبية، وخصمًا أقرب إلى «صديق لدود» لمشروع مُنافسٍ استعار عنوان الخلافة غطاءً لنزوع امبراطورىٍّ قديم. دارت الأيام ووجد «الأسد» نفسه تابعًا لا شريكًا للأوَّل، وضحيّةً لا ندًّا مُكافئًا للثانى. وقد جُرِّد من سطوته فى بيروت قبل أحداث 2011، وفُصِلَ عنه جناح غزّة بعدها، وقُضِمَت قرابة 11% من أرضه عنوةً لصالح الغريم، الذى استقطع جزءًا فى السابق بتفاهمات مع الفرنسيِّين، ثم اقتنص ترتيباتٍ أمنيّة قاسية باتّفاق مع الرئيس الأب. نظام دمشق اليوم أقرب إلى جسدٍ مبتور الأطراف؛ لكنه يُحاول التلويح أمام العرب بأيادى الآخرين، والإيحاء بأنه أُخطبوط يمكن أن يمدَّ طرفًا فى كل ساحةٍ؛ ما لم تُدَر اللعبة حسب شروطه. لا هذا صحيح، ولا الصدام معه مطلوب، وعلى الجوار القريب أن يُرتِّب له فرصةَ استشفاءٍ رخيصةً ومُغرية، وعليه استيعاب أن أذرعه لن تنبت فى رعاية من قطعوها، أو من تقضى مصالحهم بأن تظل مقطوعة.
تلوح ثمارٌ ناضجة على غصون التقارب: اجتماع اللجنة الأمنية السورية الأردنية قبل أسابيع، وتنسيق دمشق مع بغداد بتبادل المعلومات وتفكيك شبكات التهريب. وقد أنجزت «لجنة الاتصال» جولةً ناجحة؛ من ناحية تأكيد الثوابت الرامية إلى تصفية بقايا الأزمة سياسيًّا، بما لا يُقوِّض الدولة، ولا يُكافئها بالخلاص من عبء لاجئيها. ملفَّات المُخدِّرات والسلاح والإرهاب لا تقبل المساومة، والذهاب إلى عملية انتقالية ضرورة لا مفرَّ منها مهما تأجَّلت. من المُقرَّر أن تكون الجولة التالية فى بغداد، وليس مُتوقَّعًا أن يتغيَّر خطاب الأسد أو تنضج مُمارساته فى العناوين الخلافية؛ إذ لا يملك القرار مُنفردًا، ولا يخلو الأمر من رغبةٍ فى استغلال الظرف لتحصيل مكاسب من الخليج وبقيَّة الشركاء العرب. التحدِّيات على قدر التركة الثقيلة، والعودة إلى دمشق لن تكون سهلةً بفعل الغياب الطويل عنها؛ إنما تظلّ غايةً عُليا تستأهل الصبر والمُثابرة وتكرار المحاولات. إذا كانت المنطقة قد أفلتت من مُخطَّط أسود فى موجتى 2011 و2019؛ فإن اكتمال العبور وتمام العافية لن يتحقَّقا إلا إذا عاد الشام لسيرته الأولى، وحاضنته العربية الأم؛ إذ لا عروبة من دون مظلَّة جامعة، ولا جامعة من دون دمشق حُرَّة ومُستقلة وذات سيادة كاملة.