أتذكر فى مثل هذا اليوم تولى الخليفة المأمون، ابن هارون الرشيد، الخلافة سنة 198 هجرية بعد مقتل أخيه محمد الأمين، وهذه قصة أخرى لا مجال للخوض فيها، لأنها مؤلمة جدًا وأرست سنة سيئة في التاريخ الإسلامي (قتل الأخ من أجل السلطة)، لكن المهم أن المأمون من جانب آخر كان له ميل للمعتزلة وأفكارهم، وبالمجمل كان مهتمًا بالعقل والعلم وفى عصره حدثت نهضة علمية وثقافية مهمة.
ومع اهتمام المأمون بالعلم والعقل فقد ارتكب خطأ كبيرًا، إذ راح يفرض أفكاره على الجميع، وهو بهذا الأمر لم يختلف عن تعصب من كان قبله، هم يفرضون رأيهم وهو يفرض رأيه، وأخطر ما فرض رأيه فيه القول بأن القرآن مخلوق، وهى المحنة الكبرى المعروفة فى التاريخ الإسلامى بـ"محنة خلق القرآن".
وقد قرب الخليفة المأمون رجال المعتزلة من مجلسه وجعلهم فاعلين نافذين، وهم ليسوا سواء فى العقل والرغبة فى خدمة الإنسانية، فمنهم الصالح الباحث عن بناء الحضارة الإنسانية، ومنهم الأفاق الباحث عن المصلحة الشخصية، ومن هؤلاء كان أحمد بن أبى دؤاد، وكان مقربا من المأمون، وهو من أوعز للمأمون أن من يخالف فى القول بخلق القرآن فهو يخالف الدولة ويقف ضد المأمون شخصيا.
انطلقت الفتنة وراح المأمون يمتحن الناس، فيثبت القائل بخلق القرآن في مكانه ومنصبه ويعزل من يختلف معه فيقطع رزقه وقد يسجنه ويجلده، وقد عانى الناس الأمرين، وممن عانى من هذا الأمر الإمام البخاري والإمام أحمد بن حنبل.
الإمام أحمد بن حنبل، وهو من هو في أهل السنة، وما كان له أن يفكر في هذ القضية أصلا، لأنه يؤمن بأن "القرآن كلام الله لا أقول مخلوق أو غير مخلوق"، لكن هذا الكلام لم يقنع الخليفة ورجاله، لذا وجب أن يكون أحمد بن حنبل واضحا ومحددا فقال "إن القرآن ليس بمخلوق؛ لأن المخلوق فان، وحاشا لكتاب الله أن يعد في الفانين"، وبهذا أصبح ابن حنبل عدوا للخليفة، الذي أمر بأن يأتوا بابن حنبل إلى مقر الحكم في بغداد، ونفذ الجنود الأمر فألقوا القبض على الإمام، وعاملوه معاملة أهل المجرمين وهو ليس كذلك.
ومات المأمون قبل أن يصل الإمام إليه، وكان المفروض أن ينتهى هذا الأمر لكنه لم يحدث، ولا أعرف لماذا لدي اعتقاد بأن المأمون ما كان سيؤذي الإمام، ربما كان سيحاوره، لا أعرف لكن في ظني أن الأمر كان سيتحرك في طريق مختلف، عما آل إليه الأمر.
مات المأمون في سنة 218 هجرية، وجاء المعتصم، وحسبما يشير البعض بأن المعتصم في البداية لم يكن متحمسا للاستمرار في هذا الأمر، لكن أحمد بن أبي دؤاد أكد له أن التخلي ليس في صالح الحكم العباسي، وأن المخالفين إنما يهينون الخليفة شخصيا، ولأن المعتصم ليس رجل علم وثقافة، لكنه رجل سياسة وسلطة، لذا تعامل بكل قسوة مع الإمام أحمد، فحدث ما تعرفون من "سجن وتعذيب".
كنت أريد أن أكتب هنا دفاعا عن المأمون ولكن تأكد لي أثناء الكتابة أنه متورط بالفعل في هذه المحنة، وأنه لم يروض العلم، بل العلم هو الذي سيطر عليه وجعل منه "أصوليا" لا يختلف كثيرا عن أي متعصب لفكرته ومدافع عنها لدرجة ظلم الآخرين.