بدا المشهد كأن «مارك» وفريقه يرقصون حول النار، وينفخون فيها. على قسوة العبارة؛ فإنها توصيف قريب لما جرى من عملاق التقنية والمنصّات الاجتماعية فى واحدة من أفدح أزمات كندا. كانت ملايين الأفدنة تحترق، والناس بين قتلى ومُصابين ونازحين، وأعمدة الدخان تُغطِّى سماء البلاد وتمتد إلى الولايات المتحدة والنرويج، وبينما تتواتر الجهود لحصار النيران، كان «فيس بوك» يُحاصر الأخبار وتحديثات الموقف والتطورات والإرشادات، بالغة الأهمية والضرورة فى هكذا ظروف. حتى أن رئيس الوزراء جاستن ترودو هاجمه صراحة، وقال إنه يضع مصالحه وأرباحه فوق سلامة البشر، معتبرًا ذلك سلوكًا غير مُقنع ولا مُبرَّر من الشبكة.
يُثير موسم حرائق الغابات الكندية سؤالاً قديمًا ومُمتدًّا عن وضعية شركات التقنية وتغوُّلها على الأسواق. وهى مسألة تبدأ من القواعد الناظمة لتدفُّق المعلومات، وتمتد إلى مصالح جامعى الأخبار وأصحاب المحتوى، الذين لا يتحصَّلون على عوائد عادلة من موارد الإعلان. كانت كندا قد دخلت على خطِّ المواجهة، بعد جولة سابقة خاضتها أستراليا وفرضت فيها شروطًا أقرب للمنطق على «جوجل وميتا»؛ لكن الأخيرة استبقت مسارًا تشريعيًّا لسن قانون يُنظم التفاوض مع وسائل الإعلام على حقوقها، بحظر الأخبار الكندية من منصَّاتها، بحيث تمنع تمكين الناشرين والصحفيين من بثّ موادّهم، ولا تسمح بوصول المُستخدمين إلى القصص الإخبارية المحلية أو الخارجية. وشرع «فيس بوك» فى التطبيق على نطاقٍ واسع. ورغم أن القانون الجديد لم يدخل حيِّز النفاذ؛ فقد ظلَّ الموقع على موقفه، ولم يتراجع أمام الظرف الاستثنائى الذى يفرضه موسم الاشتعال الرهيب.
خسرت كندا نحو 34 مليون فدان، وسقط 10 ضحايا وآلاف المصابين، كما وُضع نحو 60 ألف شخص فى مناطق الشمال الغربى تحت أمر الإجلاء. مجموعة صناعة الأخبار فى البلاد طالبت هيئة مكافحة الاحتكار بإخضاع «ميتا» للتحقيق، بسبب إجرائها المُتسلِّط بحظر الوصول للمحتوى وإساءة استخدام مركزها الاحتكارى المُهيمن. كانت الدعوة فى وجهها المُباشر دفاعًا عن حقوقٍ يرى الناشرون أنها مهضومةٌ لصالح المنصَّة، وبحثًا عن مساراتٍ لترشيد الخسائر والضغوط المالية الناجمة عن تحوُّلات سوق الإعلان؛ إنما التزامن بين أنين الصحف وصرخات المُحاصَرين بألسنة اللهب فى الغابات، منح الأمرَ بُعدًا أعمق وأشدَّ أثرًا وخطورة. لم يعد الخلاف على اقتسام الكعكة فحسب؛ لكنه اتَّسع ليشمل خروقات تقع فى صلب الإنسانية وسلامة البشر، وربما المُشاركة المُتساهلة فى صناعة الموت.
تعود جذور المشكلة إلى النموِّ الخارق لشركات التقنية، واستقطابها أغلب مُخصَّصات التسويق والدعاية فى بيئات عملها الإقليمية، مع تشدُّدٍ فى الإفلات بتلك الأرباح دون أعباء مُقابلة، ودون تعويض الشُّركاء والمُضارين. أسَّست المنصَّات مشروعها على أكتاف الناشرين وجامعى الأخبار، وأغرتهم فى أول الطريق بمزايا وبرامج تعاون وفُرصٍ أوسع للانتشار؛ لكنها لم تمنحهم إلا فُتات المكاسب، وبعدما اكتمل مُرادها فى توسعة فضاءاتها الاجتماعية، ومضاعفة أعداد الزوَّار النشطين يوميًّا، تخلَّت عن المُؤسَّسات الإعلامية وبدأت التضييق عليها، وتحولت نحو مُساندة الهُواة وقنوات المحتوى الفردية، ولم يعد على الناشرين العمل مجانًا فقط؛ بل بات مطلوبًا منهم الدَّفع من أجل الوصول للجمهور والبقاء على قيد الحياة.. الصورة الآن أشدُّ قتامة؛ إذ أُضيفت إليها مخاوف حقيقية تتَّصل باستقامة المنصَّات وما تعتنقه من قِيَم، والحدود التى يُمكن عندها أن تكبحَ شهوة الربح وتنتصر للضمير. وهو سؤال يبدو أنه ما زال مُعلَّقًا من دون أجوبةٍ نزيهة.
إنَّ آلافًا من الناشرين وجامعى الأخبار، والمُؤسَّسات العاملة فى حقول المحتوى المُتنوِّعة، يُحرِّرون شيكات يوميّة على المكشوف لقاء الخسائر التى يتكبَّدونها، ولا يعود ذلك إلى ضعف اقتصاديات الشبكات الاجتماعية حتى يكون النزيف مقبولاً أو مُبرّرًا، إنما سببه الوحيد يُلخِّصه جشع أباطرة التقنية، ومَن يُمارسون صيغةً رقميةً من الإمبريالية القديمة. أمَّا التطوُّر ضمن تلك العلاقة المُشوَّهة؛ فينجلى فى الموقف غير الأخلاقى مع كارثة طبيعية مثل حرائق الغابات، التى لم تكن بكلِّ فداحتها كافيةً لإقناع حُكَّام مُستعمرات التكنولوجيا بالنزول عن جزءٍ من أرباحهم المهولة، وانتهاج سياسات أقل توحُّشًا لصالح مُساعدة الناس على النجاة بأرواحهم ومُمتلكاتهم. هنا يكون السؤال: عند أى مستوى من الكوارث يمكن أن ينطفئ نَهَم الشركات الكبرى؟ وما الضامن لانضباط سلوكها حال تعارضت المصالح؟
قبل أيام، شنَّ إيلون ماسك، مالك منصة X «تويتر سابقًا» هجومًا كاسحًا على مُنافسه مارك زوكربيرج، فاتَّهمه بالتلاعب بالمستخدمين من كل العالم عبر خوارزمياته المُوجَّهة؛ ولهذا يتباطأ فى إتاحتها بصيغةٍ «مفتوحة المصدر» لتكون محلَّ رقابةٍ وتدقيق. هذا الطرح دقيقٌ ويقبض على لُبِّ الأزمة؛ إذ تُدير برمجيات «ميتا» وتوابعها بيئةً رقمية غير آمنة، تستثمر فى الشعبوية وتدفع جمهورَها إلى الجنون؛ سواء بسياسات النشر ومُعدَّلات تمرير المحتوى، ومعايير التفاعل المُخلصة للتطرُّف والطائفية وخطابات الكراهية. لكن المفارقة أن «ماسك» نفسه لم يبتعد كثيرًا فى منصَّته. كان يتحدَّث عن إلغاء خاصية الحظر «بلوك» مُنحازًا إلى استعادة حالة السيولة والتلاسن، وتنشيط معارك الأيديولوجيا والفئويات، بينما لم يحتمل نقد الممثل العالمى جيمس وودز فبادر إلى حظره. وبجانب هذا التناقض، ابتكر أداةً احتياليّة لخَنق الناشرين والصحفيين.
خطوة تويتر، أو X، تضمَّنت تأخير الوصول إلى روابط الأخبار عدَّة ثوانٍ. طوال الأسابيع الماضية أكَّد باحثون ومُستخدمون عاديّون أنه لم يعُد بإمكانهم الولوج إلى المواقع بالإيقاع المُعتاد. هذا الإجراء يتسبَّب فى تقليص زيارات المنصَّات الإخبارية فى المدى القريب، ثم تغيير عادات المُستخدمين وصولاً إلى القطيعة مع النطاقات الإعلامية. يترافق ذلك مع توسعة حيِّز النشر لنحو 25 ألف حرف، من أجل استقطاب الصحفيِّين ومُؤسَّساتهم لنشر القصص عبر تويتر مُباشرة. كانت «جوجل» قد أجرت بحثًا فى 2016، استخلصت ضمن نتائجه أن 53% من الزوُّار يتراجعون عن إكمال زيارتهم لأى موقع حال تأخير الوصول إليه لمدّة 3 ثوانٍ؛ لكن «ماسك» جعلها 5 كاملة. وفضلاً على ذلك، فقد صرَّح مُؤخّرًا بأنه بصدد إزالة العناوين أصلاً من الروابط، لتُصبح مُجرَّد صورٍ نشطةٍ فى برواز فارغ، وتلك الخطوة قد يتجاوز أثرها لعبةَ إبطاء التنشيط؛ إذ لن تكون المنشورات الإخبارية مُلفتةً أو مُشجِّعةً على التفاعل، حتى لو أُرفق معها سطر مُوجز عن المحتوى؛ فإن عدم مُطابقة الرابط للمنشور قد تشى بالاحتيال، وقد يرى المستخدمون أنها مصيدة للزيارات، ما يدفعهم لاحقًا لتجاهل الأخبار والإقلاع عن الضغط على روابطها الخرساء.
ما يحدث فى ميتا أو X حاضرٌ بصورٍ مُختلفة فى بقيَّة المنصَّات الكبرى. الجميع يعملون من أجل استقطاب الجمهور وحبسهم داخل المنصَّات، ويدعمون الأفراد مُقابل تكسير الكيانات، ولا يُطوّرون برامج مُكافآت عادلة أو مُجزية. ومع كل تلك الخروقات، ما تزال حقوق الملكية عُرضةً للانتهاك، والمعلومات المُضلِّلة ورسائل الكراهية والطائفية والعنف رائجةً على نطاقاتٍ واسعة. يمكن أن يختلس الأفراد مواد المؤسَّسات وناشرى الأخبار، أو يُؤسّسوا مُحتواهم عليها؛ فتصل المادة المسروقة وتنتشر، بينما تُحبَس نُسختُها الأصلية فى قيود الخوارزميات الخانقة. وكلَّما تطوَّرت حالة إجماعية بين المُتضرِّرين، ودفعت فى اتجاه ضبط السوق أو تنظيم العلاقة بالقانون، تلجأ الشركات المُفترسة إلى إعلان حربٍ استباقيّة، ثم إصدار حُكمٍ بالإعدام على الوسائط المُتمرِّدة. تكرَّر ذلك كثيرًا ومرَّت الخطَّة بسلام؛ غير أن الأثر الذى خلَّفته فى أزمة الحرائق الكندية يستدعى النظر بحسمٍ لتلك المُراوغة، والبحث عن آليات ضبطٍ وحوكمة أكثر كفاءة، ولها قُدرة الإلزام، ولا تكتفى بالتشريع المُعطَّل ثم قبول الطلاق غير المُكلِّف.
تبدو الأزمة مُركَّبةً من زاويتين: الأولى تخصّ المكاسب والانصياع للقوانين الوطنية، والثانية عن الدور السياسى وتبعية الشركات الكاملة لبلد المنشأ. بينما تُحقِّق شركات المنصَّات الاجتماعية أغلب أرباحها من جيوب سكان العالم بالتساوى؛ فإنها لا تلتزم إلا أمام حفنةٍ زهيدة من الحكومات الغربية. دخل قانون الخدمات الرقمية «DSA» حيّز النفاذ فى الاتحاد الأوروبى بمسؤوليات واضحة للشركات عن المحتوى. نجحت فرنسا وألمانيا وغيرهما فى إلزام حيتان التقنية بمعايير عمل مُحوكمة وفق بيئاتها التشريعية، وفرضت عليها غراماتٍ باهظةً عن تجاوزاتٍ فى الأمن والمحتوى، وأجبرتها أستراليا وبعض الولايات الأمريكية على تسوياتٍ مُتوازنةٍ مع ناشرى الأخبار؛ لكن بقيّة الدول تُسهم بالحصَّة الأكبر فى مواردها ولا تستطيع استحصال أية حقوق أو التزامات. عندما اندلعت الحرب الأوكرانية، فرضت كل الشبكات حظرًا على الوسائط الروسية، وبعيدًا من تقييم أخلاقية الإجراء، فإن ذلك لم يحدث مع وسائل الإعلام الغريبة فى تجاوزات دُولها العسكرية والسياسية ضد عشرات الجبهات المُشتعلة. وبينما وضعت بعضها إشارات تصنيف حكومية لبعض الإصدارات الخاصة فى عدَّة دول، لم يحدث ذلك مع وسائل رسمية وشبه رسمية، تحصل على تمويلاتٍ من حكومات أوروبية، أو تتبنى خطاباتها بدعائيّةٍ واضحة. إننا إزاء مُمارسة رقمية ذات طابع سياسى صريح، إمَّا بإسناد أجندات دول أو بمُحاصرة غيرها، وهو سياقٌ يتجاوز قِيَم الثورة التكنولوجية والمعرفية، وما تقوم عليه من إعلاءٍ لاعتبارات الانفتاح والتكافؤ والفردانية وتداول المعلومات بتجرُّدٍ وحيادية.
خلال أزمة كورونا، جُنّدت كل المنصَّات وراء سردية واحدة. كانت فى بادئ الأمر مُنحازةً للضوضاء المعلوماتيّة وتوجيه أصابع الاتهام للصين، ثم انضبطت لاحقًا بمعايير منظَّمة الصحة العالمية وتمكين الناس من الوصول للأخبار والبيانات المُدقَّقة. الانتقالة الإيجابية التى حدثت مع الوباء لا تتحقَّق دائمًا فى بقيَّة الملفَّات. هناك موضوعات تُدار بمنطق البروباجندا والتوجيه المقصود دون تدخُّلٍ جاد من حكومات المنصَّات، وما تزال معلومات المُستخدمين قيد الاستغلال والتوظيف التجارى، وتدريب البرامج اللغوية وبرمجيّات الذكاء الاصطناعى. وعوائد الإعلان خارج الرقابة والتدقيق المُحاسبى، والفُتات الذى يصل إلى مُنتجى المحتوى يُدفَع بصيغة المِنحة، وليس تحت شرط الاستحقاق وفى ضوء مُعادلة مُتّزنة ومُعلَنة للجميع. والمُؤسَّسات تنزف دمًا بالإبعاد الظالم أو الإجبار على الدفع للبقاء، ولا تتمتَّع لقاء ذلك بأيّة حماية بينما تتعرَّض للقرصنة طوال الوقت. وأخيرًا، تقع الحوادث الكفيلة بفرض حالةٍ استثنائية تتجاوز كل حسابات الصراع والمصالح، لكن الشركات لا تهتم أو تحرُّك ساكنًا، وترقص حول النار والدم كما حدث فى حرائق الغابات.
كندا ليست واحدة من دول العالم الثالث، ولا سوقًا من البشر معدومى الوزن كما ينظر ساسة الشمال وحيتان التكنولوجيا للبيئات الجنوبية. ما حدث من تحدٍّ و«عضّ أصابع» فى سياق أزمة طارئة، يُشير إلى أن مُطوِّرى التقنية العالميين قد توحَّشوا لدرجةٍ تتجاوز القانون والإنسانية، وليسوا راغبين ولا مُستعدِّين للرجوع عن مكاسبهم من المال والهيمنة. الرسالة، أن أرواح الغربيِّين أنفسهم لا قيمةَ لها لو تعارضت مع مصالح الامبريالية الرقمية، وحال سعت دولةٌ أُخرى من الهامش الفقير إلى الدفاع عن حصانة بيئتها الاجتماعية والاقتصادية، أو الدفاع عن حقوق مُستثمريها وعُمَّالها، وإنجاز شروط موضوعية لتنظيم سوقها الافتراضية؛ فقد يكون الردُّ أشرس وأكثر ازدراءً لكل قيمة وقانون. لقد أنجزت التكنولوجيا قفزةً معرفيّة وإبداعية غير مُنكَرة فى سلسلة الحضارة الإنسانية؛ لكن سياسات المُتسلِّطين عليها الآن أقرب إلى رِدّةٍ كاملة عن هذا المنجز وفوائضه الأخلاقية والحضارية. إذا كانت نار الصيف والاحترار العالمى قد التهمت غابات كندية توازى خمسة أضعاف جغرافيا فلسطين، التى لم يهدأ النزاع عليها منذ ثمانية عقود؛ فإن ما تمارسه شركات التقنية أقرب إلى محرقةٍ بحجم الكوكب، ولن ينطفئ سعيرها بانقضاء الصيف أو توقيع هُدنة مع المناخ مُفرط الجنون. إنهم يرقصون حول النار، وعلى جُثث المُحترقين بلعنة الرقمنة ورفاهيَّتها، وقد لا تتوقف الحرائق إلا لو تجمَّد الرقص المحموم، أو انضبط على إيقاعٍ أكثر تحرُّرًا.