تحاول الدولة المصرية وفق سياساتٍ تتسم بالشفافية والوضوح أن تعمل على توفير المزيد من فرص العمل بكافة تنوعات مجالاته؛ للنهوض بالمستوى الاقتصادي لأفراد المجتمع بغية التنمية المستدامة في شقيها البشري والمادي؛ إلا أن هناك تحدياتٍ ومشكلاتٍ سكانية جمةً يأتي في مقدمتها التزايد السكاني غير المنضبط بما يؤثر سلبًا على مخرجات التعليم والمستوى الصحي والمجال الاقتصادي والتنموي، وبما يُصعب محاولات الوفاء باحتياجات المجتمع ويحد من نهضته ورقيه وازدهاره.
وفي الحقيقة نقف كثيرًا أمام تحديات الزيادة السكانية، وعندما نفكر من أين نبدأ نجد أن الحلول تقوم على ضرورة امتلاك وعيٍ صحيحٍ تجاه الثقافة الإنجابية؛ فمن خلالها يستطيع الفرد أن يخطط لحياته الأسرية وفق قناعاتٍ ورؤيةٍ واضحةٍ، يأتي في مقدمتها توفير متطلبات إقامة حياةٍ زوجيةٍ يتحمل فيها الطرفان المسئولية التي تؤهلهم لرعاية نشءٍ جديدٍ من تربيةٍ وتعليمٍ ومسكنٍ مناسبٍ وملبسٍ ومأكلٍ صحيٍ، يسبق ذلك الرعاية الصحية أثناء الحمل وبعده لضمانة سلامة الأطفال؛ بالإضافة للوعي بقضايا ما قبل الزواج من حيث درجة القرابة والأمراض الوراثية والممارسات الجنسية الصحيحة من قبل الطرفين، وأهمية الفحوصات الطبية للمقبلين على الزواج.
وضرورة شيوع الثقافة الإنجابية بين أفراد المجتمع يرجع أهميتها إلى أن التنمية الاقتصادية في الدول تقوم على موارد بشرية تتمتع بالصحة والمقدرة على العطاء على المستوى البدني والفكري، ومن ثم تتكون العلاقات الاجتماعية التي تعضد فكرة الترابط والمواطنة في صورتها الصحيحة، وفي المقابل نجد أن المجتمعات التي تعاني من تفشي الأمراض بصورها المختلفة نتيجةً لضعف الوعي بالثقافة الإنجابية يصعب أن تحدث في أوطانها التنمية الاقتصادية في مسارها المستدام؛ نظرًا لأن الصحة العامة للمجتمع أضحت معيارًا لتقدم ونهضة المجتمعات والدول.
ونظرًا لأن نظمنا الاجتماعية في معظمها تقوم على العادات والتقاليد؛ فإن ذلك يستلزم بذل جهودٍ مخططةٍ لتعديل بعض العادات والتقاليد ذات الموروث غير الصحيح، مثل مفهوم العزوة الذي تحتم على الفرد أن ينجب الكثير من الأولاد ليكونوا سندًا له بعد كبره وذكرى مستمدةً بعد وفاته، بغض النظر عن توافر متطلبات الحياة من مأكلٍ ومشربٍ وكساءٍ ومأوى وتعليمٍ وعملٍ ودخلٍ يتناسب مع عدد أفراد الأسرة التي يعولها، وهنا تقتضي الضرورة للمكاشفة التي تُظهر سلبيات هذا المعتقد من خلال برامج توعيةٍ تستهدف ربوع الوطن لتتأصل حالة من القناعة لدى أفراد المجتمع المصري بما يلقى على أفراده المسئولية التي تحدث التوازن في المواقف على أرض الواقع، وتحض على التصرف والسلوك السليم تجاه تلك القضية الخطيرة.
ويُعد فقه الفرد للواقع السكاني من الأمور التي تجعله يخطط لمستقبله بشكل صحيح؛ فيضع في حسبانه مفردات الواقع السكاني لمجتمعه الذي نشأ فيه من حيث العدد والتشكيل والمساحة والموارد وخريطة التوزيع، واستيعاب ذلك مفاده أن يتنبأ بمستقبله؛ ليتخذ القرار المدروس تجاه تكوين أسرة في بيئةٍ مجتمعيةٍ مواتيةٍ لتطلعاته، يتوافر فيها مقومات الحياة التي تمكنه من تربية نشءٍ يُساهم في البناء ولا يُعد عبأً أو عالةً على المجتمع يتلمس المعونة من جهاتٍ رسميةٍ أو غير رسمية، بل يمتلك المهارة التي تفتح له مسارات العمل المتعددة بمجتمعه ليصبح منتجًا مساهمًا في نهضة وبناء وطنه.
وآليات المعالجة ينبغي أن تكون على أرض الواقع ليحدث الوعي المنشود لكافة أطياف المجتمع المصري، ومن ثم تتوجب الشراكة في تنفيذ برامجٍ تستهدف التربية السكانية وتناول المشكلات بصورةٍ إجرائيةٍ لتستقي الحلول من المجتمع ذاته، ومن ثم تنمو الاتجاهات الإيجابية نحو خفض معدل النمو السكاني عن قناعة تامة.
وهناك دورٌ مهمٌ للمؤسسات التعليمية ينبغي القيام به، متمثلًا في تطبيق المنهج السكاني الذي يستهدف تنمية الوعي بالقضايا السكانية وفي مقدمتها مشكلة الانفجار السكاني وطرائق المعالجة التي تحد من آثارها لتحقيق غايةٍ كبرى تتمثل في نهضة وبناء الوطن، وخبراء المناهج التعليمية لديهم المقدرة الكافية لتناول وترتيب الأولويات الخاصة بقضايا التربية السكانية وفق طبيعة وخصائص المرحلة التعليمية؛ لتحدث تشكيلًا للوعي الصحيح في صورته المنشودة.
ويصعب أن نقلل من قدر التأثير الإعلامي بصوره المتباينة في تنمية الوعي بالقضايا السكانية، من خلال نشر الثقافة السكانية، ولا ينفك ذلك عن جهود المؤسسات المجتمعية عبر ملتقياتها وندواتها ومؤتمراتها الجماهيرية، كما لدور العبادة تأثيرٌ بالغٌ في إحداث أثر تنمية الوعي الصحيح القائم على تحمل المسئولية نحو من نرعي من أبناءٍ، ويُعد ذلك مجتمعًا ترجمة عن شراكةٍ حقيقيةٍ تُسهم في حل المشكلة الأزلية.
وفق الله بلادنا، وهيأ لها أمر رشد وخير، ووفق قيادتها السياسية لما فيه كل الخير.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر