تنشغل الكثير من مراكز الأبحاث والتحليل، بمحاولة استشراف مستقبل النظام العالمى سياسيا واقتصاديا، على ضوء التحولات الواضحة التى تجرى علنا أو تحيطها اتصالات خلف الجدران، وهناك شبه اتفاق على أن قمة مجموعة العشرين G20، التى اختتمت أعمالها فى بهارات أو «الهند»، تختلف فى الكثير من التفاصيل عن سابقاتها، بناءً على نتائج قمة تجمع «بريكس»، التى انعقدت أول سبتمبر فى جوهانسبرج بجنوب أفريقيا، ومن مؤسسيها الخمسة أعضاء فى مجموعة العشرين «البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا»، وضمت إلى عضويتها مصر والأرجنتين وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لتصبح أعضاء كاملة العضوية.
وبالتالى فإن توسيع «بريكس» مع بنك التنمية التابع له، يمكن أن يقدم بديلا قد يجبر الدول الكبرى على تغيير سلوكها، خاصة مع التفكير فى عملة موحدة «بريكس» أو توسيع التبادل بالعملات المحلية من شأنه أن يقلل من سيطرة الدولار غير المنطقية على اقتصاد العالم، وإرساء نظام عالمى متعدد يقلل التحكم، ويتيح منافسة أكثر تناسبا مع تحولات الاقتصاد فى العالم.
انضمام مصر ودول إقليمية إلى «بريكس» - أو تجمع الاقتصادات الناشئة - يعكس رغبة الاقتصادات الناشئة فى بناء نظام عالمى متوازن يسمح بالتنمية والتعاون ضمن نظام اقتصادى أقل تحكما وتدخلا، ورغم أن هذا موجه للنظام الاقتصادى، فإنه بالطبع يدخل ضمن النظام السياسى، لأن النظام الاقتصادى العالمى الحالى الذى بُنى بعد الحرب العالمية الثانية، ويحمل سيطرة أمريكية، لم يعد مناسبا فى ظل صعود اقتصادات كبرى مثل الصين، أو طموح روسى، وقد انعكست التفاعلات السياسية فى مواقف دول مختلفة تجاه الحرب الروسية الأمريكية، وظهر هذا فى قمة العشرين، حيث تلافت الهند إصدار إدانة مباشرة لروسيا، وحرصت على تضمين البيان الختامى مبادئ عامة ضد استخدام القوة، وتجنبا لأى إحراج دبلوماسى، ضغطت الهند المضيفة للقمة على أعضاء المجموعة للاتفاق على بيان مشترك برفض «استخدام القوة» فى أوكرانيا لتحقيق مكاسب ميدانية، من دون ذكر روسيا تحديدا.
البيان أتى مرضيا لروسيا، حيث قال وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف، إن الموقف الموحد لدول نصف الكرة الجنوبى أحبط محاولات الغرب لجعل أوكرانيا موضوع النقاش الرئيسى لقمة مجموعة العشرين، واعتبر نتائج قمة العشرين تعطى دفعة إيجابية لجهود إصلاح صندوق النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية، وأضاف «آن الأوان للتخلص من العادات الاستعمارية، ولا يتسنى للغرب أن يكون طرفا مهيمنا، إذ ظهرت مراكز قوى سياسية واقتصادية جديدة فى العالم».
بالطبع تصريحات لافروف تأتى بعد نجاح قمة بريكس الـ15، حيث تغازل موسكو دول الجنوب، والتى اتخذت مواقف تجاوزت فيها محاولات الاستقطاب الغربية، وقال الرئيس البرازيلى لولا دا سيلفا فى ختام القمة: «لا يمكننا ترك القضايا الجيوسياسية تهيمن على جدول أعمال مباحثات مجموعة العشرين.. لا مصلحة لدينا فى مجموعة عشرين منقسمة، نحتاج إلى السلام والتعاون بدلا من النزاعات».
وتسلمت البرازيل رئاسة مجموعة العشرين من الهند، ومن المقرر أن تعقد القمة المقبلة فى نوفمبر 2024 فى ريو دى جانيرو، وأكد «لولا» فى مقابلة تليفزيونية أن الرئيس الروسى بوتين سيتلقى دعوة لزيارة البرازيل، فى إشارة إلى أن روسيا ربما تكون نجحت فى كسر الحصار الغربى، وتجاوز الاستقطاب من خلال الضغط لإصلاح النظام الاقتصادى الدولى، وأشار وزير خارجية روسيا إلى العودة لاتفاقية تصدير الحبوب، وربطا هذا بتحقيق مطالب موسكو.
وبناءً على نتائج قمة العشرين، والقلق الغربى من بريكس، والذى ظهر فى تصريحات الرئيس الفرنسى ماكرون، حول الخوف من انقسام عالمى، يتوقع أن تنشط الدبلوماسية والتحركات الدولية فى محاولة لاجتذاب دول الجنوب، أو السعى لتفكيك التكتلات التى تمثل خطرا على التكتل الغربى، وسط رغبة صينية فى التحرك نحو نظام عالمى متعدد، تكون فيه الولايات المتحدة قوة من بين قوى متعددة، وفى كل الأحوال فإن النظام العالمى سوف يشهد تغييرا خلال السنوات القادمة، يعكس حجم التفاعلات وقدرات دول الجنوب على الاستفادة من نظام متعدد.