كانت خطوة شديدة الجرأة من السادات؛ عندما أعلن أمام البرلمان استعداده لمُخاطبة إسرائيل فى عقر دارها. أفضت المغامرة لتوقيع اتفاقيتى كامب ديفيد قبل خمس وأربعين سنة بالضبط، وبعدها بنحو ستة أشهر مُعاهدة السلام، وكان من نتاج ذلك أن استكملت مصر تحرير أرضها، واستعادت كامل سيناء؛ لكنها تعرَّضت لموجة مُزايدة شرسة من بعض الحكومات العربية، أفضت لنقل مقر الجامعة من القاهرة ومقاطعتها عشر سنوات. قد لا يجوز تقييم المواقف خارج سياقاتها التاريخية، إنما يصحّ فى التحوُّلات الاستشرافية الكبرى؛ لا سيما لو كان أثرها عميقًا ومُمتدًا فى الزمن. اليوم، ومن زاوية موضوعية ناضجة؛ لعل السادات كان الأبعد نظرًا والأكثر فاعلية بمنطق السياسة والاستراتيجية، وبينما يُعاد ترتيب قطع الدومينو على طاولة المنطقة منذ نحو عقدين، وقد نكون بصدد تطوُّرات أكثر دراماتيكية فى مُعادلة الصراع والعلاقات الدبلوماسية، تتجدَّد شهادة الجغرافيا والتاريخ للرئيس الراحل، وربما تفرض على خصومه القدامى، ومن ورثوا فوائض شعاراتهم المُعقّمة بالأيديولوجيا بعيدًا من التشابك الواعى مع الواقع، أن يتقدَّموا باعتذار مُؤجّل للرجل الذى ظُلِم طويلاً، ثم تأكّد أنه قرأ تقلُّبات المنطقة قبل موعدها بعقود، فتجهَّز لها بما يُلائم مصلحته الوطنية، وخرج منها فائزًا بينما خسر الآخرون وتخلّوا مُرغمين عن رهانهم القديم.
ورث السادات صراعًا عند أقصى درجات السخونة. والحقيقة أن منظومة العمل العربية عجزت عن إدارته على الوجه الأمثل، منذ قمة «اللاءات الثلاث» فى الخرطوم بعد شهرين من الهزيمة، وحتى اضطراره لخوض المواجهة مُنفردًا. لا يُمكن بالطبع القفز على بعض المواقف العربية الجيدة إبان حرب أكتوبر، إلّا أنها ظلَّت أقرب للمُبادرة الفردية والتمثيل الرمزى، ولم تُعبّر عن صيغة جبهوية تحت ميثاقية الخطاب القومى ومُؤسَّساته. بدا ذلك التصدُّع واضحًا بقوّة بعد المعركة، سواء فى الحوارات البينية أو عبر البحث عن وساطة غربية بين واشنطن وجنيف، حتى من أطراف الصراع المُباشرين فى سوريا والأردن ومُنظمة التحرير الفلسطينية. كان العرب مُتمسّكين بتصوُّر شمولى للحلّ، ينطلق من توحيد الجبهات فى ملفٍّ واحد؛ لكنهم لم يشتغلوا على بناء رُؤية مُوحّدة، ولا صاغوا خطابًا إقناعيًّا يُلملم الصفوف ويُحسن مُخاطبة العالم. بدا الموقف تكرارًا لحرب فلسطين 1948، عندما جاءت بضعة جيوش قليلة فى زيارة شرفيّة ثم غادرت بعد الهزيمة، وتركت عبء غزّة والجبهة المفتوحة مع العدو على كاهل مصر أوّلاً، والأردن فى مسألتى الضفة والنزوح وصولاً لتهديد المقاومة لنظام الملك حسين، ثم الصدام الواسع فى «أيلول الأسود». كانت أيّة قراءة موضوعية تنتهى إلى أن القاهرة ستضطر فى النهاية لإنجاز مُعاركها مُنفردة، ولا أمل فى بيئة عربية نشطة لإنجاز التسوية السلمية بعدما تعذَّر استكمال الحسم عسكريًّا؛ وهكذا وُضعت الإدارة المصرية أمام مسار اضطرارى؛ لا سيما أنها لن تقبل بإراقة مُكتسبات الحرب، أو استمرار وضع التعليق الذى يُوافق هوى إسرائيل أكثر ممّا يُحقّق مصالح العرب.
الاختراق الكاسح الذى أحرزته القوات المصرية على جبهة أكتوبر، كان كبيرًا إلى حدِّ أنه لا يمكن تجاوزه، ومُستهدَفًا لدرجة أنه لا بديل عن تأمينه. حشدت القاهرة مواردها المحدودة، وسدَّدت فاتورةً باهظة من الاقتصاد والدم؛ لتُعيد التموضع مع العدو عند حالة تسمح بكسر الجمود وحصار لعبة سرقة الوقت، لكنها استوعبت منذ اللحظة الأولى لدخول الولايات المتحدة على خطِّ الصراع بكامل قوّتها، أنه لا يُمكن التمادى فى مُنازلة غير مُتكافئة. ربما ارتاح العرب وقتها لمعنويّة النصر؛ وإن ظلَّت الأرض تحت الاختطاف، بينما كانت غاية مصر التحرير لا التحريك، ويستوجب ذلك تفعيل أدوات السياسة إن تعطّلت روافع السلاح، ولأن المُماطلة لُعبة إسرائيلية مُفضّلة، لم يكن مُمكنًا القبول بوضع القضية فى ثلاجة المناورة الإقليمية، خاصة أن المنطقة لم تكن على قلب رجل واحد أصلاً. لعلّ المفارقة الأكثر سخرية وإيلامًا، أن الذين قاطعوا مصر لاجتهادها فى استحصال الأرض المُحتلّة، انقسموا على أنفسهم باندلاع الحرب العراقية الإيرانية بعد شهور، فانضم فريقٌ لبغداد والتحق آخرون، مثل سوريا وليبيا، بصف طهران، وغزا صدّام الكويت وباركته المقاومة الفلسطينية. غلبة الأيديولوجيا والأهواء والزعامات والمصالح الظرفية الضيِّقة كانت واضحة، ولعلها كانت فى ذهن السادات عندما قرَّر أن يحمل صخرته الوطنية الثقيلة، دون انتظار مُساعدة أو التفاتٍ للابتزاز والمُكايدة.
أطلق الرجل رصاصته تحت قبّة البرلمان مطلع نوفمبر، وبعد 10 أيام كان يتحدَّث فى قلب إسرائيل. فى الشهر التالى كانت أول جولة حوار فى فندق ميناهاوس بحضن الأهرامات، وقد وضعت مصر مقاعد للأردن وسوريا والسعودية ومُنظمة التحرير؛ لكنها تخلَّفت جميعًا عن الحضور، وكانت موجة التسخين والهجوم على الإدارة المصرية قد بدأت، وامتدّت لقرار المُقاطعة التى استمرّت عشر سنوات حتى أُعيد مقر الجامعة للقاهرة فى 1989. لا لوم على الأشقاء فى مواقفهم وقتها؛ لا سيما أن قراءة الخرائط الجيوسياسية، واستشراف مآلات الأحداث، من الملكات التى لا تتيسَّر لكل البشر؛ إنما لا يُغنى العذر عن تحرير الوقائع، وردّ الشبهات التى أُلصِقت زورًا وقتها، وما يزال بعض المُؤدلجين ومُحترفى الشعارات يُلصقونها بالرئيس السادات. كان الرجل واضحًا فى جولات جنيف وواشنطن والمغرب، وفى كلمته أمام مجلس الشعب، وفى الكنيست، وحتى ميناهاوس، بل إن كامب ديفيد 1978 تضمَّنت اتفاقيتين: الثانية بشأن السلام مع مصر، أما الأولى فكانت تخص الوضع الإقليمى، وتضع ملفات سوريا والأردن وفلسطين فى الواجهة، باعتبارها وحدةً عضوية تتكامل لإنجاز تسوية شاملة يتعذّر تحصيلها بشطب أحد الأطراف. المشكلة أن الباقين شطبوا أنفسهم، فوضعوا السادات بين خيارين: أن يستعيد أرضه ليستكمل مساندتهم من موقع قوّة، أو يُضيّع الفرصة ثم يجلس ليتباكى معهم على اللبن المسكوب.
ما فات لا يعنى تنزيه الرئيس الراحل، ولا إنكار أن سياساته لم تخل من أخطاء بالداخل والخارج. حتى الآن ما يزال «السادات» موضوعًا جدليًّا فى ملفّات الانفتاح والتعدُّدية الحزبية ونشاط الإخوان والإسلاميين؛ إنما لا يصح أن يُهال التراب على التجارب لأن بعض تفاصيلها لا تُعجبنا؛ لا سيما لو كانت من نوع الانتقالات المفصليّة التى بدَّلت أوضاعًا إقليمية ودولية وأعادت صياغة مجالات سياسية واستراتيجية بكاملها. أُريد لغرض فى نفوس الزعامات العربية وقتها أن تُساق المبادرة الساداتية تحت لافتة الخداع والقفز من قطار العروبة، والحقيقة أنه سبقتها زيارات رئاسية وحكومية لأغلب العواصم الفاعلة، وطُرح موضوع البحث عن إيقاع مُغاير لحالة الجمود التى تُبدّد مكاسب العرب ولا تعيد الأرض، وقد تحفَّظ البعض وصمت آخرون؛ لكن فوائض الحنجورية البعثية فى سوريا الأسد وعراق البكر ثم صدام، استثارت مشاعر الباقين بالعاطفة أو المزايدة والتخوين، فانحرفوا عن المسلك العقلانى الذى انتهجه الرئيس، بدل أن يتفاعلوا معه بالاشتباك تطويرًا أو تقويمًا. المُؤسف أنهم كانوا فى موقفهم يخدمون «تل أبيب»، إذ كانت تعترض على أن تصعد الحلبة فى مُواجهة فريق عربى بملف مُجمّع، وكان السادات مُنحازًا إلى أن الوزن النسبى لطاولةٍ جامعة أقدر على تحصيل منافع أكبر، أو على الأقل انتزاع مكاسب مرحلية وترك الباب مفتوحًا لجولات تالية، ستكون أقوى وأكفأ حال خوضها بالقوّة الكاملة.
ما كان يخشاه وقع؛ فذهب إلى اللعبة بقانونها الجديد، وظلّ الأشقاء فى الماضى. النتيجة أن الفلسطينيين ارتضوا بالأقل بعد خمس عشرة سنة فى أوسلو، وحصَّل الأردن شروطًا قد تنقص ولا تزيد فى وادى عربة، وخسر العراق برنامجه النووى فى قصف إسرائيلى مطلع الثمانينيات، واجتيحت بيروت بعدها لمُطاردة الفلسطينيين، فانتقل عرفات لتونس كما نُقلت الجامعة قهرًا من قلب العروبة، وما يزال الجولان بكامله مُحتلًّا للآن. ثم إن ما كان يطرحه السادات فى السبعينيات، أو أقل منه، أعادت قمّة لبنان 2002 تقديمه فى مبادرة السلام العربية، وقد صارت من محفوظات الدبلوماسية الإقليمية دون فاعلية إجرائية، أو قدرة على مراوغة التعنُّت الإسرائيلى. ويُضاف لكل ذلك موجة الاتفاقات والتسويات التى شملت مُؤخّرًا أربع دول عربية، دون انعكاسات على القضية أو تغيير فى مُعادلة الصراع، بينما يُثار حديث عن التحضير لجولة جديدة تستهدف عواصم عربية كبرى، وكلها لم تكن مشتبكة مع الدولة العبرية فى مواجهات مُباشرة أو نزاعات حدودية، وأخيرًا اتفاق الممر الهندى. لا خلاف على حقّ كل بلد فى انتهاج ما يرى من سياسات كفيلة بتأمين مصالحه؛ لكن يتطلَّب ذلك على الأقل مُراجعة فكرية تضعه فى قلب التفاعلات الراهنة، وتُعيد النظر للماضى وفكّ أسره من سجن المواقف الشعبوية وخطابات الدعاية المُلوّنة. وليس المقصود تبرئة السادات؛ لأنه ليس مُدانًا أصلاً، من زاوية أنه بطل قومى أحرز غايات وطنه؛ إنما المطلوب أن تستقيم القراءات وتنسجم مع منطق الصراع الإقليمى الذى لم يتغيَّر منذ بدايته، ولم يطرأ عليه ما يُبرّر الانعطافات الحادّة، اللهم إلا تطوُّر الرؤى واتجاه بعض الدول بديناميكية براجماتية صَوب مصالحها، وفى ذلك اعتذار ضمنى عن حُمَّى الموجات التعبوية السابقة. لا مشكلة فى أن تأتى أو تستوعب مُتأخّرًا؛ المهم أن ينبنى الحضور على فهم واعٍ لا يجعل ماضيك عقبة فى طريق مستقبلك، ودون إعادة الاعتبار لرؤية السادات الاستشرافية؛ فإن كل من أتوا بعده يُدينون أنفسهم بتعديل المسار دون اعتماد الخرائط الجديدة.
ذهبت مصر للتسوية تحت الحاجة والاضطرار، وهى بطبعها وتاريخها دولة سلام وتعايش. كان السادات مُقاتلاً يستكمل معركته على الجبهة بأدوات السياسة، ويُحقّق حلم جنوده الشهداء حتى لا تظل أرواحهم مُعذّبة فى سماء مُحتلة. أنهكتنا الحرب وقضمت أغلب مواردنا المحدودة؛ لكننا تحملنا كُلفة الالتزام الوطنى دون مُزايدة أو دعايات. وكانت لنا فيها مصلحة بالثأر واسترداد الأرض والكرامة، والخروج من عبء «الدولة المبتورة» حتى نلتفت لأعباء البلدان الناهضة، وأعدنا تشغيل قناة السويس، وتنشيط السياحة فى سيناء وبقيّة مصر. وحتى قيود الاتفاقية، التى استُخدمت للاستهداف والتشويه من الإسلاميين ومدافع الصوت فى حكومات بعض الدولة، أُعيد تعديلها وأصبح الجيش المصرى يفترش سيناء بكامل أفرعه وتشكيلاته؛ بل بفضل الاتفاقية قدَّمت القاهرة وما تزال أكبر المُساندات للقضية الفلسطينية، فى فتح شرايين التجارة والسفر لأهل غزّة، وإعادة إعمار القطاع، ورعاية جولات الحوار والمصالحة بين الفرقاء، وامتلاك فاعلية المبادرة والوساطة وطاقة الاتزان بين الأشقاء والاحتلال، بينما يُصرّ البعض على توظيف الفصائل سلاحًا مُتقدّمًا لخدمة أجندات «فوق وطنية»، ويخلطون ساحات غزة بالضفة بمخيمات لبنان لخدمة مشاريع إقليمية مضادّة للقضية فرعًا، ولمجموع المصالح العربية وأمن المنطقة أصلاً.. كانت مصر الأصدق منذ 1948، وفى وقت الحرب، وبعد السلام، وكان السادات طموحًا لأن يسترد أرضه، ثم يستكمل أسطورته الوطنية والعربية بتحقيق اختراق لفلسطين وشعبها؛ لكن الذين زايدوا عليه من المذهبيِّين وورثة الخلافة والرجعيّة أو الجنون البعثى لم يُمهلوه؛ فاستكملوا جريمتهم فى حقِّه ببنادق الإسلاميين المُلوَّثة بالأجندات والمال المشبوه.
رحل السادات شهيدًا فى عيد انتصاره، لم يهتزّ مجده قائدًا عسكريًّا أوقع بإسرائيل أول هزيمة حقيقية مُخزية، بل عزَّزه بأن كان فى سلامه صاحب الدفعة الانكماشية الوحيدة لها، بعدما كانت تتمدَّد على الخارطة العربية كالنار فى حقل قشّ. أثبت الرجل أنه كان جادًّا رغم قسوة الظروف، فتحدَّى ومعه أعظم جيوش المنطقة كل الضغوط والانكسارات ومرارة الفقر والعَوَز، ثم تحدَّى ببسالته السياسية مدافع الابتزاز والتخوين كيدًا أو غباء، وكان بعضهم فى الداخل ممّن ادّعوا التقدمية ثم تحالفوا مع الإسلاميين أو البعث، وقبضوا من صدّام والقذافى، وبعضهم فى الخارج ممّن لم يكسبوا حربًا فى حياتهم ثم ذهبوا للهُدنة دون معركة أو مقابل. لو كانت كامب ديفيد تفريطًا فقد ذهبوا إلى مثلها، وكان مُضطرًّا ولم يكونوا، ولو كانت إنجازًا وطنيًّا، وهو كذلك، فقد اختصموه بغير حقٍّ ولا منطق فيما كان ضروريًّا ونافعًا؛ وفى الحالين يتوجَّب الاعتذار.. ما تأكَّد عمليًّا أن السادات قرأ الخريطة وتعقيداتها كما لم يقرأها الآخرون، واستشرف مآلات الضعف العربى التى قد تُبدِّد الأرض والدم، فحقَّق الانتصار الكامل الذى لو عَدَدت مُواجهاتنا مع إسرائيل ما وجدت غيره، وربما آن الأوان أن يُقرّ خصومه بذنوبهم، وأن يعتذروا لاسم وقيمة الرجل، ولمواقفه ومفازته التى لم يُحقِّقها أى منهم، سيّدًا للسردية العربية المُعاصرة بالسلاح والسياسة والشهادة النبيلة، ولعلّه فى كل الأحوال يفتخر بما أنجز، ويكتفى بأنواطه الوطنية، ولا يعنيه الاعتذار.