إن كان الاحتلالُ والمقاومةُ يعرفان ما لا يقبلان به فى صراع غزّة؛ فالمشكلة أنهما يجهلان ما يُريدانه من الحرب وبعدها. ولأنّه نزاعٌ بين عدوَّين راديكاليين، يكون الافتراض دومًا أنَّ ما يطلبه الآخرُ يجب أن يكون مرفوضًا بالضرورة. وهكذا يمضى كلُّ طرفٍ بورقةِ الرفض، واضحةً ومُعلَنة، ويُفتِّش عن مسموحاته بين ما يُنغص على الخصم أو يُفسد حساباته. وإزاء الانغلاق المُستحكم لا أمل إلا فى الوسطاء العاقلين، وفى أن يُوضع الفريقان أمام واقع جديد؛ لا سيما أن «طوفان الأقصى» وما تلاها كانت تحوُّلاً ضخمًا فى وقائع الميدان، ولا يُمكن تجاوزها إلا بتحرّكٍ سياسى أكثر زخمًا وضخامة، وفيه من أدوات النقد والفهم والتعرية ما يُعطّل البنادق، ويكفى لحصار كُرة النار.
أصلُ الصدام الأخير أنّ الأُصوليّة على الناحيتين لا تُرحِّب بحلِّ الصراع ولا إدارته. تفرَّغت إسرائيل لإفساد مسار أوسلو، واشتغلت الفصائل المُسلّحة معها على تسريع المهمَّة. فحُبِست القضية فى قالبٍ من الثلج، وظلّت خطابات الإلغاء بتنوُّعاتها القومية والعقائدية عند مفصلٍ بدائى مُتشدِّد. والنتيجة أن التوراتيِّين تعاملوا كما لو أن فلسطين زالت من الخريطة، والإسلاميِّين كأنهم يُؤسِّسون للرؤية التحرُّرية من الصفر. وفى قلب الاستقطاب حُوصِر اليسارُ الهشّ بالدولة العبرية، وشُطِب على مُنظّمة التحرير الأكثر هشاشة فى الضفّة، واتّخذت المسألةُ بُعدًا واحدًا: «صقور صهيونية» جارحة، و»صقور إسلامية» جريحة. وتلك الصيغة صالحة لإنتاج المعارك؛ لكنها لا تملك وصفةَ الخروج منها أو إنهائها، لصالح أحدهما أو لأجل الأرض والبشر.
تُدار الخصومةُ فى نطاق الأفكار أوّلاً؛ ثم تُنقَل للميدان. العقيدة الصهيونية سبقت الاستيطان ومهَّدت لاختراع الدولة، والبُعد الدينى أنشأ المقاومةَ وطوَّر أدواتها، ثمَّ احتاج الطرفان عقودًا ليرى الأول مُنظّمة التحرير خارج دعائية الإرهاب، ويرى الثانى المُحتلَّ بعيدًا من رومانسية الطرد والاستعادة الكاملة من النهر للبحر. لكنّ الانقلاب الإسرائيلى على فكرة التقارُب استدعى انقلابًا مُقابلاً، فنشأت «حماس» مثلاً من احتدام الانتفاضة الأولى؛ لكنها تضخَّمت على إيقاع التوحُّش اليمينى، واستثمار «الليكود» فى الانقسام وسرديّة غياب الشريك. من هنا يُمكن النظر لعملية «غلاف غزّة» باعتبارها حربًا فكرية بأكثر ممَّا كانت تحرُّكًا عسكريًّا؛ إذ غرضها إنعاشُ المواجهة بطابعها الثنائى المُتوازن، والتوقيع بالحضور وليس إفناء الخصم المُتغطرس، حتى لو اندفع بعض المُتفائلين فى حماستهم، وتحدَّثوا عن انطلاق مسار التحرير الكامل.
أنجز القسَّاميون غايتهم الكُبرى فى 7 أكتوبر، لكنهم لم يصيغوا تصوُّرًا أبعد. واستجاب الصهاينة للصفعة القاسية بمشاعر همجيّةٍ يتقاسمها الغيظُ والثأر؛ ولم يتحسَّبوا للتداعيات. ومجموع الموقفين أنهما دخلا حربًا لم يرسما خريطتها، ولا يعرفان متى يُمكن الحديث عن نصرٍ وهزيمة، أو تجميد الميدان. وكذلك فى مسألة الهُدنة؛ إذ أرادت «حماس» من ورائها أن تلتقط الأنفاس، وتُعيد ترتيب أوراقها والتموضع على محاور غزّة، ثمّ الأهمّ أن تُنعِش آمال تحرير الأسرى؛ فيزداد الضغط الداخلى على نتنياهو. وإن استفاد الأخير من أسبوع التوقُّف فى امتصاص غضب الشارع، وتقويم الخطط، واستكشاف أهداف المرحلة الثانية للحرب؛ فإنه لم يتحسَّب لأثر الإفصاح عن بدائل موضوعية، أقلّ فى الخسائر وأجدى فى استعادة الرهائن. فكأن الفصائل طوَّقت نفسَها بفكرة التهدئة المُمكنة، والاحتلال حُوصِر بسؤالٍ حاسم عن صدقيَّة نواياه فى إنقاذ المأسورين داخل أنفاق القطاع.
أثرُ الاتفاق السابق صار حاكمًا فيما بعده. فالحركةُ رأت أنها حقَّقت مُبتغاها، ولا حاجة لتكرار التجربة بالشروط السالفة؛ فبدأت تتحدَّث عن وقفٍ شامل لإطلاق النار قبل أىّ تفاوض أو تسوية، بينما يتسرَّب من تل أبيب كلامٌ عن الانفتاح على مُبادرات الوسطاء، أو تقديم عروض بهُدنة جديدة. وإن توقفنا أمام رسائل نتنياهو من داخل غزّة، وفى اجتماعه بكُتلته بالكنيست، وجَزْمه بأن الحرب لن تتوقَّف قريبًا، ولا رجوع عن أهدافها الثلاثة: بتصفية حماس والقضاء على قدراتها وإنهاء ما يُمكن أن يُمثّله القطاع من تهديد؛ فربما تكون إثارة مسألة الهُدنة عملاً دعائيًّا، غايته تعديل الصورة أمام العالم، وترشيد منسوب الرفض الشعبى لاستمرار الحرب على جُثث الأسرى، مع رهان صقور «الكابينت» على أن يتكفّل صقور حماس بتشدُّدهم فى إفساد الأمر، فتخسر الحركة سياسيًّا وإعلاميًّا، وتُبرّر استمرار القصف والتوغُّل البرّى. أى أن الليكودى الذى يفخر بإفساد «حلّ الدولتين» لا يُريد أسراه ولا يبحث عن تهدئة؛ إنما يقتنص منافعها المعنوية دون التورُّط فى تكاليفها المادية.
بالمنطق نفسه، يُمكن النظر لتعديل خريطة الانتشار والتموضعات العسكرية فى غزّة. إنْ بالانسحاب من بعض مناطق الشمال، أو بالحديث عن تراجعٍ واسع لصالح صيغة الضربات الجراحية المُوجَّهة. فالواقع أن الاحتلال ما يزال مُهيمنًا ولديه مُبادَأة وتحكُّم كاملان فى الجنوب، وثمّة أفكار مُتواترة عن رغبته فى فَرض منطقةٍ عازلة عند رأس القطاع، أو حزامِ فَصلٍ بامتداد حُدوده، وربما يصل للسيطرة على محور صلاح الدين خصوصًا من الوسط، وتقسيم مسرح العمليات إلى بيئاتٍ مُنفصلة، تُدَار من خلالها خطّة الإعمار والإدارة مُستقبلاً. وبينما يُمكن أن تُفسِّر المقاومةُ مسائل الانسحاب أو تعديل التكتيكات، لناحية أنها دليلُ أزمةٍ أو ضعف؛ فربما تكون فى الحقيقة مناورةً للخداع وتحسين الصورة، والأخطرُ لو كانت تحضيرًا لبقاءٍ طويل، على شرطٍ لم تنضُج تفاصيله أو تُطرَح للعلن بعد. فالأزمة أن الفصائل اختزلت العدوان فى كونه خصومةً مُباشرة معها، إمعانًا فى وَهْم القوّة والندِّية؛ بينما تختصم إسرائيل الغزِّيين وكامل الشعب، وتسعى لتطويعهم وحشدهم فى مساراتٍ ثلاثة: الخضوع دون حقوق، أو الرحيل دون رجوع، أو الموت الراهن والمُؤجَّل. وتحويل الجغرافيا إلى بيئةٍ غير صالحة للحياة ممَّا يخدم تلك الأجندة، وعليه لا معنى للحديث عن أنها حربٌ بين جيشٍ وفصائل، كما لا بُطولة فى صُمود الأنفاق بينما تتهدَّم البيوت.
إنَّ إسراف إسرائيل فى أحاديث البحث عن هُدنةٍ جديدة، لا يدلّ على رغبتها الصادقة فى إسكات البنادق ولو مُؤقّتًا. وبالمثل فإن تشدُّد «حماس» فى الشروط لا ينُمّ عن قوّةٍ حقيقية؛ إنما هو انعكاس لشعور انعدام الخيارات والارتطام بالجدار. عندما امتلأت الحركة بالعافية نفَّذت ضربتها فى العُمق، وتحت تأثير النشوة أنجزت اتفاق المُبادَلة السابق. لكنّها الآن تُوازِن بين الانفراجات العابرة والاختناق الطويل، وقد استفحلت شكوكُها فى فاعليّة تسريب الأمل للشارع العبرى، وفى إمكانية أن تحجز مكانًا على الطاولة بالحرب أو بالتهدئة. لهذا يذهب نتنياهو إلى إحراجها باقتراح الصفقات، وتذهب هى لإحباطه بمُلامسة السقف الذى تُوقن أنه لن يقبله. وهو لا يعرف ما يريد فعلاً، مثلما لا يعرف قادتها أيضًا، وفوق الجهل يبدو التوافق غائبًا عن الميدانيِّين وجناح الخارج.. وحتى تحت النار تتعادى الفصائل: قالت «حماس» إنها اجتمعت بأربعة شركاء، واتفقوا على برنامجٍ وطنى يبدأ بحكومة وحدة وينتهى بانتخابات. لكنها استبعدت «فتح والمنظمة والسلطة»؛ رغم أن اللقاء عُقِد فى بيروت وكُلها حاضرةٌ هناك، وأن الذين حاورتهم حُلفاؤها الأقرب بالفعل، ولا خلاف بينهم. فالمُزعج هنا فى خروج المشهد كما لو أنّ طرفًا يقول إنه قد يُحاور العدو ولا يُحاور الشقيق، وتلك مأساةٌ لا تقلّ إدماءً للقضية عمّا يفعله الاحتلال.
ما لا يُريده السياسى المُتمرِّس أن يظلَّ القطاع صُلبًا أو فى قبضة الحمساويِّين، وما يرفضه المقاتلون الخِفاف أن يُطاحوا من المشهد أو يبقوا فيه بكفوفٍ فارغة.
وكلاهما يعى تمامًا أن إسرائيل تخسر لو لم تُحرِز شروطَها كاملة، وتربح المُقاومة لو قطفت ثمرةً واحدة من الشجرة التى ارتقاها الجميع ولا يعرفون كيف ينزلون عنها، ولا شىء مضمون لأىٍّ منهما. خاضت «حماس» جولتها على صيغة حرب العصابات، ويستميت نتنياهو فى فَرض قواعد نظامية، كما يُدرك أن أهدافه المُعلنة بتصفية السلاح وتركيع القطاع لم تكُن عمليّةً، ولم تعُد قابلةً للتنفيذ، ويُدرك قادة الحركة أنه لا سبيل إلى ما قبل الطوفان، ولا نجاةَ من آثاره المُدمِّرة. وبينما يُعاد رسم الخطّة الحربية بتحفُّظٍ أكبر وتحفُّزٍ أقل، لا تملك الكتائب الغزِّية وصفةً مُضادة؛ وقد أسَّست خطّتها على الالتحام المُباشر ومناورات الشوارع. وحال انفكاك التشابك قد تتقلَّص خسائر الاحتلال ويزداد نزيفها. وبينما يُخفى جيش العدوان أغلب خسارته ويُصرِّح بالقليل، فإن الفصائل لا تُعلن شيئًا عن نفسها، وقد يُفهَم ذلك انطلاقًا من فُروق القوى وفاعليّة السرية؛ إلا أنه يُنعش روايات العدو عن تكبيدهم فواتير باهظة صار يُحصيها بالآلاف.
كلّما طالت الحربُ يخسر الطرفان: إسرائيل لأنها تُحرِق الاقتصاد ولا تستعيد الهيبة، وحماس لأنها تستنزف مخزونها غير القابل للتعويض، سواء كان سلاحًا أو أسرى يموتون قبل المُقايضة. والرهان على تحوُّلات سياسية فى تل أبيب يظلّ رومانسيًّا ساذجًا؛ إذ البلد بكامله صار يمينيًّا مُتطرّفًا، وسار فى موكب الانتقام الحارق. وبالمثل انتظار أن تتهاوى المُقاومة أو ينقلب عليها الشارع؛ بينما تكفَّل الاحتلال بإشعال النيران فى الصدور، وزَرَعَ ثأرًا مُتأجِّجًا فى كلّ بيت. وطالما لا أُفقَ للحسم الخشن؛ فإنه لا بديل عن التراجع بغرض الهبوط الناعم وتخفيض الأسقُف العالية. وسيكون على «نتنياهو» أن يتجرَّع كأسَه المُرَّة كاملة، وعلى «السنوار» أن يكسرها؛ حتى لا يتمادى فى إغاظته أو يتورَّط فى الشُّرب منها. أى أن يقبل الأوّل بالأرض ومن عليها وبينهم «حماس»، ويقبل الثانى ولو مرحليًّا بالانخراط فى صفوف الشعب، وأن يكونوا مُواطنين لا حاكمين.
يفرض ذلك أن تنفكَّ قبضةُ المُعتدى عن رقبة القطاع، وأن تتقدَّم سُلطةٌ غير مُلوَّنة لإدارته. أمَّا مسائل الأسرى والسلاح فإنها لن تُحسَم إلّا باقتناع كل الأطراف، والمعنى أن مُواصلة التدمير لن تُفنى الفصائل كما يتوهَّم مخابيل الصهيونية، وإن بقيت معها رصاصةٌ واحدة فإنها كفيلة بإفساد أىِّ مسارٍ مُقترَح للمستقبل. لا سبيل للنصر إلّا بإقرار المهزوم: والأوَّل قادر على الحرب لشهور، والثانى تكفيه يدٌ واحدة وبندقيّة ليظلّ صامدًا. واللغةُ التى يستعصمان بها منزوعةٌ من قاموس التراجيديات الكبرى، وليست من طِين فلسطين ولا حقائق واقعها. ما تعطَّل لثمانية عقودٍ لن يُنجَز اليوم، والحادثُ أنّنا إزاء دولتين، حتى لو تأخَّر فصلهما فى الأرض وعلى الورق، وليس فى مقدور إحداهما أن تلغى الأخرى، مهما تبدَّلت الأدوات وتحكَّم منطق الاستنزاف. وإن كان واجبًا أن يعرف الطرفان ما يُريدان، وأن يضبطاه بالمنطقى والمُتاح، فالأَوجب أن يقتنعا بأنهما باقيان معًا، والصدام الجارى لن يكون الأخير؛ وما دون ذلك شعارات عاطفية، لا تعدل المائل ولا تحسم الحرب.