في إحدى لقاءات الممثل الراحل نور الشريف، تحدث عن الفرق الكبير بين الممثل الذي يلجأ للبكاء والنياحة للتأثير على المشاهد، وبين نوع آخر من التمثيل يفضله الشريف، يعتمد على ضبط الانفعالات وحبسها، ليصبح بمثابة قنبلة موقوتة ينتظرها المتفرج لتخرج عن صمتها ويتفاعل معها، حتى وإن كان ذلك محصورًا في دمعة عينيه.
وضرب الشريف مثالًا بمشهد الصرخة الصامتة التي أطلقها "آل باتشينو" في الجزء الثالث من ثلاثية الأب الروحي. عندما قتلت ابنته بين يديه أمام الكنيسة، قرر المخرج في تلك اللحظة التخلي عن الصوت والموسيقى التصويرية عامدًا لنرى الوجه الحقيقي لمايكل كورليوني.
صرخة الندم التي أخرجها آل باتشينو، كانت العاصفة التي جاءت بعد السكون الذي شهدناه في الجزأين الأول والثاني. اختفى وجه الشاب الحالم البرئ لحظة دخوله الحمام يبحث عن المسدس الذي سينتقم به لمقتل أخيه ومحاولة اغتيال والده، ليظهر بعدها بقناع هادئ وساكن يخفي تحته مايكل القديم وشعور بالندم والحسرة على ما أصبح عليه. وهذا ما يطلق عليه الصراع الساكن .
الصراع الساكن هو أحد أصعب أنواع الصراع الدرامي، حيث يكون الشخص دائمًا هادئًا وردود أفعاله طبيعية للغاية. يبدو أنه لا يحمل في داخله أي عاصفة، ولكن هذا السكون يخفي توترًا عميقًا.
القدرة على نقل هذا النوع من الصراع الذي لا يراه المشاهد ولكن يشعر به، تحتاج إلى مبدع ذي إمكانيات تمثيلية عالية وتحت إشراف مخرج واعٍ، قادر على توجيه الممثل لكيفية توجيه تلك الشحنة الشعورية التي تجعل المشاهد يشعر بالقلق الاستباقي والغموض من أمور لم تحدث بعد، لأن هناك هاجسًا ينتابه تجاه تلك الأمور العادية التي لم يرَها.
شخصية أحمد فهمي في مسلسل "بين السطور"، جسدت هذا النوع من الصراع، التي اتخذ شكل صراع الإنسان ضد نفسه في صورة ساكنة، حاتم عز الدين، رجل القانون والعاشق المثالي، شخصية قوية وحذرة في تصرفاتها، لكنها تظهر ضعفًا في علاقته بزوجته الإعلامية هند سالم (صبا مبارك)، وتلك هي نقطة الضعف التي بدأت منها أزمته.
أحمد فهمي تطور كثيرًا منذ بداياته، وفي "بين السطور" ظهر بشكل مختلف تمامًا، مستويًا وراسيًا، وهنا يأتي دور المخرج وائل فرج الذي لعب دورًا كبيرًا في توجيه الممثلين ليخرج منهم ما لم يعتد عليه الجمهور.
ويمكن تقسيم مسيرته الفنية إلى مرحلتين: الأولى تشمل بداياته في السينما ومسلسل "ماما في القسم"، حيث اعتمد على موهبته وجاذبيته كمطرب في فرقة "واما"، أما المرحلة الثانية، فكانت الأكثر تحديًا وجرأة، حين قرر فهمي أن يفصل بين دوره كمطرب وممثل. وفاجأ الجميع بأدائه المميز في مسلسل "الداعية" في رمضان 2013، عندما قام بتجسيد شخصية الشيخ حسن.
المسلسل يحتوي على مشاهد رائعة، ومن أبرزها مشهد جيمي وهند في غرفة الفندق، حيث يتجدد حبهما القديم حتى لو للحظة أمام المتفرج. والمشهد الآخر هو المواجهة بين حاتم وهند، حيث ينفجر بكل ما كان مكتومًا منذ الحلقات الأولى.
قوة تلك المشاهد جاءت عن طريقة الحبكة القوية لتعدد صراعات الشخصيات، واقصد هنا الصراعات غير المرئية التي تتحرك حثيثًا تحت السطح إلى تخرج في توقيت مناسب لتضيف بعدًا جديدًا من التعقيد والإثارة، وأظهرت لنا أن الصراعات الدرامية لا تنحصر فقط في الأحداث الكبرى، بل تكمن أساسًا في التفاصيل الصغيرة والتفاعلات البسيطة التي تحدث بين الشخصيات.
من خلال الشخصية التي يجسدها أحمد فهمي، نجد أنفسنا متأملين في عمق العواطف الإنسانية وتعقيداتها، وكيف أن السكون الذي يظهر سطحيًا قد يكون مجرد غطاء لعواصف غير متوقعة تتجدد في أعماق النفس، وهو ما يقرأه المشاهد "بين السطور".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة