ورقةٌ ثانية من المُخرجات باتت فى مُتناول الأيدى. كان الحوار الوطنى قد أنجز مرحلتَه الأُولى ورفعَ خُلاصتَها للرئيس؛ لإعمالها على الوجهين اللذين حدَّدهما: إنفاذ ما يقع فى ولايته تنفيذيًّا، ونقل ما يتطلَّبُ إجراءاتٍ تشريعيةً إلى الحكومة لسَبْكِه فى مشروعات قوانين. بعدها انتقلت الورشةُ إلى جولةٍ ثانية، دعا إليها السيسى مع إعلان فوزه بولايةٍ ثالثة فى الانتخابات التى جرت أواخر العام الماضى، وطلب أن تتَّخذ الطاولةُ هيئةً اقتصادية لمُقاربة الأوضاع الجارية، وما أطلّ من تحدِّياتٍ تحتاج أفكارًا غير تقليدية. وقد أُدِيرت النُسخةُ الجديدة بنضجٍ وحيويّةٍ أكبر، أوّلاً لأنها سلكت مسارًا مُحدَّدًا فى موضوعها، وتوافرت فيها حالةٌ فنيّة تخصُّصية لم يسمح بها انفتاح سابقتها، وأخيرًا فإنها تُترجِم اكتمالَ التجربة، وإحرازَ ما كان يفُوتها فى التأسيس المُبكِّر من مُشتركاتٍ ونقاط التقاء، ومن لغةٍ واحدةٍ يفهمها الجميع، ويتحاورون بها بعيدًا من رواسب الماضى أو نزاعات الأيديولوجيا.
عقد مجلسُ الأمناء اجتماعًا بعد ظهيرة السبت الماضى. كان محوره العام تلخيص ما دار فى أربع جلساتٍ نوعيّة احتضنها الأسبوعُ السابق، واستخلاص الرؤى والمُقترحات لوضعها فى ورقةٍ صالحةٍ للعرض على القيادة، وفيها من الضَّبْط والعَمَلانية ما يسمحُ بأن تسلُك طريقَها للتطبيق. وبعيدًا من أنه لم يُعلِن آخرَ ما توصَّل إليه المُجتمعون؛ فالأرجحُ أنهم وضعوا أياديهم على نقاطِ تلاقٍ عِدّة، ورسموا ملامحَ المرحلة بما يُواكِب إجراءات الإصلاح التى اتَّخذتها الحكومةُ، لا سيّما بعد صفقة «رأس الحكمة» واتِّفاق صندوق النقد، وتأثيرات تحرير سعر الصرف وتشديد السياسة النقدية؛ بما يُحاصر التضخُّم ويُقوِّض السوقَ السوداء، ويفتحُ البابَ لإنعاش الاقتصاد بإنهاء ازدواجية التسعير، وكَبْح المُضاربة والتلاعب فيما بين العرض والطلب، والعودة عن تحريف وضعيّة الدولار من عُملةٍ إلى استثمارٍ ووعاء ادّخار.. ولعلّهم يلتقون مُجدَّدًا، أو يستكملون المُداولة بآليّةٍ أُخرى، إنما فى كلِّ الأحوال صار فى اليد ما يُمكن القولُ إنه نِتاج حوارٍ اقتصادى منهجىّ وذى رؤيةٍ مُتماسكة وأهدافٍ واضحة.
كان الانطلاقُ صيف 2023 ذا طبيعةٍ خاصة. عندما دعا الرئيسُ للحوار فى رمضان قبل عامين كان يعى أننا فى حاجةٍ إلى اللقاء، وأن جليدًا تراكم بين القوى السياسية يُوجِب توليدَ حرارةٍ كافية لإذابته. تطلَّب ترتيبُ الغُرفة شهورًا من التحايل على ميراث سوء الفهم، وشَقِّ مسارٍ ناعمٍ ومُتَّسعٍ باتّجاه إعادة بناء الثقة. وتكفَّل مجلسُ الأُمناء المُمثّلُ لكلِّ التيَّارات بجَسْر الفجوات وتقريب وجهات النظر، ثمّ صِيْغَت أجندةٌ مُوسَّعة فى محاورها ومضامينها، وتعيَّن أن تكون المُشاركة مفتوحةً إلى مداها الأقصى؛ لأجل أن تكتسب الفعاليةُ صِفةَ الشمول، وتُعبِّر عن حالة الإجماع المطلوبة؛ لا بمعنى التطابُق وتنحية الخلافات تمامًا، بل التسليم بأنَّ الحالةَ الحوارية غايةٌ فى ذاتها، والمُرتكزُ الذى لا بديلَ عن اعتماده مُنطلَقًا لحِقبةٍ سياسية جديدة. وكان من نِتاج ذلك أن حضرت الأحزابُ والكيانات بصِفاتها أوَّلاً، ورفع المُختصّون فيها راياتِ الأيديولوجيا والانتماء الفكرى، فوق التزامات الانفتاح على الآخرين، وتقيُّد الخطاب بالمنهج والمعرفة التخصُّصية. وإن كانت التجربةُ أفضت إلى حصائل توافقيّة جيدة؛ فإنها ظلَّت أقلَّ ممَّا يتوجَّبُ إنجازه، أو ما يقتضيه الراهنُ بتعقيداته. ولعلّ تلك الملاحظة تلاشت على أحسنِ ما يكون فى المُقاربة الاقتصادية التالية، لاعتباراتٍ أوّلُها إحكامُ مَنطق الحوار، وتحريرُه من معيار المُحاصصة والتمثيل بالألوان والمذهبيّات.
تجلَّى فى أسبوعِ الاقتصاد ما كان خافتًا قليلاً طوال شهور السياسة. فى المُبتدأ خُلِطَت الموضوعاتُ ببعضها، واحتشدت الأجندةُ حتى صار إيفاء كلِّ عنوانٍ ما يستحقَّه عسيرًا ومُرهقًا. وتشدَّد الحزبيِّون فى أن يكون الظاهر من جَسد الحوار محصورًا فيما بين السلطة والمُعارضة، وربما لم يُولِ بعضُهم اهتمامًا كافيًا لمسائل الاجتماع والمعيشة والتنمية. أمَّا فى العودة؛ فقد لعب التحديدُ دورًا فى ترشيد النزعات الشخصية وميول الاستعراض لدى فريق، واجتذاب آخرين إلى حيِّز التعقُّل والحَفر الجاد والعميق فى القضايا. وقد عُقِدَت اثنتا عشرة جلسةً على مدى أربعة أيام، تناولت محاور: التضخُّم وغلاء الأسعار، الدَّيْن العام وعجز الموازنة، أولويّات الاستثمارات العامة وسياسة ملكية الدولة، والعدالة الاجتماعية. واختير المُشاركون على قاعدةٍ لا تُسقط الحاجة لتمثيلٍ عريضٍ وعادلٍ، ولا تتساهل بشأن التأهيل والجدارة، وأولويّة امتلاك الخبرة والكفاءة الاختصاصية اللازمتين للاشتباك مع عناوين نوعيّة، لها طابعٌ علمىّ ولا تُؤخَذُ بالرأى المُجرَّد من دون تأسيسٍ واعٍ ومُنضبط. وربما لهذا كانت نقاشاتُه أكثرَ تحديدًا ونفاذًا للجوهر، ومُخرجاتُه أقربَ إلى الاتفاق والصياغات المعيارية، والشاهدُ أنَّ المرحلةَ الأولى احتاجت عِدَّة أسابيع وعشرات الساعات لصياغة مُقترحاتها، ولم تتجاوز المهلةُ الأخيرةُ يومًا واحدًا واجتماعًا فى آخر نهاره. صحيح أن الحالتين تختلفان فى حجم الموضوعات وكثافة المُشاركة والأفكار؛ لكن تظلُّ ورشةُ الصياغة الأحدثُ أقلَّ إرهاقًا من سوابقها، بالنظر إلى أنها تناولت محاورَ خلافيّة بطَبْعها، ولخَّصت مُدوّنةً طويلة من أوراق وعطايا عشرات المُتحدثين، أكاديميِّين وتنفيذيِّين ومن أهل الفِكر والعمل العام.
خزانةُ الحكومة وخُبرائها ومُستشاريها ليست فارغةً فيما يخصُّ الأفكارَ وبرامج العمل؛ إنما فلسفةُ الحوار أن تكون السُّبلُ جامعةً ونتاجَ عملٍ مُشترك. وإذ شهدت الفترةُ الأخيرة تحرُّكاتٍ إصلاحيةً جادّةً؛ لناحية ضبط السياستين المالية والنقدية، وتَقويم أداء المُوازنة العامة، وأولويّات المشروعات والإنفاق العام، وجَذب الاستثمارات، وتخليق مصادر جديدة للنقد الأجنبى؛ فإنَّ على المُتحاورين أن يُواكبوا الخُطَّةَ بمزيدٍ من الحلول والمُقترحات التى تُصبُّ فى نهرها بمساره الجديد. والمنصَّةُ بالأساس بوتقةٌ للتجميع وصَهر العقول والخيالات الخلّاقة معًا، والمُلتحقون بها جميعًا يعرفون أنها ليست جهةَ تشريعٍ أو تنفيذ، ولا تتقدَّمُ على المُؤسَّسات الشرعية أو تنتزعُ شيئًا من صلاحيّاتها. أى أنّهم شريكٌ لا بديل، وبالأكثرِ لهم أثرُ الرقابةِ المعنويّة، وعليهم واجبُ التضامن العملىّ والفكرى، وبين كفوفهم فاعليّةُ التيسير والتأثير بالابتكار والإبداع؛ لا بتوازناتٍ سياسيّة أو خطاباتٍ شعبوية.. والتوصُّل لتلك الخُلاصة عبر عُمرِ التجربة إلى الآن؛ إنما يسمحُ بأن تترسَّخ حالةُ التلاقى على بيّنةٍ، وبموضوعيّةٍ واعتدال؛ لتكون قناةً دائمةً للشارع نحو دولاب الدولة، وأداةً تُعينُ المسؤولين على استشراف حصيلة امتزاج الرأى العام بالأيديولوجيا والانضباط المعرفى. وإن رُوعِى هذا فى نظرة المُعارضة للحالة الوطنية المُتحقِّقة فى الحوار؛ فبإمكانهم أن يُعوّضوا كثيرًا ممَّا فاتهم مع الدولة فى نطاقها المُؤسِّسى، ومع كياناتهم لجهةِ الهيكلة والتفعيل وإعادة الإطلاق، ومع المجال العام؛ بالوصول إلى الجمهور وترقية القواعد الحزبيّة، واختبار برامجهم وخطاباتهم بعيدًا من الافتتان بالذات، لبناء تجربة مُثمرة بالتراكم والحيوية الاجتماعية، وخارج إطار النخبويّة والمَحاضِن المُعقَّمة.
قماشةُ الأيديولوجيا فى مصر عريضةٌ باتّساع خريطة البلد نفسه. من أقصى اليسار لأقصى اليمين، ومن الرصانة فى القول والفعل، إلى أعلى صُوَر الخِفَّة والحنجورية. ولأنه ليس مطلوبًا أن أن يخُفت صوت التنوّع أو يكون عامل ضعف لا قوّة؛ فالتلاقى على مائدة حوارية ممّا يصون الحالة الثرية، والخلاف فى داخلها ممّا يُعظِّم كفاءة المُتحزِّبين ويُرقِّى مهارتَهم وسلوكيّاتهم. ويتحقَّقُ التوازُن الفعّالُ بأن تتوارى الأجنداتُ السياسية فيما لا يحتمل التناطُحَ بالخُطبِ والمُناكفات، وأن تحضُر وقتما تكونُ البيئةُ مُهيَّأةً للتسابُق على أرضٍ ثابتةٍ ولغاياتٍ لا ينفصل فيها الذاتى عن الموضوعى. وبعضُ الأحزاب قد يفوتُها أنها جُزءٌ من مناخٍ عام، لا تُغرِّد فى فضاءٍ فارغٍ، وليس بمقدورها أن تقفزَ الهياكلَ الفلسفية الراسخة لدى الدولة. بمعنى أنك سواء كُنت يساريًّا أو قوميًّا أو ذا هوى مُحافظ؛ لا يُمكن أن تتصادَمَ مع الصيغة الوطنية المدنيَّة بانفتاحها الاقتصادى، بل أن تُصالحها وتُوفِّق أفكارك بما يتناسبُ معها. المُعارضةُ فى جوهرها جزءٌ من النظام، على حقيقة أنها بالتعريف والمُمارسة تكتسبُ صفتَها من الوقوف على أحد جانبى الإدارة القائمة، وكُلَّما تشدَّدت فى خطابها ابتعدتْ عن مركز الصورة، وأُعِيد تعريفُها على حالٍ تُغيِّر من طبيعتها أمام المنظومة القائمة، وتُعمّق الفجوةَ التى تفصلُها عن الوصول للسلطة، بحسب الفلسفة الأصيلة للعمل السياسى، وما يُميّز الأحزابَ عن بقيَّة المجتمع المدنى؛ بوصفها كياناتٍ تسعى حثيثًا لقبول الجمهور، وتُنافس بالضرورة على الحُكم، تشريعًا وتنفيذًا.
قطع «الحوار» شوطًا طويلاً فى الوعى. ربما بدأ كمحاولةٍ للتقارُب بعد جفاء؛ لكنه صار تُربةً صالحة لإنبات حالةٍ غير ما عهدناه. لن تصير المعارضةُ موالاةً طبعًا، أو العكس، ولن يختلط اليمينُ باليسار؛ إنما ستترشَّدُ الخطاباتُ باختبار المُنافسين عن قرب، وتصفية المُمارسة اليومية من عاداتها القديمة فى التعبئة والدعايات والهجاء السياسى المُتبادَل. لصالحِ الطرفين أن يكون كلٌّ منهما أقوى، ولصالح التجربةِ كلِّها أن تتكسَّر العظامُ حوارًا لا صراعًا، فيُطرَح كلُّ شىءٍ على الطاولة لضبط مناسيب الوِفاق والشِّقاق، وتخليص الساحة من ميراث الوَصْم والابتزاز وتجارة الشعارات، ويبقى الجميع مُتحابّين وجاهزين لمُنازلاتٍ سلمية جديدة. وورقةُ الاقتصاد أصلحُ الأوراق لتخطيط المعمار الجديد؛ إذ هى فى جانبها الفنِّى مسألةٌ رياضية لا تقبلُ التأويلَ والتصحيف، وفى شِقِّها السياسى تنضبطُ بفلسفة الدولة التى دخلت مجال الليبرالية واقتصاد السوق قبل عقود، وبات لِزامًا على الجميع، حتى أشدّ الماركسيِّين مُحافظةً وتطرُّفًا، أن يُعدِّلوا مُقارباتهم الاجتماعية بملا يُلائم الماكينة التى يعملون داخلها، أو يتطلَّعون لإدارتها. ربما لم يتحقَّق المطلوب كاملاً، وما زالت بعضُ التيَّارات تعتصمُ براديكاليةِ مُعتقدها وما تعتبرُه نقاءً أيديولوجيًّا؛ لكنَّ النزول إلى النهر سيُجبرُهم على تعلُّم السباحة، أو صعودِ القارب بحثًا عن النجاة من الغرق فى التهاويم بعيدًا عن الواقع وأنظار الناس. وإنْ أحسنَ الآتون من الظلِّ قراءةَ اللحظة؛ فإنهم المُستفيدُ الأكبر من تأمين مقعدٍ لهم على الطاولة، إذ لأوَّلِ مرَّةٍ يمتحنون معارفَهم وخبراتهم فى مُجادلةٍ صِحيّة مع الزمن، ومن دون طوباويّة الفلسفات النظرية، وأوهام الشعبية التى لا جسدَ لها أو ظلّ من الحقيقة.
رُفِعَ شعارُ «مساحات مشتركة» لجولة الاقتصاد، وإذا كان من أهدافها إنتاجُ رؤيةٍ فنيّة لا تتعالى على الواقع، ولا تُخاصِم الأحلامَ التنمويَّة الكُبرى؛ فإنَّ أثمنَ غاياتها أن تخلِقَ المساحات وتُعزِّز الشراكات. سيكون مُهمًّا أن يضع المُتحاورون التوصيات الأربعين أمام القيادة وواضعى السياسات، وقال بعضُ مجلس الأمناء إنها 128 توصية من واقع الجولة الأخيرة وجَرد ما تبقّى من مُخرجاتٍ سابقةٍ بالمرحلة الأولى، وبعيدًا من العدد فالأهمّ أن يخرجوا بما يضعُهم أمامَ الاستحقاق الأوَّل المُلقَى على عاتقهم، تجاه أنفسِهم والرأى العام. بمعنى أن تتضاءل الشخصنةُ والتكلُّسات الفردية، وتعلوَ نزعةُ الغيريَّة والاندماج فى سياقٍ عريض، يحتوى الجميع دون أن يفتئت على تمايزاتِهم، وتُدار الصراعاتُ فيه بالعقل والحُجَّة وعلى شرط المصلحة العُليا، ثم تأتى بعدها المصالحُ الظرفيَّة فى سباق المكاسب والجماهيرية والتمثيل النيابى وبين أجنحة السلطة. أنجزَ الحوارُ أكثرَ ممَّا كان يتمنَّاه كثيرون أو يتخيَّلونه قبل سنتين، وفى محطَّاته المُرجأة كثيرٌ يُمكن إنجازه، وليس بعيدًا على طاقته؛ وقد نضجَ واتَّخذ صيغةً مُؤسَّسية مُحكَمَة. لا ربحَ أكبرُ من أن يتحدَّث الجميعُ لغةً واحدة، وها قد اكتمل قاموسُها واتَّضحت معانيه، والواجبُ ألَّا يتوقَّف الكلام؛ إذ كلَّما تحادث الناسُ ازدادوا وعيًا وأُلفة، وذلك أعظمُ ما تحتاجُه المرحلةُ، لوجهِ الوطن قبل كل شىءٍ، ثمّ أيضًا لفائدة كلِّ حزبٍ وتيَّار.