هيثم الحاج على

لغة مشتركة واحدة أم لغات متعددة

الخميس، 14 مارس 2024 07:41 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

في كل اللغات التي تتسع رقعة مستخدميها تختلف اللهجات أحيانا إلى حد التنافر وعدم الفهم بين متحدثين من مناطق مختلفة، لذلك يلجأ مجتمع المتحدثين المتسع هذا إلى اختراع آلية للفهم المشترك، وغالبا ما تكون هذه الآلية هي اختيار إحدى هذه اللهجات لكي تكون مفهومة للجميع، وهو أمر يستلزم تراكما تاريخيا يطول ويقصر حسب عوامل متعددة، منها ما يتعلق باللهجة نفسها مثل السهولة، ومنها ما يتعلق بظروف وعوامل خارجية كأن يكون مكان الحديث بها متوسطا على المستوى الجغرافي، وهو ما يمكن ملاحظته في اختيار العرب للهجة قريش بوصفها مفهومة بينهم جميعا للظروف السابقة مضافا إليها الاحتكاك الدائم المباشر بين كل القبائل من ناحية وبين قريش من ناحية أخرى سواء في الحج أو في رحلات الشتاء والصيف، التي جعلت من قريش ضيفا دائما على الجميع، وهو الأمر الذي جعل من لهجة قريش تعلو فوق مرتبة اللهجة المحلية لتصير لغة مشتركة بين العرب مما جعل من الطبيعي أن يتنزل القرآن وبه من سمات لغة قريش وعناصرها ما يكون الأغلب الأعم من لغته.

وقد تفردت اللغة العربية بين اللغات بأن لها أكثر من لغة مشتركة، الأولى قديمة تم تثبيتها بالنصوص المقدسة ووضع القواعد، والثانية حديثة اجتمعت لها الظروف ذاتها وربما أضيف إليها عوامل أخرى، وهي اللهجة القاهرية، التي اجتمعت لها الظروف الجغرافية بتوسط مصر بين الأقطار العربية، وكذلك بوجود الأزهر الذي يعد الوجهة الأساسية لطلاب العلم اللغوي والشرعي، بالإضافة إلى إيفاده البعثات التعليمية والدعوية فيما يشبه عامل رحلة الشتاء والصيف لدى العرب، ليصبح لدينا حالة لا تتكرر كثيرا إلا في اللغات ذات الاستخدام الواسع مثل نمطي اللغة الإنجليزية: البريطانية والأمريكية.

ويمكن أن نزيد على ذلك الثقل الإعلامي والفني الذي اتخذته القاهرة بوصفها مركزا للصحافة والإذاعة والسينما والتليفزيون، بالإضافة إلى المحمول الحضاري المتراكم الذي جعل من اللهجة القاهرية لغة مشتركة بالمعنى ذاته لدى العرب عموما، وهو ما يمكن معه النظر إلى هذه اللهجة على اعتبار أنها قد ارتقت فوق مستوى اللهجة لتصبح لغة مشتركة جديدة مضافة إلى اللغة المشتركة القديمة (الفصيحة)، وهي الحالة التي أدت إلى تراكم إبداعي خاصة على مستوى الأداء الجمالي لهذه اللغة في الشعر خصوصا، حيث صار لها تراث على مدار قرن استطاع موازاة القصيدة الفصيحة في قرونها الخمسة عشر، بل قد يكون قد فاقها في بعض الأحيان، على يد أسماء مثل بديع خيري وبيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين والأبنودي وسيد حجاب وغيرهم الكثيرين ممن رسخوا للقصيدة المصرية بوصفها علامة على الأداء اللغوي الجمالي.

إن هذه الحالة لا تحتاج منا الآن سوى البدء في دراسة هذه الحالة والنظر في قواعدها، والآداب التي أنتجتها جنبا إلى جنب مع الفصيحة لتصبح قيمة تعبيرية مضافة تسهم في اتساع الإمكانات التعبيرية في الثقافة العربية.







مشاركة



الموضوعات المتعلقة




الرجوع الى أعلى الصفحة