حازم حسين

انسداد الواقع وانفراجة الأوراق.. قرار مجلس الأمن بين الإيجابية والاحتيال على المأساة

الأربعاء، 27 مارس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

وصل مجلسُ الأمن مُتأخّرًا ستّة أشهر تقريبًا، وفضلاً على البطء لم يكن الوصول دقيقًا ومثاليًّا. القرار الذى جرى تمريره بأغلبيةٍ كاسحة يبدو إيجابيًّا فى جانب، وشديدَ السلبية فى جوانب أخرى؛ فمن ناحية الدلالة يُؤكِّد فداحة ما يُدار على أرض غزّة، ووجوبَ ألّا يستمر دقيقةً واحدة إضافية؛ أمَّا على صعيد الأثر فيكاد يكون معدومًا، إذ جاء موقوتًا بمُهلة أوشكت على الانتهاء أصلاً، ولا ينصّ على وقفٍ مُستدام للحرب، كما لا يشتمل على آليات تنفيذ عمليّة ومُلزمة. ومن وراء المنطوق، تبدو الولايات المتحدة ظاهريًّا أنها تحرَّرت من رؤيتها المُتطرّفة فى دعم إسرائيل، وتستبطنُ عمليًّا ما يسمح بإبقاء الأوضاع على حالها، وضمان ألّا يضطرّ الحليف الصهيونى لإرخاء قبضته، مع تعميق سرديّة الخلاف بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو، بما يُقلِّص منسوبَ الانتقادات التى تُلاحق واشنطن، ولا يُثمِر أيّة ترتيبات مُغايرة فى الميدان. كأنها مُناورة قديمةٌ بأسلوب مُعدَّل؛ فبدلاً من تعطيل المنظومة الدولية بالفيتو المُعتاد، تُرخِى لها حبلَ الأمانى لآخره، وتتركها أمام حقيقة عوارها البنيوى، وعجزها الراسخ عن الانتقال من الخطابى إلى الإجرائى؛ طالما أن إرادة المُؤسَّسة الرفيعة لا تنضبط على إيقاع الرغبات الأمريكية الدنيئة.


حقَّق البيتُ الأبيض رُزمةَ أهدافٍ مُتشابكة؛ أهمّها تصفير فاتورة الانحياز الطويل، وتضليل المُنتقدين عبر الإيحاء بتبدُّل المواقف، وتقويم المُقاربة الأمريكية على قاعدة الانصياع للأغلبية واسترداد استقامتها الأخلاقية الضائعة. وإلى ذلك؛ فإنها تُعيدُ تسويقَ نفسها لدى العرب، والفلسطينيين تحديدًا، على صورة الوسيط النزيه والضامن الفاعل؛ وإنْ بالسلب لا الإيجاب، إضافة لمُخاطبة نتنياهو باللغة التى يفهمها، بوَضعِه فى مجال التهديد، وتذكيره بهشاشة مركزه من دون رعاية الأخ الأكبر وغطائه السياسى. ومن هذا المنطلق؛ لا يصحّ النظر إلى عبور القرار لجلسة التصويت بأربعة عشر صوتًا، باعتباره نصرًا مُكتملاً، أو استفاقةً حقيقية، للمرافق الأُمميّة والمُمسكين بخناق ضميرها وأدواتها. فالسوابقُ القريبة تُذكّر بإحباط مسوّدات أقوى وأضعف، وتمرير قرارين هامشيين لا يتجاوزان نطاق التضامن العاطفى ودغدغة المشاعر، ولم يستجدّ فى بيئة الأزمة ما يُغيِّر منطقَ التعاطى الأمريكى معها؛ إنما المُتغيّرات تخصُّ نزاعات الداخل على السباق الرئاسى، ومُحاولة ضبط المقادير فى علاقة واشنطن بتل أبيب، ولا مانعَ من سرقة الوقت؛ طالما أنها لا تُسرِّع عقاربَ الساعة ولا تُعيد تركيب التوازنات بميكانيزم مُغاير.


المشروع قدَّمته الدولُ العشر المُنتخَبة بالمجلس، وطُرِح بالتزامن مع قرارٍ أمريكى أُسقِطَ مساء الجمعة بفيتو من موسكو وبكين.. وقد يكون إرجاء التصويت عليه مرَّتين مُؤشّرًا على جدل الكواليس وضغوطها؛ لا سيّما أن النسخة الأخيرة خرجت منزوعةَ الدسم تمامًا، وتهاوى على طريق إنضاجها مُقترَح روسىٌّ بالنصّ على «وقفٍ دائم» لإطلاق النار. وإذا كانت بعثةُ واشنطن تفرَّغت قبل ثلاثة أيام لمحاولة إدانة حماس، مُقابلَ وَضع إكليلِ زُهورٍ على قبور الضحايا دونَ مساسٍ بالقتلة؛ فالمنطقُ أنها ما صَمتت على الورقة البديلة لورقتها؛ إلّا لأنها تتلاقى معها فى الأهداف، أو على الأقل لا تُرتِّب ما يتعارضُ معها، وبالتبعية فإنها لا تصبُّ عمليًّا لصالح الغزِّيين، ولا تُقوّض غطرسةَ الاحتلال ومحرقتَه المفتوحة على القطاع. والمُؤكَّد بالبديهة أنه لا غِنى عن المواقف الإيجابية؛ مهما بدت ضعيفةً ومعدومة الأثر، وعلى تلك الصفة يُحمَل قرارُ مجلس الأمن الأخير؛ والمهم أن يُرَى فى سياقه الصحيح من دون تضخيم، وألَّا يصير أداةَ إلهاءٍ تَحرفُ النظرَ عن فداحة الواقع، وعن أصل المُشكلة وجذورها العميقة.


رحّبت مصرُ وعشرات العواصم فى الإقليم والعالم بالقرار. ومناطُ التقبُّل الحَسِن للخطوة أنها تأتى بعد انسدادٍ طويل، وتفتحُ الباب لما يُمكن أن يُعبِّد مسارًا تصحيحيًّا بعد شهور النار وعقود الخلل العميق.. إنه الرهان على أثر الفراشة، وأن تتكفَّل حبّاتُ المطر، على نُدرتها وتباعُدها، بنَحت الجدار السميك الخانق للقضيّة إجمالاً، وحول عنق غزّة خصوصًا، منذ «طوفان الأقصى» مرورًا بكل ما تلاه من عدوانٍ حارق. ولعلَّ التشبُّث بالأمل يحتملُ الرهان على أن تنحلَّ العُقدة الغليظة بين البيت الأبيض و«كابينت الحرب»، ويُراجِع بايدن سياستَه الحالية؛ خاصّةً أنّ مياهه مع نتنياهو آسنةٌ وغير صافية، وبطبيعة الحال فإنّ إبطاءَ وتيرة المَقتلة يُمهِّد لإيقافها؛ فإذا كان مُتعذّرًا إقناع المخابيل فى تل أبيب بالتوقُّف، فقد يتيسَّر إجبارهم عليه؛ باستكمال تفكيك شبكة الدعم الغربية، ثمّ الدفع نحو إرساء الهُدنة وإطالة مداها؛ حتى يصير البقاء فيها مَقبولاً وإجماعيًّا، وكُلفة إدامتها أقلّ من تكاليف الرجوع عنها.. الأفكارُ كلّها أقربُ للسيناريوهات الاحتمالية؛ والضعف الكامن فيها جميعًا، هو نفسه الحافز الدائم على المحاولة الدؤوب ومواصلة اختبارها دونَ يأسٍ أو كَلَل.


هدَّد نتنياهو باتّخاذ مواقف ساخنة مع الإدارة الأمريكية ما لم تُفعِّل الفيتو لصالحه، ثمّ أنفذ التهديدَ بعد القرار، بإلغاء زيارة وفدٍ إسرائيلى لواشنطن.. يبدو المشهد مسرحيًّا؛ فبايدن ينتحلُ قناع الحياد و«بيبى» يُصوِّر نفسه مُناضلاً توراتيًّا يتصدَّى لأعاصير الأغيار؛ ولو كانوا رُعاةً وحلفاء. وفيما وراء الإخراج المُصطنَع تستمر زيارة وزير الدفاع يوآف جالانت لأمريكا، والاتصالات الأمنية والعسكرية وصفقات التسليح، ويقول جون كيربى بعد تصويت مجلس الأمن مُباشرةً إنهم لم يُغيّروا سياستهم، ولن يُغيروها، كما أنهم لم يتخلّوا عن دعم تل أبيب، وإلى ذلك ينتقدُ أن القرار لم يتضمَّن التنديد بحماس، ويُشدِّد على أولوية الوصول لمستقبلٍ لا يكون الاحتلال مُهدَّدًا فيه من المقاومة، وأنهم جاهزون لمناقشة عملية رفح حتى مع إلغاء الرحلة المُرتَّبة سلفًا، وزادت مُمثّلتهم الأُمميّة ليندا جرينفيلد باتهام الروس والصينيين وإدانة مجلس الأمن نفسه.


لم يقع الخلاف فى جولاتٍ سابقة أشدّ خطرًا؛ فيما يدور اليوم بحسابات مُنضبطة وفى خلفيّته قرارٌ شكلانى أقرب للبلاغة اللفظية. أهمّ البنود الدعوة لوقف النار لأسبابٍ إنسانية خلال شهر رمضان، والإفراج عن الرهائن والمُحتجَزين المدنيّين، وتيسير إنفاذ المُساعدات إلى كلِّ مناطق القطاع. وبعيدًا من الصياغة الفضفاضة؛ فإنّ المنطوق لا يحمل فى بنيته فاعلاً ماديًّا أو تصوُّرًا موضوعيًّا لمسارات التطبيق.. والصهاينة قالوا بعد صدوره مُباشرة إنهم لن يلتزموا به وماضون فى حربهم، ما يعنى أنهم يحتاجون للمُماطلة لأسبوعين فقط قبل أن يسقُط القرار عمليًّا، عندما ينتهى مداه الزمنى بنهاية موسم الصوم. كما أن عمومية الحديث عن الرهائن يتركُ الأُمورَ عند نقطة الانسداد الحالية فى مُفاوضات الهُدنة، وكذلك مسألة الإغاثة من دون إدانة برامج التجويع المُمنهَجة وإغلاق المعابر وتعطيل التدفُّقات من مصر وعبر البحر وجغرافيا الاحتلال نفسه. والخُلاصة أن المجلس كأنه يأتى أفعال الأراذل ويُردِّد دعاوى الصالحين، ويُنزل رسائل اللُطف على أوراقٍ تحملُ الشعارات الأُمميّة؛ لكنه يكتفى من المهمّة بالكلام، ولا ينشغل بما وراء قَرع الطبول وإلقاء الخُطَب.


فى المُقابل؛ كأنَّ الدراما تُقلِّب صفحاتها باستخفافٍ بين مأساةٍ ومَلهاة. القرار على ضعفِه يُمثّل دفعةً مهمّة للغزِّيين ومَظلمتهم، ويتعيَّن أن يُحسِنوا تلقّيه والتمسُّك به. ما حدث أن «حماس» الفنادق تحدَّثت بما يُناسب المقام، وامتدحت الخطوةَ مع إبداء آمالٍ صافيةٍ بتطويرها لتهدئة دائمة، أمَّا «حماس» الخنادق فاتّخذت موقفًا مُضادًّا، وأعلن «القسّاميون» عن رشقةِ صواريخ على غلاف القطاع، أكَّدها الإعلامُ العبرىّ لاحقًا، وبين الموقفين أبدى سياسيّو الحركة تشدُّدًا فى مُفاوضات الهُدنة، وتحدّثوا بنِدّية لا يتطلّبها السياق المأزوم، ولا تُلائم حال الفريسة بين مخالب الضباع. وإذا كان المطلب الأُمَمىّ ينحصرُ فى أيام الصوم، ولدى الصهاينة رغبةٌ حارّة فى تجاوز المانع الطارئ؛ فإنه لا شىء يخدمهم فى المُماطلة أكثر من إطلاق قذائف فارغة تضرُّ سُمعةَ القطاع ولا تخدشُ وجهَ الاحتلال. وفى الأمر مُفارقة غير مفهومة؛ كأنّ بعض الفصائل الأُصوليّة يُديرون برنامج التصعيد بتوافقٍ غريب مع نتنياهو ومخابيله التوراتيِّين.


خطوةُ المجلس لن تكون فعّالة فى المديين القريب والمُتوسّط؛ لكنها تظلّ تحرُّكًا رمزيًّا مُهمًّا. ليس معروفًا إلى أين يؤول القرار، وما الإجراءات اللاحقة على مُخالفة الاحتلال، وهل يُوضَع الملف بتفاصيله تحت الفصل السابع، أم يستهلك آثارَه كلَّها فى حيِّز البلاغة المحضة والطبطبة على الأكتاف. ولا يمنع الجهلُ بالمآلات، أو التشاؤم ممّا قد تُفضِى إليه الخطوة، من القول إنها تنطوى على أمورٍ إيجابية، بقدر ما تحمل من إشاراتٍ تدلُّ على الخديعة ورغبة الاحتيال على العالم، والتحايُل على المأساة. الأمريكيون والإسرائيليون يمنحون الرافضين للمقتلة منديلاً يُجفّفون فيه دموعَهم، والضحايا يلتقطون أنفاسَهم ولا يفقدون آخر بصيصٍ من الأمل، ودول الاعتدال والتعقُّل يزدادُ تمسُّكها بالدبلوماسية والقانون. وكلها ممَّا لا شرّ فيه؛ إنما يتعيّن أن يُستكمَل بورشةٍ دولية تتجاوز الحربَ لِمَا ورائها، وتُثير موضوعات المستقبل وسُلطة الفلسطينيين على أرضهم، وتُجدِّد «حلَّ الدولتين» باعترافٍ واسعٍ يُفسِح مقعدًا لفلسطين على الطاولة الدولية. وشرط ذلك كلّه أن تؤوب الفصائل لرُشدِها؛ وألّا تنزلق لمُغامراتٍ غير مفهومة؛ كأن تُجاهر بالقوّة والصواريخ فى أكثر أوقاتها احتياجًا لقِناع الضعف والمُعاناة. إنها انفراجةٌ على الورق، وانسدادٌ يزحم الأرض والسماء؛ وما بينهما رهانات مُتجدِّدةٌ بمروحةٍ واسعة، وهكذا يجب أن تكون دائمًا: ديناميكية وطموحة ومتعددة البدائل، وعلى كلّ شىء تقريبًا؛ إلَّا الانقسام، فلا يجب أن يظلَّ حاكمًا لعقولٍ أدمنت المقامرات وأرواح سرقتها الأحلاف والمذهبيات، ولا مُعينًا للاحتلال وآلته الوحشيّة على القضية وعدلها الكامن فيها، وعلى الفرائس البائسة بين عدوٍّ قامعٍ وشقيقٍ طامع، حتى أنهم يُقتَلون فى الهجوم والدفاع، وفى العدوان والقصاص، ومن دون مشورةٍ أو اختيار أو جنازاتٍ لائقة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة