كلاهما خاسر، والخسارة الأكبر للسودان الذى عاش استنزافًا مفتوحًا لعقودٍ، اشتدّت وطأته بنهايات 2018 واستفحلت فى السنة الأخيرة. وباكتمال عامٍ من الحرب؛ آلت أوضاعُه إلى هشاشةٍ وهُزال عميقين، وإلى تردٍّ على كلِّ المستويات، وصارت الصراعاتُ الصفرية، بما فيها من استقطابٍ وإلغاءٍ ونكوصٍ عن فكرة الدولة، دائرةَ نارٍ تأكل الأخضرَ واليابس، وتُهدِّد المُجتمعَ فى أُصوله الثقافية والأخلاقية وهُويّته الجامعة. تقدَّم العنفُ ليفرض قانونَه، وتراجعت فاعليّةُ الوسائل السلميّة لتنظيم القوَّة وترشيد فوائضها، ولم تعُد النخبةُ قادرةً على الاضطلاع بأدوارها التاريخية، بينما يُسدِّد الشعبُ تكاليفَ المُقامرات الخَطِرة، وينوءُ وحده بأعباء الرواسب القديمة، وبالعجز البنيوىّ وعدم الرغبة فى ضَبط المسار المُنحرف.. وجذرُ الأزمة أنَّ الإسلاميين خنقوا المجال العام طوال سُلطتهم، وما زال أثرُهم حاضرًا بعدما غادروها؛ باللعب المُباشر فى بيئة المعركة ومن وراء سِتار الميليشيات، أو بالتسلُّط على وعى الطبقة المدنيّة فى نظرتها لبعضها، وفى اشتباكها مع مرافق الحُكم.
دارت الشهورُ دورةً كاملة؛ لينتهى عامٌ من الاحتراب ويبدأ آخر. والمُؤشِّرات الكَمِّية شديدة الثِّقَل والإزعاج؛ كأنَّ البلد الكبير حجمًا والصغير فى الحظِّ والفاعليّة؛ ارتدّ عُقودًا للوراء وغامت السبلُ والسماوات فى عينيه؛ حتى أن بعض أبنائه من ضحايا «البشير» قد يأسون على الماضى بكلِّ عواره وفظاظته. تضرَّرت البنية التحتية بأكثر من 60 مليار دولار، وخسر الاقتصاد نحو 15 مليارًا تتجاوز 45% من ناتجه، وتوقَّف 70% من النشاط، وبلغت كُلفةُ الحرب للآن 100 مليار دولار، تُضاف لها 500 مليون يوميًّا. السوق انكمشت بأكثر من 18%، وخسر الجنيه نصف قيمته، وقفزت البطالةُ لنحو 117%. نُهِبَت البنوك والبيوت، وتراجع إنتاجُ الذهب 900% لأقل من طُنَّين، وتوقَّف ربعُ المستشفيات وخسر القطاع 11 مليار دولار، فضلاً على تسجيل آلاف من حالات الكوليرا وحمّى الضنك، ما يُهدِّد بانفجاراتٍ وبائية تستعصى على الإمكانيات المُتهالكة. وفى البشر؛ قُتِل 13 ألفًا من المدنيِّين، وطُرِد 1.8 مليون خارج الحدود، و11 مليونًا نزحوا بالداخل، وأُبعِدَ ملايينُ التلاميذ عن مدارسهم، ويُواجه 18 مليونًا مخاطر الجوع وسوء التغذية.. ورغم فداحة الأرقام وتعبيرها عن حالٍ شديدة البؤس؛ فإنّ مناخات الجنون والانسداد تدفعُ الدولةَ على المُنحدَر بسرعةٍ أكبر من قدرات الرصد والإحصاء؛ ما يعنى أنّ الحصر السابق ربما تقادَم أو فى سبيله لذلك، والمأساة على الأرض أعظم ممَّا فى مُواكبة الإعلام والمؤسَّسات الدولية، ومخاطرها المُحدِّقة بالمستقبل تفوقُ كلَّ ما أُرِيقَ من دم الحاضر.
استيقظ الناسُ منتصفَ أبريل الماضى على الأخبار.. اشتبك الجيشُ مع ميليشيا الدعم السريع، وتبادلا الاتهامات بالمسؤولية عن الرصاصة الأُولى. بدا المشهد وقتها مُفاجئًا وغير مُرتَّب، أو أُريد له أن يبدو هكذا؛ بينما الوقوفُ اليوم على مسافةٍ من الحدث يكشف بعضَ ما كان غامضًا. السهولة التى تحرَّكت بها قوّات «حميدتى» وحقَّقت نجاحاتها المُبكرة تُشير لنوايا مُبيَّتة، لا سيما أنه سبقتها عملياتُ انتشارٍ وتعزيز للوحدات على محاور رئيسية.. وقبل أيّام مرَّت الذكرى الخامسة لإطاحة «البشير» وعصابته الإخوانية، وتلاشت المُناسبة تحت النار وستار الدخان؛ ولعلّ هذا ما كان مقصودًا من تفخيخ التوازُن الهَشّ داخل مجلس السيادة. أى أن تُزاح ذكرى القصاص منه؛ لصالح استحداث ذاكرةٍ جديدة تكونُ أكثر دمويةً وتعبيرًا عن إخفاق الثورة. وليس معنى ذلك أنّ الذين أشعلوا المعركة لا تُحرِّكهم أهدافٌ شخصية وتكتيكية مُباشرة؛ إنما المقصود أنّ تأثيرات نظام «الإنقاذ» الرجعىّ ماثلةٌ فى وعى المُنخرطين بالصراع، والذين مهَّدوا له واستثمروا فيه، وربما النُّخَب العاجزة عن إيقافه مثلما عجزت عن مَنع وقوعه.. وليس عابرًا ولا هامشيًّا أنّ أحد طرفى الميدان كان «مافيا» غير قانونية قبل عقدين بالأكثر، وله سوابق مُشينة فى نزاعاتٍ جِهويّة أُدِيرت تحت راية الإخوان وحكومتهم، لا بنزوعٍ ثورى ولا لرغبةٍ فى الإصلاح والديمقراطية.
كان ولاءُ «الجنجويد» للبشير شخصيًّا، وأعجبته اللعبةُ فألبسَهم السترات المُموّهة وألحقهم بالجيش، وأفادوه لاحقًا ضد انتفاضة سبتمبر 2013. وفى الثورة كان حضورهم ضمن تركيبة السلطة دليلاً على بقاء بصمة الرجل وإن زالت ملامحُه. فأخطرُ ما فعله الضابط الأُصولىّ بالسودان أنه جَمَّد حركتَه، واقتطع ثُلثَ مساحته، وتركه نَهبًا للعنف والفوضى، ولا تتجسَّد فلسفتُه فى شىءٍ كما فى «الدعم السريع» بتأسيسها القبائلى، وسلاحها المُنفلت، ودورها فى إبعاد عاطفة دارفور عن الدولة الأُمّ. أمَّا الشباب الذين تظاهروا بَحثًا عن مُستقبلٍ أفضل؛ فلم يكونوا واعين بتركيبة النظام وكواليسه، وأهل السياسة عجزوا عن المُواكبة أوّلاً، ثمّ عن تطوير رُؤاهم والاستجابة للسياق الناشئ وتحدِّياته. وبرزت المحنةُ مع الخطوات المُبكِّرة؛ عندما أعلن وزير الدفاع ونائب الرئيس، الفريق أول عوض بن عوف، عن فترةٍ انتقالية مُدّتها سَنتان، ومجلسٍ عسكرى انتقالى تمهيدًا لإنتاج سُلطة مدنية. واضطرّ بأثر الاعتراضات إلى الاستقالة بعد يومٍ واحد، وحلَّ «البرهان» بديلاً، مع حكومةِ تسيير أعمال تُحضِّر للانتخابات خلال تسعة أشهر. ومرَّة ثانية تجدَّد الرفضُ دون بدائل، وأفضى لمُفاوضاتٍ أنتجت الوثيقةَ الدستورية بصيغةٍ أقرب للمُحاصصة: مجلس السيادة مُناصفة بين العسكريين والمدنيين إضافة لعضوٍ مُستقلٍّ بالتوافق، وحكومة من «قوى الحرية والتغيير» تولّاها عبد الله حمدوك أغسطس 2019، وكان أخطر ما فى الاتفاق تمديدُ المُهلة الانتقالية إلى 39 شهرًا.
سقط المدنيِّون فى مُستنقع البحث عن مكاسب عاجلة. فلو كانت النوايا خالصةً للخروج من حال الاستثناء؛ فالأصلُ أن تُختزَل مراحلُ بناء السلطة لأضيق فُسحةٍ زمنية مُمكنة. والمُفارقة أنَّ الذين رفضوا سَنتى «بن عوف» ثم شهور البرهان؛ قَبِلوا بثلاث سنوات وعدّة أشهر، والمُتغيّر الوحيد أنهم صاروا جزءًا من التركيبة وقفزوا على مقاعد الحُكم. وقُصور النظر يتحقَّق بأشنع صُوره فى العجز عن تظهير الدعم الشعبى فى خطّةٍ سياسية وتنفيذية واضحة، والتغاضى عن استكمال المرافق النظاميّة بما يُحصِّن التجربة ويُحسِّن الأداء؛ وكان أهمّها وأرفعها شأنًا أن يُصَارَ لاستحداث مجلسٍ تشريعىّ، يلعبُ دورَ العقل الناظم للسياسات المُقترَحة، والرقيب على المُكلّفين بإنفاذها؛ لكنّ ذلك لم يُوضَع بين رُزمة الاقتراحات والأولويات، ولا وُظِّف الضغطُ الجماهيرىّ لتمريره أو خَلق بديلٍ يُقاربه فى المعنى والأثر. ونتاجُ ذلك أن انقسمت قوى الحرية والتغيير على نفسها بعد اتفاق سلام جوبا مع الحركات المُسلَّحة خريف 2020.
لم يلحَظْ السياسيِّون «العصا الميليشياتية» فى عَجلة المرحلة الانتقالية، وقتما دفعت «الدعم السريع» بعناصرها لفَضّ اعتصام القيادة العامة بعد سبعة أسابيع من إطاحة النظام. ولا عندما أُعلِن عن محاولةِ انقلابٍ من خلايا الإخوان؛ فدافع حميدتى وزايد المدنيّون على الجيش. وبعدها مُظاهرات الزحف الأخضر التى رتَّبتها فلول البشير؛ فعادت من خلالها للمشهد مُجدَّدًا، وأظهرت الانقسام المجتمعى، وكان الواجب وقتها أن يتصدَّى «حمدوك» وظهيره للهجمة المُنظّمة، وأن يُطمئِنوا المُؤسَّسةَ العسكرية بدلاً من استعدائها، ويُرمِّموا تحالُفَهم من الداخل قبل التفرُّغ لصراعات الخارج؛ لأنهم عندما أفرطوا فى التفاؤل، وفرَّطوا فى قراءة الإشارات التعاطى معها بحقِّها، انشقَّت عنهم «قوى سلام جوبا» وتظاهرت أمام القصر الرئاسى طلبًا لإطاحة الحكومة. وهكذا غاب الإجماعُ عن الجبهة المدنيّة، وبغَيْبته انحلَّ تماسُك الجسم العسكرى، ونَمَت طموحات «دقلو» وجناحه المُسلَّح فى الحفاظ على وضعيّته الاستثنائية، أو دَفع السياق بكامله نحو تفكيك التوازُن الحَرِج، وإعادة تركيبه على وجهٍ مُغاير.
قبل الثورة وخلالها، زار رئيسُ المخابرات صلاح الدين قوش السجونَ، والتقى سياسيِّين وقادةً حزبيين ضمن سياق البحث عن مَخرجٍ لهيكلة النظام. وقبل شهرين من السقوط أعلن أنَّ الرئيس سيتنحّى عن قيادة الحزب الحاكم ولن يترشَّح فى 2020؛ لكنّ «البشير» خرج مُعلنًا عن موقفٍ مُضاد. والإشارةُ هنا أنّ قلبَ السُّلطة كان مشغولاً بالمُناورة، ولم يتوقَّف عن مُداولات اللعب بالساحة وامتصاص غضب الشارع. والجيش بطبيعته المُؤسَّسية غير مَعنىٍّ ببقاء الإخوان أو إزاحتهم، وقادر على التكيُّف مع كلِّ الحالات تحت سقف الدستور والمهام المُوكَلة إليه؛ لكن السياق القديم كان مُفيدًا للتيَّارات الرجعيّة وعائلات السلطة، ولبعض الكيانات غير الشرعية التى رعاها الإخوان أو منحوها غطاءً شِبه رسمى. وعلى هذا المعنى؛ فإنَّ القُوى المدنية أكبرُ الرابحين من تغيير الأوضاع، والميليشيات وعلى رأسها «الدعم السريع» أوَّل الراغبين فى استمرارها، وكان الطبيعى أن يصيرَ الجيش رُمانةَ الميزان وعاملَ الحَسم؛ وكلاهما اصطدم به فى مراحل مُتلاحقة ولأسبابٍ مُختلفة؛ لكنّ الجوهر ظلَّ واحدًا، ومحورُه رغبةُ الإقصاء والانفراد بالمشهد.
عندما اتُّخِذت إجراءات أكتوبر 2021 كان حميدتى فى مَتنِها؛ لكنه عاد مع تفجير الوضع قبل سنةٍ لادِّعاء أنه رفضَ الانقلاب، ويخوض الحربَ تحت راية الديمقراطية ومُؤازرة الثورة. والمُثير أنّ تيَّارًا من المدنيِّين ابتلعوا الكذبة، وساروا فى رَكب الميليشيا وقائدها بالتنسيق المباشر، أو بإرخاء غطاءٍ سياسىٍّ على لَوثته العسكرية المُضادّة لفكرتى الدولة والثورة معًا. وباختصار؛ فالمحنةُ منذ البداية فى افتقاد الشارع للقيادة، وفى غياب العقل وتسيُّد الانتهازية. وليس أدلَّ على ذلك من ارتباك المواقف إزاء البرنامج الانتقالى، فقد رفضوا خطّتَه القصيرة لأنهم لم يقتسموا كعكتَها، وقبلوه مُضاعَفًا عندما فُتِحَت لهم أبوابُ الحكومة. وفى العُمق؛ فقد وافقت الأحزاب على التمديد طمعًا لا تعقُّلاً، إذ كانوا واعين تمامًا بعَجزهم عن خَوض انتخاباتٍ سريعة، وسَعوا لتعويض هشاشتهم بالرقص على إيقاعٍ سائلٍ زمنيًّا، وتبدّلوا فى التحالفات من دون رؤيةٍ أو منطق؛ فاتّفقوا مع الجيش على توحيد المُؤسَّسة، وقَبلوا من «الدعم السريع» تمرُّدَهم على البروتوكول الأمنى وترتيبات الدَّمج. ومن وراء ذلك كانت مصالح بعضِهم المباشرة، وإملاءات الرُّعاة والمُموِّلين على بعضٍ آخر.
غابت المُرونةُ؛ فوقع الصدام. وهو أسبق كثيرًا من اشتباك الجيش والميليشيا فى العاصمة وعلى أطرافها. والحال أن الواقع تجاوزَ الأحلامَ الورديّة، ومناخ الاستقطاب تمكَّن من مفاصل الدولة وقُواها الرسمية والشعبية. وقد صار الميدان مفتوحًا على ميادين عدّة؛ فالظاهرُ أنها حربٌ بين قوَّتين مُسلَّحتين، وظِلالها القريبة انقسام عمودىّ للبلد بكامله، واحتراب أهلىّ صُرِفَ قليلُه وما زال أغلبُه مُؤجَّلاً، أمّا المعنى المُضمَر فيُشيرُ لصراعاتٍ بالوكالة، ولتصفية حساباتٍ إقليمية ودولية على جغرافيا السودان وبسواعد أبنائه. ثمَّة دول معروفة ومُستترِة تقف وراء الدعم السريع، وكثيرٌ من صُلب الجبهة المدنية وقوى الحرية ألسنتُهم فى الخرطوم وعقولهم وقلوبهم فى عواصم أُخرى. وإذا كانت غايةُ الثورات أن تُصحِّح مسارات الأوطان، وتُعيدَ صياغة العَقد الاجتماعى على مُرتكزاتٍ حداثيَّة موضوعية، تُنظِّم حدودَ الانفتاح المسؤول بما يحفظُ ديناميكيّة المجتمع، والقمع الرشيد بما يُبقيه مُوحَّدًا؛ فإنّ ما أنتجته السنوات الخمس الماضية أبعد ما يكون عن ذلك. بعضُ المسؤولية على الجِسم العسكرى، وأغلبها يتحمّله السياسيِّون والنُّخَب المدنية، وعليه تتوجَّب العودة عن رومانسيّة الثورة وشعاراتها، وأن تنعقدَ الأولويّة لهُموم الناس ومعاشهم، ولا هدفَ يتقدَّم على وَقف الحرب، وتَمتين الجبهة الداخلية، وفَتح الباب لمسارٍ سياسى لا تُحرّكه النوازعُ الشخصية، ولا يُحاد عنه مَهما كان مُتعثِّرًا، وقبل هذا أن يتحلَّى القابضون على زِمام الحديث باسم الشعب، دون تفويضٍ أو شرعية، بشجاعة الاعتراف بالخطأ، وفضيلة المُراجعة لتقييم المواقف وتقويمها، والعودة عن العاطفة والإقصاء والتشدُّد والاستتباع، إلى العقلانية والمرونة والاستقلالية وإخلاص الوجه للوطن؛ لا أن يتوضّأ الواحدُ منهم فى السودان، ويُصلِّى جهة أديس أبابا وواشنطن وروما و«فاجنر» وغيرها.
تتأهّب باريس لمُؤتمرٍ دولىّ غدًا؛ بالتزامن مع ذكرى الحرب. ولعلَّ سوابق فرنسا فى لبنان وغرب أفريقيا لا تُبشِّر بوساطةٍ فاعلة؛ ولو فى الملف الإنسانى الذى تُركِّز عليه دعوتُها. الوضعُ مُعقَّد ومُتشابك، ودخول أطرافٍ خارجية على موجته يُعطِّل مسارات الحلّ. أخفق «منبر جدّة» منذ إعلانه الصادر خلال الشهر الأوّل للصراع، وما تحرّك خطوةً رغم تتابع اللقاءات، والتفاؤل قليل بشأن احتمالات عودته الوشيكة.. ومُبادرة «إيجاد» وُلِدت مَيّتة، وبدا انحيازُها واضحًا لدرجة أن الخرطوم جمَّدت عضويّتَها بالمُنظّمة، كما تكفَّلت المُناكفات والأيادى السوداء بتقويض مُخرجات مُؤتمر جوار السودان الذى استضافته القاهرة يوليو الماضى، وقدَّم مُقاربةً عقلانيّة تبدأ بنقاطٍ وَصفيّة تُدين الانفلاتَ وارتداداته، وتخلُصُ لبرنامجٍ سياسىّ تَسووى وآليّة للمُتابعة والإسناد. والأخطرُ للآن أنَّ الأوضاع اتَّخذت صفةَ الاعتياد، وطبَّع العالمُ نظرتَه للبيئة المُشتعلة، أو شُغِل عنها بتطوّرات أوكرانيا ومحارق غزّة. المهمّ أن الاهتمام تضاءل للغاية، وخفتت المُواكبة الإعلامية، وجهود الدبلوماسية الدولية والأُمميَّة شحّت لدرجة الانعدام؛ ولم يتوقف مُشعلو النار بالداخل ولا نافخوها من الخارج، بينما تتحكَّم الأيديولوجيا فى النظر للمحنة الإنسانية، وللدولة نفسها، ويتبادل الجميعُ عَضّ الأصابع انتظارًا لأن يصرخَ الآخرُ أوَّلاً، وما قدَّمت تنسيقيةُ القوى المدنية «تقدّم» شيئًا إلّا نسخة ركيكة من ارتباك الحرية والتغيير، وعجزًا عن اقتراح البدائل المُقنعة، وإغراقًا فى أجنداتٍ تخصُّ آخرين بأكثر ممَّا تنبعُ من السودان وظَرفه القاهر.
خطرُ إدامة السيولة أنها تُعمِّق الانفصالَ النفسىّ، وتُمهِّد الطريق لانقساماتٍ ماديّة مُوجعة. والأولوية اليوم لوَقف الحرب بكلِّ السُّبل، من أكثرها كياسةً لأشدِّها حسمًا، وألَّا تُجبَر الدولةُ على خطيئة مساواة الجيش بالميليشيا، أو السير لتوافقاتٍ تلفيقيّة تتجاوزُ فلسفةَ الدساتير وانتظام المُؤسَّسات. ليس الامتحان سهلاً بالمرّة، ولو توقَّف القتالُ اليوم فلن تذوب آثارُه قبل عقدٍ أو اثنين؛ لكنَّ استمراره يُهدِّد بأمراضٍ قد تتعذَّر مُداواتها لاحقًا. إسكاتُ البنادق المُستأجَرة أوَّل الطريق للحلّ؛ أمَّا التعافى فشَرطُه قناعة الفُرقاء بأنّ بلدًا ولو كان مريضًا، أفضل من بدائيّة القبيلة وسَطوة الميليشيا، ومن خِفَّة النُّخَب الحالمة أو الباحثة عن مغانم، وأحسبُ أنّ السودانيين بعدما يستعيدون وطنَهم ويعودون لبيوتهم؛ لن يُكرِّروا الأخطاء التى أخرجت بعضهَم، وهدَّمته على رُؤوس البقيّة من أصحابه الحقيقيّين.