الحربُ مسؤولية أطرافها المُباشرين، وإنهاؤها أيضًا.. لقد كانت عملية «طوفان الأقصى» حصادًا لمواسم طويلة من زراعة الظلم، ونتاجًا لعلاقة التخادُم بين اليمين الإسرائيلى فى أردأ صوره الليكودية، والنسخة الأُصوليّة من المقاومة الفلسطينية وفصائلها. والبحثُ عن مخارج من العُقدة المُستحكمة يقع على عاتق الفريقين فى المقام الأول، ثمَّ يأتى الوسطاء والضامنون الذين يتحرَّكون من مُنطلقاتٍ أخلاقية وقَيَمية وسياسية مُتنوّعة. وعليه؛ فإن مُحاولات خلط الأوراق إنما تستهدف بالأساس تغييبَ الوجه الحقيقى للصراع، وإعادةَ تكييفه على صورةٍ مُنحرفة غير واقعيّة، والتهرُّب من الالتزامات الأساسية لجِهَة تحميل المسؤولية لآخرين. وإذا كان مفهومًا ألَّا يتحلَّى الاحتلالُ بالشجاعة الواجبة، وهو جبانٌ بطبعه ومُنحطٌّ فى مُمارساته منذ البداية؛ فالغريب أن يُجاريه تيَّارٌ على طرف النقيض من أفكاره، أو هكذا يدَّعى؛ فيصير أمينًا على سرديَّته ومُخلصًا فى ترويجها أكثر من الآلة الإسرائيلية نفسها. والمُؤسف أن تنزلق منصّاتٌ إعلاميّةٌ راسخة إلى الفخّ؛ فتصير بُوقًا للدعايات الصهيونية بطابعِها النازىّ؛ بدلاً عن مهمَّتها الأساسية المُؤطَّرة وُجوبًا بالمعلومات والحقائق، وبعدم تجاهُل الثوابت القاطعة لصالح الشكوك والشُّبهات الظَّنيَة.
سأنفُذُ للموضوع مُباشرةً، ومن دون توطئةٍ أو مُحسِّنات. لقد نشرت شبكة CNN المملوكة لإمبراطور الإعلام اليهودى روبرت ميردوخ، تقريرًا زعمت فيه أنَّ الجهات المُكلَّفة بإدارة جهود الوساطة المصرية فى مسألة غزة، أعادت صياغة وترتيب ورقة المُقترحات المُقدَّمة فى مفاوضات الهُدنة بعكس ما جرى الاتفاق عليه؛ فكان أن رفضتها إسرائيل وتعطَّلت جهود التهدئة. وبعيدًا من المحتوى؛ فقد ارتكبت المُؤسَّسة الإعلامية خروقاتٍ تمسُّ جوهرَ الرسالة وصِدقيّتها؛ أوَّلاً لناحية أنها لم تستند إلى بياناتٍ مُوثّقةٍ من أطراف العملية التفاوضية، وعلَّقت الرواية المُختلَقَة على نِسبتها لِمَا أسمتهم «مصادر مُطّلعة»، ولم تضطلع بأدوارها الواجبة لِجِهَة فحص المسألة من وجوهها الكاملة، عبر مُقابلاتٍ وتعليقات من مسؤولين ومعنيِّين مُباشرين بالملف، أو تقديم قراءة سياقيّةٍ مُقارَنة بين مُحتوى الأوراق والمُقترحات منذ جولتى باريس، مُرورًا بلقاءات القاهرة والدوحة المُتعدِّدة، وصولاً إلى رفض تل أبيب للاتفاق بعدما قبلته حماس؛ نزولاً عن ملاحظاتها على التفاصيل، وانصياعًا لضغوط الدائرة العربية الراغبة فى تطويق كُرة النار وإنهاء المَقتَلة الدائرة فى القطاع.
لا يُمكنُ عمليًّا النظر فى موضوع التهدئة الأخيرة مَعزولاً عن سوابقه. بدأت المحاولاتُ بعد أيامٍ من اندلاع الصراع فى أكتوبر الماضى: الاحتلال وحكومته وجيشه فى طرف، والفصائل الغزِّية تتزعّمها حركة حماس والقسّام فى الآخر، وبينهما ثلاثةُ وُسطاء: الولايات المتحدة بوصفها داعمًا لإسرائيل وطرفًا دوليًّا ضامنًا، وقطر على صِفة القُرب والعلاقة العضوية بالحماسيِّين، ومصر بأثر الجوار الجغرافى والفاعلية السياسية والعلاقة المُتوازِنة مع الجميع.. باختصار؛ إن كان ثمَّة طرفٌ واحدٌ مُحايد فى الوساطة الثلاثية فإنها القاهرة؛ إذ لا مصلحةَ مُباشرة لها فى استمرار العدوان الإسرائيلى، ولا فى كَسر حماس أو تقوية مركزها، كما أنها مَعنيّةٌ بالأساس بلَجْم الأزمة المعيشية المُتصاعدة فى القطاع؛ اتِّصالاً بأمنها القومى وواجبها الإنسانى والعروبى، وسعيًا إلى تجنيب المدنيِّين فاتورةَ المغامرات العسكرية المُنفلتة من الجانبين ورُعاتهم، وما يتفرَّع عنها من مُماحكاتٍ وتصعيدٍ تنخرطُ فيه جهاتٌ إقليمية، وتُرفع راياتٍ عقائديّةً ومذهبية، وتُراد تصفيةُ حساباتٍ «فوق فلسطينية» تُهدِّد بتطوير النزاع لمُواجهةٍ مُتّسعة ومعركة مُتعدِّدة الجبهات.
فى المرَّة الأُولى ماطل بنيامين نتنياهو طويلاً، وتهرّب من أجندة التهدئة المُتَّفَق عليه، من أكتوبر حتى أواخر نوفمبر؛ قبل أن يرضخَ بضغوط واشنطن لاستعادة مواطنيها الأمريكيين بين الأسرى، ومع تصاعد موجة الانتقادات الدولية لتعقيدات الوضع الإنسانى فى غزّة، وسخونة الشارع العِبرى المُطالِب باسترداد الرهائن، وتحجيم نزوات الحكومة المُتطرِّفة بشِقَّيها القومى والتوراتى. وقتها توزَّعت الاتهاماتُ بين الطرفين: تل أبيب تدَّعى أن حماس لا تُريد التهدئةَ إلَّا على شرط النصر، والعالم كلُّه تقريبًا يرى أن نتنياهو يتهرَّب من وقف الحرب دفاعًا عن نفسه ومُستقبله السياسى، ولعلمه أن تجميد أوضاع الميدان سيضعُه فى قلب عاصفة المُساءلة والحساب عن الإخفاقات الأمنية فى الطوفان، والحربية بعده، وقضايا الرشوة والفساد المُؤجَّلة منذ ما قبل عودته للسلطة. وما كان يحدثُ وقتَها استمرَّ عنوانًا على مُمارسات المُفاوضين الصهاينة طوال الشهور التالية، حتى أنهم كانوا يُرسلون وفودهم إلى اللقاءات بأفكارٍ ومُطالبات، بينما يُصرِّح السياسيّون والجنرالات من قلب العاصمة وفى كابينت الحرب؛ بأنهم ماضون فى مُخطَّطهم لإفناء حماس وتكسيح غزَّة، وإقالة السلطة الفلسطينية من مسؤولياتها السياسية والتنفيذية بمُوجَب صلاحياتها القانونية، واتصالاً بشرعيتها الناشئة عن اتفاق أوسلو، وتمثيلها المُعتَرَف به إسرائيليًّا وعالميًّا للشعب الفلسطينى.
فى المَقلب الآخر؛ فإنَّ الجهودَ المصرية اتّصلت بالنزاع من منشأه، وسعت إلى ترويض الطرفين خروجًا من دائرة الخيارات الصفرية، ودفعًا ناحية الحوار واستكشاف فُرَص الحلول السياسية المُمكنة. كان التشدُّد عظيمًا من جانب إسرائيل؛ فأغلقت معابرَها مع القطاع وقصفت الجانبَ الفلسطينى من رفح، ورفضت إدخالَ المُساعدات الإنسانية العاجلة للمنكوبين، وقال وزير حربها يوآف جالانت إنهم يتعاملون مع الغزِّيين بوصفهم «حيوانات بشرية»، لهذا لا سبيلَ سوى الحصار والتجويع والخنق الكاملين. والقاهرة عندما استضافت قِمَّتَها للسلام، ومارست ضغوطَها عَلنًا وفى الكواليس؛ إنما كانت تستهدفُ قَطع الطريق على احتدام الخصومة بدرجةٍ لا يعودُ الرجوع عنها مُمكنًا، وقد نجحت فى فَرض رُؤاها المُتوازنة على الجميع: العالم عاد للتداول فى خيار «حلِّ الدولتين» بعدما كان مُبعَدًا عن الطاولة، وتل أبيب رضخت لتمرير قوافل الإغاثة وإجلاء الجرحى، وحماس تقبَّلت الهُدنةَ الأُولى ومُبادلةَ الأسرى دون أُفقٍ مُسبَقٍ للتهدئة الدائمة، وبعيدًا عن مخاوفها من خسارة خزّان الرهائن؛ باعتبارهم ورقتَها الوحيدة فى صراعٍ غير مُتكافئ.
المحطَّةُ الأخيرة التى أُثيرت بشأنها الرسائلُ المُلوّنة من CNN وغيرها، بدأت واقعيًّا فى جولتى باريس خلال يناير وفبراير الماضيين، وقد وضعتا إطارًا للتفاهم على الأُمور الأساسية بشأن فترات وقف إطلاق النار، وبرنامج تبادُل الرهائن والمُحتجَزين، والمسارات الموضوعية الكفيلة بالتمهيد لنقاشٍ سياسىّ يُفضى لوَقف الحرب بصورة مُستدَامة. وعلى تلك الدعائم بُنِيت تفاصيلُ الجولات التالية بين القاهرة والدوحة، واستقرَّت العناصر الجوهرية وخطوطُ الاتفاق العريضة، وظلّ الخلاف محصورًا فى بعض التفاصيل الدقيقة بشأن مواعيد وأحجام التبادل، وفترات التوقُّف، والفواصل بينها، والضبط اللغوى للتعبيرات المنصوص عليها. ولأنَّ إسرائيل بطبعِها تُدمن النفاذَ من الثغرات والشقوق الصغيرة؛ مثلما استغلَّت الخطأ فى صياغة النسخة الإنجليزية من قرار الأُمَم المتحدة رقم 242 بعد حرب يونيو 1967، فراوغت بين جُملة «الانسحاب من أراضٍ مُحتلَّة»، أم من «الأراضى المُحتلَّة»، فإنها سعت كعادتها لإبقاء الفخاخ النصيّة التى تكفُل لها التهرُّبَ من التزاماتها؛ ورغم التفنُّن فإنَّ لعبتها الأثيرة لم تُسعفها، إذ لم تكُن النسخة الأخيرة مشوبةً بالنواقص أو محلَّ اعتراضٍ من جانبها.
النصُّ النهائىُّ عُرِضَ على الوفد الإسرائيلى قبل الحماسيِّين، ورآه مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام بيرنز فى زيارته للقاهرة. وقال رئيس الموساد ديفيد بارنياع وفريقُه إنه يَلقى قبولاً واسعًا من جانبهم؛ بل إنَّ الإعلام العِبرى نقل عن مسؤولين بالحكومة ومجلس الحرب أنَّ ثمَّة إجماعًا على الاتفاق وبنوده.
وفى المُقابل؛ سجَّل وفد حماس ملاحظاتٍ على بعض النقاط، وتردَّد بين القاهرة والدوحة عدَّة مرَّاتٍ حتى اقتنع برؤية البلدين، وبأنَّ الظرف الإنسانى يقتضى التوصُّل لهُدنةٍ عاجلة من أجل إنقاذ مليونى فلسطينىّ يُعانون فى القطاع. ولعلَّ خطوة «السنوار» ورجاله فى كتائب القسَّام بقصف محيط معبر كرم أبو سالم، قبل ساعات من إعلان الحركة قبولَها للاتفاق؛ كانت فى جوهرها تعبيرًا عن أنهم لم يُحصِّلوا شُروطَهم المطلوبة للتهدئة بالكامل، أو أنهم يُعوِّضون أنفسهم معنويًّا عما يُمكنُ أن يُحسَب انتكاسةً سياسية. صحيح أنها لم تكن مُمارسةً مثاليّةً فى وقتها وطبيعتها؛ إلا أنها تُفسَّر، بين شواهد أُخرى، طبيعة الاتفاق ورؤية الجانبين له، على خلاف ما سعى نتنياهو وعصابته لترويجه من قنواتٍ خلفيّة، أو ما تبنّته منصّاتٌ إعلامية رديفة لهم لاحقًا.
بالمنطق البسيط. تعلمُ القاهرة تمامًا أنَّ إسرائيل تذهب للمفاوضات على نِيّة إفشالها، وقد اختبرناهم طويلاً قبل حرب أكتوبر وبعدها، وإلى توقيع اتفاقية السلام رغم كلِّ ما زرعوه من ألغامٍ فى طريقها. والمعنى؛ أنَّ المُفاوضَ المصرىَّ لن يترُك ثغرةً تسمح للاحتلال فى أحطِّ مراحله، ومع أردأ حكوماته وأكثرها تطرُّفًا وإجرامًا، بأن يُفلِت من استحقاقات التهدئة أو يُعلِّق أجراس فشله فى رقاب الآخرين. وهكذا لا سبيلَ لافتراض أنّ ورقة المُقترحات تعرَّضت للتعديل أو إعادة الصياغة فيما بين إقرارها من الوفد الصهيونى، وإعلان حماس الرضوخ لشروطها.. ولو حدث ذلك بأيّة درجة من الدرجات؛ فلم تكُن حكومة نتنياهو ولا مجلسه الحربى لتتوانى عن التصريح بالأمر، والحديث علنًا عن أنهم تعرَّضوا لخديعة، أو فُوجئوا بغير ما تداولوه وأقرّوه وارتضوا به. أمَّا الذهاب بدلاً من المواقف الرسمية المُعلَنة، إلى تمرير المُغالطات عبر وسائل إعلام مُتحالفة أو داعمة للسردية الصهيونية؛ فمعناه الذى لا يقبل الشكَّ أو التأويل أنهم وُضِعوا فى مَزنقٍ خانق، واستنفدوا كلَّ الحيل والألاعيب، ولا يجدون ثغرةً لتفجير الورقة أو الانحلال من ضغوطها، فكان سبيلهم البديل والمعتاد للهروب عبر التخليق والدعايات.
الموضوع يُوجِب التوقُّف مع CNN نفسها. فالشبكةُ لا تُخفى انحيازَها للاحتلال، ولا تُقصِّر فى تسويق روايته أو التحامل على الفلسطينيين. المُلاحظات عديدة طوال العقود الماضية، وأكثر تكرارًا وفجاجةً مع العدوان الأخير. فمنذ «طوفان الأقصى» تبنَّت الشبكة سرديّة الجيش الإسرائيلى عن خُروقات حماس ومُقاتليها، وروَّجت عناوين الاغتصاب والإحراق وقطع الرؤوس كغيرها من المنصَّات الغربية، ولم تُصحِّح أو تعتذر. إنها إلى اليوم تُسمّى المقتلة الدائرة «حرب إسرائيل وغزة»، بدلاً عن وصفها الدقيق كعدوانٍ نظامىٍّ عنيف على مُجتمعٍ مدنىّ أعزل، أو فى أردأ الصياغات باعتبارها حربًا بين احتلال ومُقاومة، أو بين جيشٍ ضخم وحركةٍ مُسلَّحة اسمها حماس. وخلال الجريمة الشنيعة التى طالت مُستشفى الأهلى المعمدانى منتصف أكتوبر 2023، نقلت مراسلة المُؤسَّسة ما قاله دانيال هاجارى وبقيَّة المُتحدِّثين الصهاينة، وادَّعت معهم أنَّ المجزرة نتاج صواريخ حماسية أو جهادية أخطأت طريقها، قبل أن تتهاوى النظرية الفاسدة، ويصير مقطوعًا بأنه قصفٌ إسرائيلى مقصود. وعليه؛ فإنَّ CNN ليست ناقلاً إعلاميًّا أمينًا، ولا وسيطًا مُتجرِّدًا بين المُتلقّى وبيئة النزاع؛ إنما هى طرفٌ أصيل من زاوية الوقوف بجانب أحد الخصمين، وإعلاء خطابه فوق بقيّة الخطابات. ولو مَدَدنا الخطَّ على استقامته؛ فالتزييف فى الطوفان والمستشفى وحلقات الحرب، لا يُمكن أن ينفصل عن الادِّعاء الأخير بحقِّ مصر. إنها على الأرجح مُجرّد حلقة جديدة فى مسلسلٍ طويل من التلوين والانحياز.
جاء الردُّ المصرىّ سريعًا وحاسمًا، على لسان مصدر رفيع المستوى. عرض باختصارٍ مُحدِّدات دور القاهرة، وأنها انخرطت فى المُحادثات بعد طلبٍ وإلحاح، وتحدَّت من ينقلون رسائلَ مُغرضةً مرفوعةً إلى مصادر مُجهَّلة؛ ولو وُصِفَت بالمُطّلعة، أن يستوفوا المعايير الإعلامية السليمة وينسبوا تخليقاتهم لمصادر رسميّة، أمريكية أو إسرائيلية، ثمَّ فسَّرَ الاستهدافَ بأنه مُحاولة للتشكيك فى الجهود المُخلصة الدؤوب، وإفساح ممرٍّ لإفلات الأطراف المَعنيِّين من التزاماتهم. عناصرُ الردِّ تبدو بالغةَ الأهمية فى تقييم جدارة العمل الإعلامى أوَّلاً، وفى إقامة الحُجّة على مُنشئ الرسالة والمُستفيدين منها. فالأمور التى على تلك الدرجة من الحساسية لا تصحُّ نِسبتُها لأطرافٍ غير معلومين؛ إذ تظلُّ قيمة المعلومة وجدارتها مرهونةً بقيمة القائل بها وموقعه من الأحداث، وعليه؛ فإن الشبكة فى الواقع وضعت الاحتلالَ فى مأزقٍ بدلَ أن تخدمه؛ لأنها روَّجت اختلاقات يُستَشفُّ منها أنه يقفُ وراءها بالأصالة، والآن صار مُلزَمًا بالتصريح بما قِيْلَ واحتمال ردِّ الفعل المصرى القاسى على أكاذيبه، أو الصمت وإحراق الورقة التى كان يُراهن عليها لتبرير مُراوغته، والاحتمال الأخير هو الأقرب.
لم تكن مصرُ مضطرّةً لاحتمال الأعباء والمُناكفات طوال شهورٍ؛ إلَّا لمسؤوليةٍ تحملُها تجاه القضية والأبرياء والسِّلم الإقليمى. وتكبَّدت لقاءَ ذلك فواتيرَ باهظةً ماليًّا وسياسيًّا وأمنيًّا، واحتملت المُنغصِّات والمُزايدات من كلِّ الأطراف، وتمدُّ يدًا للمُصافحة والتوافق؛ بينما تتجهَّز بالثانية لكلِّ الخيارات والاحتمالات. وخلال رحلتها الطويلة فى الوساطة؛ كانت تُنسِّق مع الجميع بروحٍ مُنفتحة وعقلٍ باردٍ، ولم تتحرَّك انفراديًّا بأيّة درجة، ورغم اضطلاعها بالمهمَّة الأكبر فإنها لم تنسب لنفسها شيئًا من الثمار؛ ليُغالى الآخرون فى إلحاق الأشواك بها. بمعنى أنها تعتبرُ حتى اللحظة أن هُدنةَ نوفمبر كانت نتاج التوافق الإسرائيلى الحماسىّ، ولو كانت المُيسِّر الأهمَّ والأكثر فاعليّة فيها؛ وبالتبعية فإنَّ إخفاق مُداولات الهُدنة الثانية مسؤوليةُ طرفيها أيضًا، ولا يقدح ذلك فى الجهود المصرية واستقامتها. أمَّا الهروب من التوصيفات الدقيقة للانسداد، واستدعاء مُؤسَّسات أو الزج بأسماء مسؤولين مصريين؛ فإنه سلوكٌ لا يُغيِّب الحقائقَ فقط؛ بل يُضلِّل الجمهورَ ويُبرِّئ المُتّهمين الحقيقيِّين، كما يُهدِّد بتعطيل الوساطة وإفشال جهود الخروج من أتون الحرب. وبمنطق «فتِّش عن المستفيد»؛ فالأرجحُ أنَّ الصهاينة أنفسَهم مَن يُريدون إزاحة مصر من طريق جنونهم الحربىِّ المُستعر، وإنهاء مسار التهدئة عبر الحوار والمُفاوضات.
المُفارقةُ أنَّ الشبكة الأمريكية ادَّعت أن تحويرات مصر المزعومة للورقة فاجأت الجميع وصدمتهم، وهو أمرٌ يُفارق المنطق السليم، بل السقيم أيضًا، إذ لو أُدخِلَت تعديلاتٌ لصالح طرفٍ فستكونُ مُرضيةً لحليفه بالضرورة، وما يُغضِبُ الإسرائيليين ليس شرطًا أن يُغضِبَ الباقين فى أمريكا وقطر، والأخيرةُ تعرَّضت لتشويهٍ وابتزاز من الحكومة الصهيونية، ومن صهاينةٍ مُتأمركين فى الكونجرس؛ حتى أنها أعلنت تجميدَ وساطتها وإعادةَ تقييم موقفها من العملية السياسية بكاملها. ولو كانت القاهرةُ جاملت حماس فى شُروط الهُدنة على ما يدَّعون؛ فالأَولَى أن يُلاقِى ذلك هوىً من الدوحة لناحية دعمها للحركة، أو على الأقل نكايةً فيمن صَعّدوا ضِدَّها فى تل أبيب وواشنطن. أمَّا أن يكون الموقف الواحد مُثيرًا لكل الخصوم؛ فإنها روايةٌ هَزليّة تُثير الضحك والاستغراب، ولا تنُمّ إلَّا عن رغبةٍ فى حياكة قصّة مليئة بالاصطناع والمُبالغات، وبغرض إثارة الفوضى والغبار؛ حتى تتوه الحقائقُ ولا يُعرَف جانٍ من ضحيّة.
ثمّة مُفارقة ثانية؛ أنَّ جماعة الإخوان الإرهابية ومنصّاتها الإعلامية تلقّفت تقرير CNN ونشطت فى ترويجه. والرباطُ العقائدىُّ والتنظيمىُّ لها مع حماس يُجبرها بالضرورة على دعم الحركة، وليس الانحياز للسرديَّات المُضادّة لمصالحها، أو الساعية لتبرير الحرب وإطالة عُمرها ومَداها. هنا نعودُ مُجدَّدًا إلى مفتاحٍ شديد الأهمية، يخصُّ الطبيعةَ المُلتبِسة للعلاقة بين الإسلاميين وأعدائهم الظاهرين، وصُورَ التحالفات الخفيّة المشبوهة بينهم دائمًا. لقد رعى نتنياهو انقلابَ حماس فى غزَّة، وعزز سُلطتَها على القطاع، واعتبرها ذُخرًا لحكومته ولإسرائيل؛ حتى أنه تكفَّل بتدبير ملاذٍ لقادتها بعدما غادروا دمشق، وتمرير التمويل الشهرىِّ لها من المطارات والمعابر الصهيونية. والإخوان يقفون على طرف النقيض من الإدارة الأمريكية عَلنًا، ويعملون معها سِرًّا، ورأينا هذا لعقودٍ منذ توسّط لها سعد الدين إبراهيم مع البيت الأبيض، وأن يتبنّوا تخليقةَ الشبكة الأمريكية اليوم فإنهم غير مَعنيِّين بفلسطين وقضيّتها، ولا بمحنة الغزّيين، أو بالمخاطر الوجودية المحيقة بالحماسيِّين فى بيئتهم الأصلية، بقدر ما يشتغلون فى حملةِ علاقاتٍ عامّة للمساس بمصر وأدوارها الإقليمية، والأمر من جانبٍ يتّصل بالعداوة الإخوانية الدائمة لثورة 30 يونيو ونظامها السياسى؛ إنما لا يُمكن فَصلُه أيضًا عن رغبة الاستثمار فى الفوضى والدم، والسعى لتَوسعة الحرب الدائرة حتى تلتهمَ الإقليمَ بكامله؛ فربّما بحسب أوهامهم تُسقِطُ دولَ المنطقة أو تُعيدُ هيكلةَ أنظمتها، وتفتح ثغراتٍ لعودة الجماعة أو تقوية مراكز حُلفائها فى البيئات الهشَّة، سواء كانوا من الميليشيات الشيعية فى لبنان واليمن، أو من جماعات الإرهاب السُنّى الكامنة فى سوريا، أو بقايا فروعها وفُلولها التى تتحيّن الفرصة لاقتحام المشهد فى الأردن وغيرها.
لا أحدَ قدَّم تصوُّرًا مُكتملاً للهُدنة منذ البداية سوى مصر؛ وعليه تأسَّست وقفةُ نوفمبر، وتتابعت الأوراقُ والجولات الساعية لتجديدها. ولم يطرأ ما يُغيِّر رؤيةَ القاهرة أو موقفَها؛ كما أنها لم تكن على وفاقٍ مع الحركات الأُصوليَّة أصلاً، ومنها حماس، وتعرَّضت لأزماتٍ عدّة بسببها، وما احتوتها وتجاوزت ضغائنَ الماضى إلَّا عملاً بمنطق الكبار، وإخلاصًا لعقيدتها الراسخة بالانحياز للسلم والاستقرار. وقد اضطلع المفاوضُ المصرىُّ بدوره بحياديّة الوسيط وإخلاص الشريك، ورأى نفسَه طرفًا أصيلاً انتُدِبَ بحُكم الضرورة والقيمة لإعلاء صوت العقل وإطفاء حرائق الجنون. وأحسبُ أنه لن يهتزّ أو يرضخ بأثر الدعايات الفجّة، ولا بمُحاولات تفلُّت الأطراف من المسؤوليات والاستحقاقات الواجبة عليهم؛ لكنّ ما وراء المُناكفة يكشف عن نزعةٍ دموية تستحكم على ذهن تل أبيب وقادتها، ويُؤازرهم فيها آخرون يدَّعون الحكمةَ والتحضُّر وصفاءَ النوايا، ولا فارقَ بين أن يكونوا مسؤولين بالإدارة الأمريكية والكونجرس، أو صحفيِّين يُحرّكهم روبرت ميردوخ أو تتسلَّط عليهم أهواءٌ مسيحانيّة صهيونيّةٌ تزحم عقولهم وأرواحهم. فى النهاية تبدو الحقائق ناصعةً وأعصى على التزييف، ولن يصحَّ إلَّا الصحيح، وإذا كانت CNN تستسهلُ إلقاء الأكاذيب دون معلومةٍ أو مصدرٍ واضح؛ فإنها فى الواقع تُصوِّب نيرانَها الصديقةَ على الحليف الصهيونىِّ بأكثر ممَّا تمسّ الآخرين؛ لأنه لا معنى لصمت نتنياهو إلَّا أنه يكذب، ويستمرئ الكذب، ويعجزُ عن مخاطبة جمهوره قبل العالم، وفى كلِّ الأحوال فإنه يسقطُ فى فخٍّ جديد يحفره الداعمون، من حيث أرادوا أن يُقيلوه من فخاخٍ قديمة حفرها لنفسه بالقنابل الأمريكية الثقيلة، وبأظافر الفساد والفشل والنازية الكامنة تحت جلد يهودىٍّ سميك.