لا شىءَ يُعادل بهجةَ الحجيج بالوقوف بين يدى الله. روحانيّةُ الرحلة وطقوسُها التعبُّديّة تفوقُ كلَّ خيالٍ وتوصيف، وتُسبِغُ على الروح سَكينةً وتملأُ القلبَ بالإيمان والطمأنينة. وعلى قدرِ جلالِها تكون المَشقَّة؛ لذا عُلِّقَت على شَرط الاستطاعة، وكانت الرُّكنَ الوحيدَ من أركان الإسلام الذى يستقيمُ الاعتقاد من دونه، ومعنى الاقتدار على التجربة إنّما يأخذُ أبعادًا عِدَّة، لا تنحصرُ كلُّها فى الطاقة ومدى الاستعداد لاحتمال الإرهاق البدنىّ؛ بل تتّسع لسِعَة المال، وألَّا يكونَ الإنفاقُ عن حاجاتٍ أشدّ إلحاحًا. وهنا تُقاسُ المسألةُ بمعيار الأولويّة والترجيح، والمُوازنة الدقيقة بين المنافع والأعباء، على أنْ تتقدَّم مصالحُ البشر وحقوقهم طالما أنَّ صاحبَ التكليف أجاز المُفاضلةَ فى حقِّه، وارتضى أن يتقدَّم الدنيوىَّ الواجب على الأُخروىِّ الذى فيه رُخصةٌ وتيسير. وإذا كان القياسُ قديمًا ينحصرُ فى حيِّزٍ فردانىٍّ كامل؛ فلعلَّه اليومَ يكتسبُ طابعًا جَمعيًّا يتحدَّد فى ضوء المصالح العُموميّة، وطبيعة التنظيم الاجتماعى والاقتصادى المُستحدَثة، وأثر المُبادرة الشخصيّة على الآخرين؛ حتى لو كان صاحبها مُستطيعًا وقادرًا. والفكرةُ باختصار؛ أنَّ معيارَ التمكُّن من الفريضة تحكمُه اعتباراتٌ تتّصل بفكرة الدولة الحديثة، والصيغة المُؤسَّسية لضَبط العلاقة فى الداخل، ومع العالم الخارجى.
المَشاهِدُ المُتدفّقة عبر الشاشات من المشاعر المُقدَّسة، وهيئات الحجَّاج فى صَحن المطاف وعلى عرفات وفيما بين المزدلفة ومنى، كلُّها ممَّا يلمسُ الرُّوحَ ويُرقِّقُ القلبَ، ويُحفِّز كلَّ فردٍ على تَمنِّى أنْ يكونَ بين ضيوف الرحمن، وأن يُنفقَ الغالى والرخيص لأجل الفوز بالفرصة، ونوال مفازة الوقوف مع الآتين من كلِّ فَجٍّ عميق. لكنَّ المقادير تُرتِّب الحُظوظَ بتفاوُتٍ بين البشر، وما كلُّ ما يتمنَّاه المرءُ يُدركه دائمًا، على قَول المتنبّى. وكما أنَّ أضعافَ الحشود الذين اقتنصوا التذكرةَ المُقدَّسة، تمتلئُ صدورُهم برغبةٍ صادقةٍ فى الحجِّ لكنّهم لم يُحصِّلوها، فإنَّ كثيرين ممَّن فى الموكب الأبيض الهادر قد لا يتحقَّق فيهم شَرطُ الاستطاعة. أذكرُ قبل أيّامٍ أنَّ منصَّات التواصل الاجتماعى ضجَّت بصورِ طِفلٍ يتجاوز العامَ بقليل، اصطحبه والداه من محافظة كفر الشيخ إلى الحَرَمِ المَكّىِّ؛ فضربته الشمسُ وأَسْلَمَ رُوحَه لبارئه، والفارق بعيدٌ جدًّا بين الإيمان العاقل الواعى، وبعض نُسَخِه التى قد تُورِد مَوارِدَ التهلكة، أو تُكلِّفُ النفسَ والآخرين أعباء لا طاقةَ لهم بها. وما ينطبقُ على الرضيع البرىء الذى وُضِعَ فى مَشقَّةٍ تُفوقُ احتمالَه الهَشّ، ربما يتحقَّقُ فى أُلوفٍ آخرين يقفزون على حدِّ الاستطاعة، سواء كانوا مرضى أو فقراء أو مَدينين أو فى رقابهم التزاماتٌ أَوْلَى، أزاحوها ناحيةَ الإرجاء؛ لتقديم ما أوسعَ اللهُ عليهم فيه، وتقبَّل منهم أنْ يُؤجِّلوه أو لا يُحصِّلوه أصلاً.
النقطةُ التى أودُّ إثارتَها قد لا تُعجب كثيرين؛ إنما أتصوَّرُ أنَّ فيها من الوجاهة ما يحتملُ الطَّرحَ والنقاش، وأنَّ السماء نفسَها لا تُمانعُ الأرضَ فى استعراض شواغلها على الوجه الذى يُحقِّق مُرادَ الله فى استقامة الدين والدنيا. والواقع أننا غادرنا القرونَ التى كانت فيها المنطقةُ كُلُّها دولةً واحدة، ومَواردُها تصبُّ فى بيت مالٍ ينتفعُ به القريب والبعيد. لقد تطوَّر الاجتماعُ البشرىُّ وانتهجَ صِيَغًا وطنيّةً فى التنظيم والإدارة، ولم تعُد رحلةُ الحج دابّةً وخُرْجًا من زادٍ وماء؛ إنما صارت تسَلْسُلاً طويلاً من الإجراءات والنفقات، وعِبئًا تقتسمُه الماليّةُ العامّةُ مع ميزانيّات الأفراد؛ لا سيِّما فيما يخصُّ كُلفةَ الواردات الآتية من الخارج بغير عُملةِ البلدِ.
والحَجّ فى صُورته الاقتصادية المُحدَّثة تحوَّل إلى بابٍ من أبواب الاستيراد، تتكفَّل فيه الدولةُ بتدبير التكاليف بالنقد الأجنبى، وربما تأتى على أمورٍ من قبيل الأولويات؛ لصالح الوفاء باحتياجات مُستوردى السياحة الدينية، أو لنَقُل راغبى الترحال طَلبًا لأداء الفريضة. والحال أنَّ التشابُكَ المُستجَدَّ يفرضُ على السلطاتِ تطويرَ آليات التعاطِى مع المسألة الروحيَّة، وسَنّ قواعد حاكمة للعملية بكاملها، بين الفرز والانتقاء، وترشيد السَّفْرات المُتكرِّرة، وسَدّ ثغرات التلاعُب والاحتيال. وإذا كان المقامُ يقبلُ رسمَ حدودٍ إجرائيّةٍ للرحلة الدينية؛ فالقوسُ ربّما تتَّسع للنظر فى مسائل الكُلفةِ الماليّة الإجمالية، ووَقْعِها على المُوازنة، ومدى الاحتياج لتخفيض الأعداد حسب الظروف والأحوال، وكلُّها ممَّا يقعُ بالضرورة فى نطاق الاستطاعة والمَقدرة.
لدى السعوديّةِ خطَّةٌ شاملةٌ للتنمية، غرضُها الانتقال من خندق الاقتصاد الرِّيعىّ المُستند للنفط حَصرًا، إلى تنويع المسارات ومُكوِّنات الدَّخْل، وتطوير أُطُرِ السوق سَيرًا إلى التعدُّد والاستدامة. والسياحةُ الدينيّةُ تقعُ فى القلب من مُستهدفاتِ الرُّؤية؛ لهذا وضعت المملكةُ نِظامًا صارمًا لقُدوم الوافدين، وسَنَّت قواعدَ حاكمةً لا يجوزُ خَرقُها أو تجاوزُ خطوطِها الحُمر. وقد رأينا جميعًا كيف أنها مَنَعت أداءَ المناسك للمُقيمين دون الحصول على تصاريح مُسبَقة، واستبعدت القادمين بتأشيراتِ عَملٍ أو زيارةٍ من دُخول نطاق المشاعر المُقدَّسة، ورحَّلَت من تسرَّبَ منهم قبل تفعيل إجراءات الموسم. وقد أجمع العاملون فى مجال الفِقه والدعوة على شرعيَّة الخطوة، وقال رجالُ دار الإفتاء المصرية إنَّ التزامَ الضوابط المُعلَنة من السلطات ممَّا يدخلُ فى أبواب الاستطاعة التى تحكمُ وُجوبَ الفريضة وإمكانيةَ تحصيلها. وما يحقُّ لأرضِ الحَرَمين، من باب ولايتها على المشاعر وحقِّها فى صَون مصالحها بمُنطلقاتٍ نفعيّة ووطنية، يحقُّ بالفلسفة نفسِها لكلِّ بلدٍ يستوردُ الخدمةَ، أو يُصدِّرُ طالبيها؛ لأجل ضمان الاستدامة وانتظام مرافقه وماليَّته العامّة.
عددُ الحُجّاج المصريين فى المُتوسَّط يُلامسُ مستوى 60 ألفًا، وتكلفةُ حجّ القُرعة نحو 150 ألف جنيه بما يعادل 3100 دولار من دون تذاكر الطيران، ليقفزَ الرقمُ لحدود 4 آلاف دولار أو يزيد بالانتقالات. بينما تتنوَّع رحلاتُ السياحة فى تسعيرها بدءًا من نحو 5 آلاف وإلى ما يتجاوز 10 آلاف دولار فى بعض البرامج المُميَّزة. وبقدرٍ من التقريب للأدنى؛ فإن الموسم لا يقلُّ عن 300 مليون دولار، أى أكثر من 14 مليار جنيه. وإذا نظرنا لمواسم العُمرة على امتداد العام، فإنها تستوعبُ ما بين 340 ألفًا وقرابة 400 ألف مُعتمر، ومُتوسِّطُ التكلفة لا يقلُّ عن 2000 إلى 2500 دولار، أى قُرابة مليار دولار تقريبًا. وهكذا فإنَّ الطلبَ المصرىَّ على السياحة الدينية سنويًّا يتخطَّى 60 مليار جنيه بأسعار الصرف الجديدة، أو 1.3 مليار دولار تقريبًا. وبالتأكيد ليس المطلوب أنْ نشطُبَ الرقمَ الهائلَ بكامله، ولا أن نحرمَ راغبى الزيارة من الفُرصة المأمولة؛ إنما يحتملُ السياقُ أنْ نبحثَ فى الضَّبْطِ والترشيد، لا سيِّما أنَّ كثيرين من المُسافرين لا تكونُ تجربتهم الأُولى، وبعضهم يُرهِقون أنفسَهم ماديًّا كما يُرهِقون مواردَ النقد الأجنبى. وقد يكونُ مُناسبًا وَضع معايير تخصُّ العُمرَ والفواصلَ الزمنيَّة بين العَودِ المُتكرِّر، ونوعيَّة البرامج وتكاليفها، مع تقليص المستويات شديدة الرفاهية وعالية التسعير، ورَبط المسألة بأنظمة الدَّعْم والمزايا الاجتماعية والحالة الائتمانية، بما يضمنُ ألَّا تكونَ الرحلةُ عِبئًا مُباشرًا على الأُسرة ولا مُموَّلةً بقَرضٍ بَنكىٍّ مثلاً، إضافة لتقليص الأعداد الإجمالية، وربط قواعد بيانات الحجِّ والعمرة؛ بحيث لا يتكرَّر خروجُ الأفراد أنفسِهم فى المُستويين.
يُمكن استيعاب حجم الإنفاق بالنظر إلى كُلفة الاحتياجات الأساسية المُموَّلة بالدولار. ومثلاً؛ تستوردُ مصر نحو 9 ملايين طنّ قمح بقيمة 2.3 مليار دولار، و2.6 مليون طنّ زيت طعام بنحو 2.4 مليار دولار. أى أنَّ نفقات السياحة الدينية وحدها تتجاوز نصفَ واردات القمح أو الزيت سنويًّا، وبالضرورة فإنها تضغطُ على تمويل بنودٍ أُخرى أشدّ إلحاحًا، قد تكون منها بعضُ السلع الاستراتيجية أو مُكوِّنات الأدوية ومُدخَلات الإنتاج الصناعى. والحال أنَّ لأزمانِ الأزمات مَنطقَها المُغايرَ للأوقات العاديّة، وما كان يُدارُ بأريحيّةٍ واتِّساع صَدرٍ فى السابق، صار من الواجب أن يحتكمَ لضوابطَ مُحدَّدةٍ ومعاييرَ صارمةٍ، وألَّا نفتحَ الأبوابَ لآخرها فى إنفاق الموارد الدولارية المحدودة؛ لأنَّ أثرَ ذلك سينعكسُ بالضرورة على تدبير بقيَّة الضروريّات، بما يترافقُ مع ذلك من ضغوطٍ فى التسعير والإتاحة ومُؤشِّرات التضخّم. والمطلوب ليس أنْ نولِّى ظهورَنا للمَشاعر المُقدَّسة، ولا أن نتقاعسَ عن أداء فُروضنا الرُّوحيّة؛ بقدر ما أنْ نُحسِنَ إدارةَ المسألة فى نطاق المُتاح، وعلى شَرط الضرورة والأولويَّات المُرتَّبة بمنطقٍ واعٍ، وبعيدًا من مسائل العاطفة والمُزايدات السطحية. على أن نتوسَّع حينما تتوافر السِّعَة، ونستعيد نطاقَ الاستطاعة الذى تعوَّدناه فى زمن الوَفرة والعافية الاقتصادية.
الأديانُ بطَبعِها مُكوِّنٌ اجتماعىُّ أصيل، وقد أتت بالأساس لإدارة مَعاشِ الناس وعلاقاتهم، وإذا كان ضابطها مُراعاة العلاقة مع السماء؛ فإنَّ قانونَها الأَسْمى أن تستقيمَ شُؤون العمران والمُعاملات فى الأرض. وعلى هذا المعنى؛ فإنَّ المصالحَ المُرسَلَةَ مُقدَّمةٌ فى تلك الحالة على المصالح المُعتبرة، والعام قبل الخاص. لقد تطوَّرت المُجتمعاتُ واتَّخذت طابعًا انضباطيًّا لم يكُنْ معروفًا فى الزمن الأوَّل، وأُنِيْطَت كثيرٌ من المهام الدنيويَّة والرُّوحيَّة بالسُّلطة الناظمة للفضاء الجامع، بعدما كانت خالصةً لأصحابِها فى خلوةٍ تحدُّها الرغبةُ وتقويمُ الحال بمعزلٍ عن الآخرين.. والمعنى؛ أنَّ الفردىَّ تراجعَ لصالح النظامىِّ، وانقضى زمنُ المشاع والجغرافيا الفسيحة والاقتصاد البدائىّ؛ لتحلَّ بدلاً منه صِيَغٌ وأنماطٌ ترتبطُ فيها مصالح الآحاد ببعضهم، فى سلسلةٍ لا تظلُّ صُلبةً لو انكسرت إحدى حلقاتها.
وهكذا تداخلت مسائلُ الاعتقاد بين أمرين: الحيِّز الشخصىّ الكامل بإرادته الخالصة التى لا تتقاطع مع غيرها بالتنازُع أو التعارض، والمُشتَرَك الخارج من ولاية صاحبه لعُهدةِ النِّظام العام، ليتكفَّلَ بضبطه ومُراقبته وضمان انتظامه لفائدة الجميع. وهُنا فالصلاةُ مثلاً تخصُّ صاحبها بمفرده لو أتاها فى بيته أو مسجده القريب، أمَّا لو أرادها فى حِجر الكعبة أو روضة النبى فإنها تصيرُ شأنًا عموميًّا؛ لناحية تقاطُع المال الخاص مع الماليّة العامة، وفجوة التكلفة التى تتكبَّدها الدولةُ لتدبير العُملة الأجنبية، وحاجات البشر الآخرين وطلبهم على المعروض النقدىِّ المُتاح لمسائل أُخرى، وسيّان أن يراها البعضُ أهمَّ أو أقلَّ أهميّة. ولا يكونُ التدخُّل هُنا من قَبيل تقييد الاعتقاد، بقدر ما هو مُوازنةٌ حصيفةٌ ومطلوبةٌ بين مصالح البلاد والعباد.
إنّنى بشكلٍ شخصىٍّ أغبطُ كلَّ حاجٍّ، وأتمنَّى لو وقفتُ مَوقِفَه، وأتعشَّم أن يمُدَّ الله فى العُمر والطاقة؛ حتى أقفَ بين يديه فى مشهد الحجِّ الأعظم. لكننى فى الوقت نفسه أضعُ دواء أُمِّى وأدويتى الشخصية لأعطاب القلب فى الميزان، وأنظرُ لمأكل الملايين ومَشربِهم، وحاجات المصانع والمتاجر، وطوابير العاملين فيها والمُنتفعين منها، وأُرتِّب الأولويات على هذا الوجه؛ فأقبلُ أن تتأخَّر حِجَّتى المُشتَهَاة ولا يجوعُ محتاجٌ أو يعجزُ عليلٌ عن التشافى.. إنها مسألةٌ عقليّة لا عاطفية، وتَمَوضُعٌ دقيقٌ بين الأهمِّ والمُهمّ، وإذا كانت الضرورات تُبيح المحظورات؛ جَريًا على القاعدة الأُصوليَّة الكاشفة عن سِعَة الدين وفِقهِه، فإنَّ الضرورات نفسَها قد تمنعُ المُستَحَبَّ والمَندوبَ والواجبَ ذاتَه فى كثيرٍ من الأحيان، ولا يكونُ فى ذلك تَهاونٌ ولا تقصير؛ إنما إجراءٌ عاقلٌ لمٌراد الله وحكمته، وأن يضطلعَ الدِّينُ بمهمَّته الأساسية كوسيلةٍ لإصلاح النفس والعالم، وأوَّلُ الصَلَاح ألَّا نُهدِرَ فى مسائل الرُّوح ما نحتاجه لضمان إبقاء الجسد؛ لا سيَّما والروحانيَّاتُ حاضرةٌ فى كلِّ ميقاتٍ ومكان، وقد يُحصِّلُ الناسُ بصفاء القلب وإخلاص النِّيَّة ما لا يتحصَّلُ بالسفر والمَشَقَّة والإنفاق المُفرط.
أُؤكَّد مُجدَّدًا أنَّنى لا أُصادرُ على راغبى الحجِّ والمُقتدرين عليه؛ لكنَّنى أدعو لوَضع الاستطاعة الشخصيَّة فى ميزان المَقدِرة العُموميَّة، وأن نسيرَ بالمسألة على أَوفَقِ السُّبل التى لا تمنعُ المشتاقين لزيارة كعبة الله، ولا تجورُ على العاجزين عن الحلم بالرحلة، ومَن لديهم أُولويَّاتٌ أعزّ وأغلى؛ إذ حِفظُ النَّفسِ فى مَرتبةٍ تاليةٍ لحِفظ الدِّين بين مقاصد الشريعة، وليس فى ترشيد الحجِّ ما يُهدِّد اعتقادَ الناس؛ إنما فى الجَوْرِ على الموارد الشحيحة، وبعثرتها فى وقتِ الأزمة والاحتياج، ما قد يمسُّ نُفوسَ الآخرين وسلامتَهم وانتظامَ معاشِهم. وليس فى الدعوة للضَّبط والتنظيم، وأن تتدخَّل سُلطة الإدارة بما يُرشِّدُ كثافةَ السفر والإنفاق، ما يفتئِتُ على حُرِّية الاعتقاد، أو يتجاوزُ صلاحيةَ وَلىِّ الأمر فى ضمان الكفاية والكفاءة، والمُوازنة الخلّاقة بين حقِّ الله وحُقوق البشر. لن نتضرَّر كثيرًا لو تراجع عددُ الحجَّاج بنسبة 20 أو 30 %، ليصير 40 ألفًا بدلاً من 60، ولا أنْ نهبطَ بعدد المُعتمرين من 400 ألفٍ إلى 300 فقط، وفى تلك النسبة الزهيدة وحدها وَفرٌ لا يقلُّ عن 350 مليون دولار تقريبًا، أى مليون و300 ألف طنِّ قمحٍ تقريبًا، تُكافئ طعامَ المصريين لشهرين أو أقلِّ قليلاً.
عددُ الحجيج فى الموسم الحالى نحو مليون و813 ألفًا، وقد ردَّت المملكةُ عشرات الآلاف لمُخالفة شُروط القدوم المُعلَنة. ولعلَّ طالبى الخدمة من أنحاء العالم يتجاوزون هذا الرقم، وأحسبُ أن قُدرةَ الاستيعاب بالأراضى المٌقدَّسة تتجاوزه أيضًا؛ إنما تُديرُ السُّلطاتُ موسِمَها وفقَ رُؤيةٍ اقتصادية تتّصل بالكفاءة والاستدامة، وحسابات الجَدوى طويلة المدى. والحال أنَّ الطلبَ يرفعُ الكُلفةَ بالضرورة، فضلاً على أعباء البعثات المُرافقة، ونفقات التشغيل وخدمة الأعداد الضخمة. والترشيدُ فى حالتنا لا يُقلِّص الهَدرَ الشخصىَّ للدولار فحسب؛ بل يُخفِّض أيضًا جانبًا من الأعباء المُباشرة على المُوازنة العامّة ومُخصَّصات الوزارات المُشتبكة مع ملفِّ الحجّ. ربّما تبدو المسألةُ حسّاسةً للبعض، وقد يُزايدُ بها آخرون على عادتهم فى توظيف العناوين الدينيّةِ لأغراضٍ سياسيّة وفئوية؛ لكنها تظلُّ فى اعتقادى من خيارات الضرورة واجبة النَّظَر والالتماس ببصيرةٍ واعية، وبانتصارٍ مُخلصٍ للعام على الخاص. كُلُّنا نتعشَّم فى الذهاب إلى الله فى أرضه الطاهرة، وهو معنا أينما كُنَّا. المُهمُّ ألَّا نذهبَ على وَهمِ الاستطاعة، بينما نُرهقُ ذواتنا والآخرين.. الحجُّ رِحلةٌ نورانيّة مُباركة فى كلِّ حال؛ لكنَّه يصيرُ أجملَ وأرقى لو أنَّنا أتيناه عن سِعَةٍ واقتدار، ولم نترك خلفَنا مَشقَّةً اقتصاديّة وماليّة يدفعُ ثمنَها آخرون، لهم علينا حقوقٌ، لو أَحْسَنّا استيعابَ الأمر الإلهىِّ؛ لعَرَفنا أنها مُقدَّمةٌ على غيرها، بالشَّرع والعُرف والفَهم القَويم.