استكملت الحكومةُ بنيانَها الإدارى، وتبدأ اليومَ رحلةَ استيفاء الصيغة الدستورية للتكوين والتكليف. وبحسب الضوابط المنصوص عليها؛ فإنَّ المهمَّة قد تستغرقُ 20 يومًا على مرحلتين، وحَدُّها الأقصى شهرٌ من تاريخ عَرض البيان وتسليم برنامج العمل لمجلس النواب. بعدها تصيرُ فى حماية البرلمان بقدر ما تخضعُ لرقابته؛ إذ الثقةُ تَعاقُدٌ مُتبادَل بين السلطتين، يُؤسِّس العلاقة على جناحين مُتوازنين: غطاء القبول من أغلبيَّةٍ نيابيّة، وإمكانيَّة المُساءلة اللاحقة عن المهام اليومية وإنجاز المُستهدفات المُتَّفَق عليها، وهى صيغةٌ تكامُليَّة بأكثر من كونها صراعيَّةً؛ فالغرض منها ضَبطُ الأداء ومُواكبته بالفحص والتقويم، وليس المُناكفة وتسجيل النقاط المجّانية. ثَمَّة مَسحة شِبه برلمانيَّة تُحيط مسألةَ ترتيب الدولاب التنفيذى عبر مُمثِّلى الشارع بالأصالة، والمُنتدبين عنهم لإدارط شؤونه بالوكالة، وتشبكهما معًا بدرجةٍ أو أُخرى.
يأتى النوَّابُ عبر الاقتراع العام المُباشر، وكذلك يُنتَخَب الرئيسُ، وقد سعى الدستور للمُوازنة بين المراكز القانونية المُتساوية. من الضرورى أن تكتسبَ الحكومةُ المُكلَّفة رئاسيًّا ثقةَ المُؤسَّسة التشريعية؛ إنما لا تتسلَّط على المسألة بانفراديَّةٍ مُطلقة دون ضابط. هكذا يتعيَّن أن يحوزَ التنفيذيون قَبولّ المُشرِّعين وتوقيعهم على قرار ولادتها؛ تعبيرًا عن توازناتِ المجلس الداخلية وتركيبة قُواه السياسية، وحال الإخفاق فإنه يعودُ للاحتكام إلى الشارع مُجدَّدًا. بمعنى أنَّ الحكومةَ تُترجِمُ فى مُرورها شكلاً من الأغلبيَّة النيابية، أمَّا تَعطُّلها فمعناه غياب ذلك الظهير، ووجوب الرجوع لبنائه من الأسفل.. أو بحسب النصِّ الدستورىّ؛ فإنَّ المجلسَ يُعَدُّ مَحلولاً حال افتقاد الهيئة الوزارية المعروضة عليه للثقة، وهى مسألةٌ تنظيمية من غير المُنتظَر إنفاذُها فى الحالة الماثلة، بالنظر إلى توافُر الحاضنة النيابية المطلوبة بالفعل، بعدما استحسنت الأحزابُ الكُبرى تحت القُبَّة تركيبةَ التشكيل، وهنَّأت أعضاءه، وأعلنت ترحيبَها به ودعمَها الكامل لرُؤيته المُعلَنة، إن فى خطاب التكليف، أو فى حديث رئيس الوزراء المُكلَّف ومُؤتمره الصحفى قبل أيَّام.
يُنظِّم الدستورُ مسارَ العَرض على السلطة التشريعية وحيازة ثقتها. يبدأُ الأمرُ بمُهلةٍ من عشرين يومًا بعد أداء اليمين، تَمثُل فيها الحكومةُ الجديدة أمام النوَّاب، ويعرضُ رئيسُها بيانَه ويُسلِّم نسخةً من برنامجه لرئيس المجلس. وتوقَّعتُ سابقًا أن تُنْجَز تلك الخطوةُ فى مدىً أقصر من الأسابيع الثلاثة، بالنظر إلى طول مُداولات التشكيل التى استغرقت شهرًا كاملاً، وشملت عشرات اللقاءات المُطوَّلة مع المرشحين، ومن المنطقىَّ أن مصطفى مدبولى وفريقه استغلّوا الفاصلَ الزمنىَّ وحصيلةَ النقاشات، وما تلقَّاه فى خطاب الرئيس؛ لجَمع وترتيب عناصر الرؤية الحكومية وبرنامجها التفصيلى للمرحلة المُقبلة، بينما كانت الأيَّامُ الخمسة بين اليمين والمُثول أمام البرلمان هامشًا لجَبر النقاط الخلافيّة، وتوحيد الرؤى، وتبييض المُسوّدات وإنجاز الصياغة النهائية. وعلى هذا المعنى يُمكن اختصار فترة التشكيل الفعلية للنصف تقريبًا، وكأنَّ الأُسبوعين الآخرين كانا ضمن المُهلة الدستورية لإعداد الخطَّة والتحضير لمُخاطبة نوَّاب الشعب.
التسلسلُ الزمنىُّ التالى يُحسَب بدءًا من جلسة اليوم، وأوَّله أن يٌشكِّل مجلسُ النواب لجنةً برئاسة أحد الوكيلين، وعضويّة مُوسَّعة من كلِّ التيَّارات: المُوالاة والمُعارضة والمُستقلِّين، تتولَّى الدراسة التفصيلية لبيان الحكومة وبرنامجها فى غضون عشرةِ أيَّام، وإعداد تقريرٍ وافٍ للعَرض على الجلسة العامة تمهيدًا للمناقشة والتعقيب والتصويت على الثقة، وتجرى العملية خلال فترة مُماثلة لسابقتها، وبما لا يتجاوز بالإجمال شهرًا من تاريخ الاجتماع المُشترك بين السلطتين. فى المسار الطبيعى إمَّا تُنجزُ اللجنة ورقتَها فى الموعد ويكون لاستعراضها واعتماد توصياتها ما يقل عن ثلاثة أسابيع، أو تُوفِّر من مُهلتها يومًا أو أكثر تُضاف لأيَّام الجلسة العامة. وفى كلِّ الأحوال يجب ألَّا يتأخّر القرار النهائى عن السابع من أغسطس المُقبل؛ إنما قد يتقدَّم عنه كثيرًا أو قليلاً، بحسب هِمَّة النوَّاب وإيقاع العمل فى أروقة المجلس وقاعته الكُبرى.
تفرضُ الأولويَّاتُ نفسَها على الجميع، وبعضُ العناوين لها صِفةُ الاستعجال؛ لا سيِّما الأزمات المُتّصلة بالطاقة والأسعار، أو الحاجة لعلاج ملفَّات التضخُّم وميزان التجارة وضغوط الحساب الجارى من ناحية النقد الأجنبى. ويحقُّ للجميع أن ينتظروا من الحكومة تصوُّرًا عمليًّا لسَدّ الثغرات ومداواة الاختلالات وتبريد الجبهات الساخنة؛ إنما بطبيعة الحال ليس من دور البرنامج أن يكون وَقتيًّا صِرفًا، ولا أن ينغلق على القضايا المُلحَّة والمهام الظرفيَّة. إنه فى معناه الدقيق خطَّةٌ عُموميَّة لمرحلةٍ كاملة، قد تطولُ أو تقصُر، لكنَّ القائمين عليها يعملون بتدرُّجٍ بين الأهداف المرحليَّة وغيرها مُتوسِّطة وطويلة المدى. وإذا كانت القدرةُ على التصدِّى للتحدِّيات الراهنة وإنجاز العاجل منها معيارًا مُهمًّا فى تقييم كفاءة الحكومة ووزرائها الجُدد؛ فإنَّ النوَّاب لن تنصرفَ أذهانُهم قَطعًا إلى النظر تحت الأقدام فحسب؛ بل ربما يكون تركيزُهم أكبرَ على أمور المُستقبل، وما يخصُّ الإصلاحَ الهيكلىَّ، وإعادة ضَبط الاقتصاد الكُلِّ،ى وتحسينَ الأوضاع العامة بشكلٍ جادٍّ وحقيقىٍّ ومُستدَام.
الضغوطُ الآنيَّةُ معروفةٌ للجميع، ولعلَّ لدى الحكومةِ أجوبةً وافيةً عن تساؤلاتها القديمة والمُتجدِّدة.. فى مسألة الكهرباء مثلاً؛ أعلنت جدولاً زمنيًّا للتعامل مع الأزمة، وخصَّصت نحو 1.2 مليار دولار لتوفير الوقود اللازم للمحطَّات، وعلى صعيد الأسعار فإنها ستعملُ بالضرورة على محورى الإتاحة والرقابة، كما تعى أنَّ التضخُّمَ مدفوعٌ فى أغلبه من جانب العرض، وقد سمحت إجراءاتُ تحرير سعر الصرف وإبرام صفقاتٍ استثمارية كُبرى خلال الشهور الماضية بإنعاش المحفظة الدولارية، وسداد الالتزامات العاجلة فى خِدمة الدَّيْن وأقساطه المُستحقَّة، مع تغطية الاحتياجات الضرورية من الواردات السِّلَعيّة ومُدخلات الإنتاج، وستعرضُ للنوَّاب آثار ذلك ورُؤيتَها لمُواصلة العمل بالنهج ذاته. وما أقصدُه أنَّ العواجلَ على قسوتها لن تكونَ محلَّ خلافٍ واعتراضٍ وانتقادات؛ إنما الأسئلةُ الكُبرى تقع فيما وراء ذلك من مساراتٍ قد لا تبدو للعيان، أو تنصرفُ عنها اهتماماتُ العامَّة وغير المُختصِّين؛ لكنَّها تُمثِّل لُبَّ الفلسفة الإصلاحيَّة، وعمودَ الارتكاز لأىِّ مشروعٍ يتوخَّى تجاوزَ الاختناقات العابرة بغير رَجعة. هنا تتقدَّمُ مسائلُ المُوازنة والعَجز والنموِّ وجَذب الاستثمار والميزان التجارى، وغيرها من محكّاتِ التقييم العميق لجدِّيّة البرامج ونجاعة تقسيمها بين الاستراتيجية والتكتيك.
الحكومةُ الجديدة طرَحَتْ فى هيكلها ما يُنبئ بسياساتٍ مُغايرة لسابقاتها، أوَّلاً بتعيين نائبين لرئيس الوزراء لمحورى التنمية الصناعية والبشرية، ثمَّ استحداثِ مجموعاتٍ وزاريَّة نوعيَّة فى الملفَّين ومعهما السياحة والطاقة وريادة الأعمال. والإشارة هنا أننا بصدد آليَّةٍ أكثر كفاءةً وحيويَّة فى الاتِّصال الحكومى، والتنسيق الجاد واللحظى بشأن التشابكات والقضايا العابرة للوزارات، مع التفكير بشكلٍ قِطاعىٍّ لا بمنطق الجُزر المعزولة عن بعضها. ومع امتداح التقسيم، واستشعارنا المُسبَق لفاعليَّته؛ فالمُهمّ أنْ يُترجَمَ بوضوحٍ فى برنامج الحكومة المعروض على البرلمان أوَّلاً، والمُعَدّ للتطبيق ثانيًا، والمنطقُ الطبيعىُّ أنّه قد تطرأ تفاوتاتٌ فيما بينهما؛ إنْ فى الصياغة العامة أو المحاور الفرعية والخطوات الإجرائية والتوزيع الزمنى، كما أنَّ بعض الأهداف قد تكون مُعلَنةً بالتفصيل، وبعضها تحت التصريح الجزئى، أو يُستَشَفّ من ثنايا الخُطّة ويتحصَّل بالتجربة العملية، وبالتقييم والتقويم المُباشِرَين، أمَّا الأهمُّ فأنْ تتجذَّر الفكرةُ فى عقول الوزراء أنفسهم، وأن يستسيغوا العملَ معًا كفريقٍ واحد، يتكامَلُ ويتخادَم، دون استئثارٍ بالملفَّات والولاية عليها، أو نُزوعٍ للانفراد بوضع السياسة وتطبيقها، وحساسية النظر للشراكة باعتبارها قَطعًا للطُّرق أو نزاعًا على الاختصاصات.
الثقةُ البرلمانية أمرٌ شِبهُ مَفروغٍ منه تقريبًا، ليس لأنَّ النواب لن يُجرِّبوا المُغامرةَ بحَلِّ المجلس قبل سنةٍ تقريبًا من مَوعد الانتخابات الاعتياديَّة؛ بل لأنَّ ما ترشَّحَ عنهم من مواقفَ مُعلَنةٍ يُؤكِّد مُؤازرتَهم للحكومة الجديدة واصطفافَهم إلى جانبها. أحزابٌ مثل: مستقبل وطن والشعب الجمهورى وحماة الوطن والوفد وغيرها، فضلاً على تنسيقية شباب الأحزاب وعددٍ من المُستقلِّين، وجميعهم يشكلون بتقديرٍ تقريبى نحو 500 مقعدٍ تتجاوز 84 % من تركيبة مجلس النوَّاب، رحَّبوا كُلُّهم بالتشكيل الجديد، وأبدوا حالةً من الارتياح والتفاؤل بشأنه، وحتى المُعارضة وبعضُ المُستقلِّين قد لا يُبدون تحفُّظًا على الوزارة؛ وإن اختلفوا مع برنامجها فى نُقطةٍ أو أكثر، ما يعنى أنهم أقرب إلى التصويت لها بالثقة، من باب مَنح الفرصةِ للتجربة قبل تقييمها، وبأثرِ الظرف الراهن والحاجةِ لبناء مناخٍ توافُقىٍّ، يتلاقى على الأولويات ولا يتناكَفُ فيما يحتملُ الصبرَ أو الإرجاء؛ خاصّةً مع الطابع الثقيل للحظةِ الراهنة، وتطوُّرات الأوضاع على المحاور الاستراتيجية شديدة الحيويَّة شَرقًا وغربًا وفى الجنوب، وإيجابيَّة الحالة المُمتدَّة بين السلطة التنفيذية والمجال العام من خلال «الحوار الوطنى»، والترقُّب الحالى لتفعيل لجنتِهما المُشترَكة لإنفاذ مُخرجات المرحلة الأُولى، بجانب الاستعداد لدخول جولةٍ حوارية جديدة، يتقاسمُها الاقتصادُ مع عناوين السياسة الخارجية والأمن القومىّ.
ما فاتَ يخصُّ الشكلَ: حكومة جديدة، برؤيةٍ مُحدَّثة وتكليفات أُعيد تكييفُها وفقَ الاستجابات المطلوبة واقعيًّا، وبرلمان يقبلُ أو يرفض، والعمليةُ برُمَّتها التزامٌ بنصوصِ الدستور وتراتُبيَّة السلطات تحت مظلَّته.. أمَّا لجِهة المضمون؛ فإنَّ للثقةِ معنىً مُركَّبًا وأشدّ عُمقًا من العرض هنا والتصويت هناك. جوهرُ المُمارسة أقربُ إلى الحالة التبادلية؛ إذ الموثوقيَّة تتدفَّقُ فى الاتجاهين، من النواب للوزراء والعكس، فكأنَّ المُشرِّع إذ يُصوِّت للتنفيذىِّ، يُجدِّدُ الثقةَ لنفسِه بالتبعية، على معنى أنه ما زال على الموجة الشعبيَّة التى أفرزت الرئيس، وأنتجت الحكومةَ المَطروحة عليهم من خلاله. فضلاً على أنَّ الرسالةَ الضِّمنيّة من التصويت أنّه استقبالٌ حَسِنٌ من دون مواقف مُسبَقة أو نوايا مُضمَرة، شريطةَ أن تنضبطَ المواقفُ بإعلاء المصلحة العامة، والاحتكام إلى المنطق والإمكانات الحقيقية، وتجنُّبِ الدعايات العاطفيَّة والتزيُّد بمساراتٍ خياليّةٍ أو لا يحتملُها الواقع القائم.. وبهذا فإنَّ المُنتدَبين من الشعب يُؤازرون مُعاونى الرئيس ويُراقبونهم فى الآنِ نفسِه، وكمالُ الثقةِ فى أن تُواكبها الرقابة على معنى الفحص والمُعاونة فى استكشاف الثغرات وسَدِّها، وهكذا يطمئنُّ الدولاب الإدارى بأنه تحتَ مظلَّةٍ تُحصِّن أداءَه بقدر ما تعرضُه على المُساءلة والحساب، وتُطمئنُ الهيئةَ التشريعية إلى أنها شريكٌ عضوىٌّ مُباشر فى منظومة الحُكم؛ إذ بمقدور من يمنحُ الثقةَ أن يسحبَها، أو يعدِّل شروطَها بحسب الظروف والمُتغيِّرات.
أبدى الوزراءُ الجُدد فى ساعاتِهم الأُولى جدِّيَّةً وكَسرًا للرتابة المُعتادة. عشراتُ الاجتماعات والجولات، ورسائلُ شديدة الإيجابية، وترتيبٌ لرفوف الدولاب على غير ما جرت العادة، كما حدث فى وزارتى التموين والبترول بشأن إنهاء تمديد الخدمة، وتوجيه الشُّكر لمن بلغوا سِنَّ التقاعُد.. قد تبدو الخطوةُ بسيطةً؛ إنما تُعبِّر عن رغبةٍ حقيقية فى تجديد الدم، وعن إغلاقٍ لكلِّ الأبواب التى طالما هبَّت منها رياحُ الارتباك وسُوء الإدارة. البقاءُ الطويل مثلما يُعزِّز الكفاءةَ ويُراكِمُ الخبرات؛ فإنه يتسبَّبُ أحيانًا فى تكلُّسِ الرُّؤى والأفكار، وفى توحُّش البيروقراطية وثِقَل جُثّتها، وبناء شبكاتٍ من المُنتفعين وذَوى المصالح؛ بما يُعطِّل الحركةَ أو يحرِفُها عن مدارِها الصحيح. وإلى ذلك؛ فإنَّ ما سيحمله البرنامجُ الحكومىُّ اليومَ أمام البرلمان، وانعكاسَه التلخيصىَّ فى لُغةِ البيان الذى يُلقيه رئيس الوزراء، بما وراء كتابته من فلسفةٍ وما فيه من مُكاشفةٍ وتسبيبٍ منطقىٍّ واستشرافٍ واعٍ، ستُكملُ حالةَ التفاؤل بالحيويَّة البادية من وجوه الهيئة الجديدة وخطاباتهم، أو تقودُ النوَّابَ فى مُناقشاتهم إلى أن يلفتوا أنظارَهم لاحتياج بعض النقاط للمُراجعة والضبط والتصويب.
المحكُّ فى كُلِّيات الرؤيةِ لا تفاصيلها القابلة للإحلال والتبديل، والمُتحرِّكة بطبعِها وفقَ الظروف والأحوال. واجبُ النوَّاب أن يستوثقوا من إقدامِ الحكومة عليهم جسدًا واحدًا، بعقلٍ مُشتركٍ وأطرافٍ مُتجانسة، مع الوعى بعُمق التحدِّيات واستفحال بعض المُشكلات، والحاجة إلى فسحةٍ زمنيَّة واصطبارٍ على خطط العمل وجهود الحلحلة. جرى التداولُ مُسبَقًا فى مسألة الدَّيْن العام مثلاً، وأن يُوضَع له سقفٌ بنسبةٍ مئويّة إلى الناتج الإجمالى، ومع أهمية ذلك فإنَّ التفاصيل مثلاً تستدعى النظرَ فى مُكوّناته المحليَّة والدولارية، وفى مداه الزمنى، ومُراجعة مسألة التنسيب إلى الناتج كأولويةٍ فى التقييم الفنى، خاصةً مع فروقات التقدير المُتوقَّعة للناتج وتغيُّرات سوق الصرف، إذ الأولويةُ أن يُحتَكَمَ لمعيار الموارد المُتاحة والقدرة على خدمة الدَّيْن دون تجاوزٍ على الالتزامات الأساسية، بجانب العمل على هيكلته وإحلال التمويلات القصيرة بأخرى مُتوسِّطة وطويلة الأجل. وبالمِثل فى الصناعة؛ فالجميع مُتّفقون على إلحاح الملفّ واستعجاله؛ لكنَّ فارقًا كبيرًا فى المسارات بين الانطلاق من فلسفةٍ لإحلال الواردات، أو الانحياز إلى جانبِ مُضاعفة الصادرات وتشجيع القطاعات ذات المزايا النسبيَّة. هنا قد لا يكونُ البرنامج كاشفًا لكلِّ التفاصيل، كما لا تتوافرُ لبعض النواب معرفةٌ فنيَّة كافية للترجيح بين المُناسب والأنسب؛ إنما سيكون الضابط للمسألة عبر العمل الدؤوب والاتصال المُباشر بين المِرفَقين، والتيقُّن من أننا إزاء تصوُّرٍ مُتحرِّك بطبيعته، يُوضَع فى ورقةٍ واحدة لإتاحة الفرصة لفَهمه وتقدير كفاءته العُموميّة؛ وليس لتجميده فى الزمن أو مُصادرة ديناميكيته وحرمانه من إمكانية التطوُّر.
الإصلاحُ الاقتصادىُّ على رأس الأولويات، وكذلك إصلاح الإدارة. وإعادة النظر للمُؤشِّرات برؤية أعمق وأكثر فاعليَّة، مع التزام المُواكبة الشعبية بوَصفها الحاضنةَ اليومية الدائمة للحكومة، والجهةَ المَعنيَّة مُباشرةً بجهودها. ويتحصَّل ذلك عبر البرلمان بالدستور، وعبر الحوار الوطنى بالرمزيّة المعنويَّة والسياسيَّة، ومن خلال وزارة الشؤون القانونية بما أُضيف لها من مهمَّة التواصل السياسى، وعَمودُها مُخاطبة الشارع بقَدرِ الوصول إلى النُّخبة والمُؤسَّسات. وكانت القناةُ بين السلطة التنفيذية والمجال العام بمعناه الواسع محلَّ ملاحظاتٍ فى السابق، وتحدَّث عنها الرئيس السيسى نفسُه أكثرَ من مرَّة، وطالبَ الحكومةَ ووزراءها بالنزول إلى الناس وشَرح الأوضاع وخطط التعامل معها ببساطةٍ ووُضوح.. البرنامج تأسيس عملىٍّ لحركة الحكومة، والبيان جسرٌ مع المُشرِّعين ومن يُمثّلونهم؛ وهنا تبدأ المهمَّة ولا تنتهى، والجميع شركاء فيها بالدرجة نفسها، النواب قبل الوزراء، والمواطنون قبلهم جميعًا.