سارت الأمورُ على الجبهة اللبنانية لشهورٍ فيما يُشبه حربَ الأعصاب؛ لكنها منذ اغتيال أرفع القيادات العسكرية لحزب الله فى ضاحية بيروت الجنوبية، تحوَّلت حربًا كاملةَ الأوصاف. ومن الغريب أن يظلَّ الخطابُ ميَّالاً إلى اللُغة القديمة، وأحاديث ضَبط الصراع واجتناب تصعيده لمواجهةٍ شاملة. فالحال أنَّ ما يحدث لا يغيبُ عنه شرطٌ واحدٌ من شروط الصدام الواسع، وقد تجاوز السقوفَ وقواعدَ الاشتباك المُقرَّرة منذ 2006. نتنياهو يُحضِّرُ لإسقاط صيده الثمين بتدرُّجٍ واضح، وحسن نصر الله محكومٌ بإملاءات المحور ومصالحه؛ فلا يملكُ تطويرَ الهجوم ولا العودة من طريق النار. وعليه؛ يمضى القطارُ للمحطَّة التى يعرفُها الجميع، ويهابُونها، ولا يبذلون أىَّ جهدٍ صادق للتوقُّف قبلها أو الانحراف عنها. فكأنها رغبةٌ مُشتركة فى الوصول لنقطة الانفجار.
عندما قصَّ الحزبُ شريطَ الاشتباك مع الاحتلال فى اليوم الثانى لطوفان الأقصى، منحَ عمليَّتَه صِفَة «الإسناد والمُشاغلة» لصالح غزّة. هكذا عُقِدَ رِباطٌ وثيقٌ بين الجهتين بدلاً من شعار «وحدة الساحات» لدى المُمانعة. ما يعنى أنه كان نائبًا عن الشيعيّة المُسلَّحة فى التهرُّب من الالتزامات الأيديولوجية تجاه حماس، وفى غَسْل السُّمعة وإبقاء خطاب العاطفة مُتأجِّجًا وصالحًا للاستثمار. لهذا لا يُمكن افتراض أنّه قادرٌ على النكوص اليومَ لسبَبَيْن مُهمَّين: الأوَّل أنّه ذراعٌ مُلزَمةٌ بتنفيذ ما قرَّره الرأس، وليس له من أمرِه شىء، والثانى أنه لا سبيلَ لتمرير خسائره الفادحة دون وَقف العدوان جنوبًا؛ ليَجِد ما يُسوّقه لحاضنته عن أثر دخوله فى الصراع، وما حقَّقه لصالح المنكوبين وقضيَّتهم العادلة. أمَّا الثغرةُ التى تمنعُ إنجازَ الخطَّة بشَكلِها الماثل فى أذهان الأمين العام ومُشَغِّليه؛ أنَّ لدى العدوِّ تصوُّرًا مُغايرًا عن الجولة وحالِها ومآلها، صحيحٌ أنها تفجَّرت داخلَ البيت؛ لكنّه لم يعُد يَنظرُ للحَسم فيها إلَّا خارج فلسطين، ويعُدُّها فُرصةً ذهبية لتصفية الحسابات العالقة مع الغريم الأساسى، أو على الأقلِّ إرساء توازناتٍ جديدة غير ما كانت عليه المنطقة فى العقدين الأخيرين.
رغم الدعم الكاسح على مدى أحد عشر شهرًا؛ فإنَّ نزوات الحكومة الصهيونية يبدو أنها تصطدمُ بمواقفَ أمريكيَّةٍ مُتحَفِّظة نوعًا ما. تخشى واشنطن من مُجاراة نتنياهو لتجد نفسَها فى معركةٍ إقليمية على أبواب موسم الانتخابات، والأخير يستوعبُ ذلك ويعملُ دائمًا للالتفاف عليه. هكذا جرى توظيفُ صاروخ قرية «مجدل شمس» الدرزية فى تمرير اغتيال فؤاد شكر، ثمَّ توظيف الردِّ عليه أواخر أغسطس فى تنفيذ أوسعِ اختراقٍ أمنىٍّ هجومى ضد الحزب، وينتَظِرُ على رأس الميدان لتوجيه أىِّ تعقيبٍ مُحتَمَلٍ فى مسار التصعيد وإدارة الانتقال المُتدرِّج نحو الصدام. فكأنَّه إذ يرى الطريق مقطوعةً بمُراجعات بايدن، يلجأ للقفز المُتتابع فوق العراقيل، بينما لا يُطوِّرُ البيتُ الأبيض أدواته لحصار دائرة النار، ولا يستوعبُ المُمانعون أنهم ينزلقون ببطءٍ وانتظام فى فَخٍّ حفروه لأنفسهم، أو حفره لهم اليمينُ الصهيونىُّ على مدى الشهور الماضية.
كانت عمليَّةُ تفجير «البيجر» ووحدات الاتِّصال اللاسلكية يومى الثلاثاء والأربعاء الماضيين تحوُّلاً نوعيًّا فى مسار لعبة الذرائع، ومُطاردات «القطّ والفأر» بين ميليشيا الدولة ودولة الميليشيا. والحادثُ على ضخامته وآثاره الماديّة والمعنوية، يُفجِّر تساؤلاتٍ أعلى صوتًا من انفجارات الأجهزة، وأكثر إيلامًا فى الوجع والنزيف من إصابات الضحايا وجروحهم. ليس من ناحية هشاشة البيئة الحزبية وانكشافها فحسب، بقدر ما هو من جانب النوايا الإسرائيلية وما تقصَّدته من الهجوم، أو تُرتّبه للمرحلة التالية بعدما عبَّرت عن هيمنتها بأقوى الصور، وفرَّطت فى واحدةٍ من أهمِّ أوراقها المَخفيَّة. وهى التضحية التى تُقلِقُ من المُقبل أضعاف ما كان فى المُنقضى، وتُثير الشكوك بشأن الخطابات المُعلَنة والمُضمَرة طيلةَ الفترة الماضية. إنَّ الأُصولَ الثمينة لا تُحرَقُ هباءً ولا لاستعراضاتٍ عابرة؛ إنما تُمهِّدُ لِمَا هو أكبر، أو تفتحُ البابَ للكشف عن حلقاتٍ أكثر دراميَّةً وخشونة؛ ما يعنى أنَّ صدمةَ لبنان أواخر الأسبوع، قد تكونُ البدايةَ لصدماتٍ تفوقُها فى الحجم والمرارة.
تاريخُ تلّ أبيب مع العنف التِّقَنى معروفٌ ولم تنطَفِئ ذكراه. سبقَ أن وصلت لمُمثِّل مُنظَّمة التحرير الفلسطينية فى باريس، محمود حمشارى، بهاتفٍ أرضىٍّ مُفخَّخ، ولمُهندس المُتفجِّرات الحماسيَّة يحيى عياش بهاتف محمول أوصلته إليه عبر عميلٍ لصيق، وبينهما مئات العمليات وثيقةُ الصِّلَة أو التى لم تُكشَف تفاصيلُها الكاملة. وقد خسر حزبُ الله عشراتٍ من قياداته منذ إذكاء حرب الإسناد، دون معرفة كيف رصدَتْهم عينُ العدوِّ وتوصَّلَتْ يدُه إليهم، وما بعد المَوقعة الأخيرة خطيرٌ لناحية اللعب على وتر الثِّقة والمأمونيَّة، وإثارة الغُبار بشأن سلامة جبهة المُمانعة فى داخلها، وحدود الاختراق وانتشار العملاء، ومدى المعرفة الذى يتوافر للصهاينة من طُول إقامتهم بالبيت. كما أنَّ كلامًا كثيرًا أُخِذَ باستخفافٍ فى السابق، ولا بديلَ عن وَضعِه على الطاولة الآن؛ لعلَّ أهمَّه ما تردَّد فى الإعلام العِبرىِّ مَنسوبًا لمسؤولين أَمنيِّين، بشأن رَصد الأمين العام للحزب، وقدرة الوصول إليه فى أىِّ وقتٍ وكلِّ مكان.
قُتِلَ فؤاد شكر فى أشدِّ معاقل الحزب تحصينًا، وخَلَفَه على الأرجح قائدُ قوات النخبة «وحدة الرضوان» إبراهيم عقيل. الأخير كان واحدًا من أهداف موقعة البيجر، وأُصِيبَ بالفعل، وبعد خروجه من المَشفى أرداه قصفٌ صاروخىٌّ من مُقاتلة F15 ومعه نحو اثنى عشر آخرين، بينهم محمد رضا جنرال «فيلق القدس»، على ما تردَّد فى تقارير ومقالات لكُتَّاب لبنانيِّين قريبين من محور المُمانعة. وإذا افترضنا أنَّ إصابته فى المرَّة الأولى كانت عشوائيَّةً، وضمن قائمة طويلة وغير مُحدَّدة بدقّة؛ فإنه فى الثانية كان هدفًا مقصودًا لذاته، وأُرِيْدَ من تَتَالى العمليتين القول إنَّ الجميع تحت بَصر إسرائيل، وإنها لو اتَّخذت قرارًا بتحييد أحدهم؛ فلن يمنعها خطأ الحسابات أو مُصادفات النجاة. وهكذا يُفهَم ضِمنيًّا أنَّ الباقين على قَيد الحياة، من الصفِّ الأوَّل على الأقل، مَتروكون من جانب العدوِّ قصدًا؛ لأنه لم تَحِن لديه لحظةُ القرار بشأنهم، ولا إرادةُ تطويح بيادقهم عن رُقعة الشطرنج، واتِّخاذهم وقودًا لتصعيد أكبر.
لنَكُن مَوضوعيِّين. كانت «هجمةُ البيجر» مُتقنةً وإبداعية؛ صحيحٌ أنه إبداعُ فى الشرِّ والإجرام، لكن هذا لا يُغيِّر من الصِّفَة الاستثنائية للعملية من أوَّلها لآخرها. لم يكشِفْ الحزبُ حتى الآن عَمَّا فى حوزته من معلومات؛ ولن يفعل قطعًا، كما ليس مأمولاً أن يُفصِحَ المُوساد عن تفاصيل كاشفةٍ لتقنياته فى ألاعيب الظلِّ؛ لكنَّ المُتاح حتى الآن يُنبئ عن مُمارسةٍ استخباريّة مُعقَّدة فى الجغرافيا والزمن. لقد وقع الاختيارُ على شركةٍ آسيويَّة، لا أمريكية ولا أوروبية، ثم فُتِحَتْ قناةُ التضليل من ناحية أوروبا الشرقية، وجَرَت هندسةُ خريطة العلاقات والمُعاملات بحيث يصعُب تَتَبُّعها، ويسهُل اختراقُها فى أكثر من خاصرةٍ هَشّة. ولأجل الإتقان يبدو أنَّ العلاقةَ سارت طبيعيًّا فى بدايتها، وجرى تزويد الهدف المقصود بأجهزةٍ سليمة، ومُغرية فى المزايا والتسعير، قبل أن يحين موعدُ تمرير الشّحنة المُرادة؛ مع ضمان ذهابها للوِجهة المُحدَّدة. كأنَّ نكهةً هُوليوديَّة تطبَعُ الحكايةَ بطابعٍ لا يغيب عنه الخيال والمُصادفة؛ لكنْ إذا أرَدْنا ألَّا نستسهلَ التفسيرَ بالأمانىِّ، ولا أن نستهلك دعايات الشيعيَّة المُسلَّحة عن نفسها، وعن خِفَّة الكيان الصهيونىِّ ورخاوته؛ فالواقع أنه أدار وعىَ مُنافسيه وخياراتهم، قبل أن يُديرَ عَمليَّته المُوجَّهة ضِدَّهم، أو تنطلى عليهم الخُدعة التى أعدَّها واثقًا فى نفسه، ومُتيَقِّنًا من اتِّساع شقوق الجبهة المُضادَّة بما يسمحُ لها بالمرور الآمن.
لجأ «الموساد» على الأرجح لطبقاتٍ مُتعدِّدة من السواتر. الشركة التايوانية منحَتْ وكالتَها لأُخرى مَجرِيَّة تأسَّست قبل سنتين، وفى السلسلة أيضًا شركةٌ نرويجية يملكُها بلغارى. وبأثر العقوبات على الحزب وانكشاف أذرُعه، فضلاً على أن مركز ثقله فى أمريكا اللاتينية لا شرق أوروبا؛ فالغالب أنَّ الصفقة عُقِدَت من طرف إيران، وهكذا تحضرُ فى القائمة خمسُ دُوَلٍ مُباشرة، ناهيك عن الجزء الغاطس من جبل الثلج. يُتيح ذلك لجانب المُمانعة شعورًا مُضاعَفًا بالأمان؛ إذ مع تعَدُّد الحلقات يصعُب التتبُّع والاختراق. المُفارقة أنه كان واقعًا من أوَّل السلسلة أصلاً، بمعنى أن إسرائيل ربما صنَّعَتْ أجهزة البيجر، ومن ثمَّ فلا حاجةَ لها للإشراف على رحلتِها أو إرهاق نفسها فى تحديد نقطة التقاطُع مع الشحنة. وإلى ذلك؛ صارَ من الصعب قَطعُ الرحلة العكسية لفَحص المسألة وتحديد المسؤولين، وفى أيَّة محطَّة مَكانيّة أو زمنيَّة، ما يعنى أنَّ التحقيقات مهما طالت أو تشابكت خيوطُها؛ فلن تُفضى غالبًا لشىءٍ يُمكن الاستنادُ إليه فى فَهم تكتيكات الاستخبارات الإسرائيلية وطريقة عملِها؛ ولا حتى استيعاب العمليَّة وضَمان ألَّا تتكرَّر مُستقبلاً، أو ألَّا تكون قد تكرَّرت سابقًا بالفعل.
لم تُعِدّ إسرائيلُ كلَّ هذه العملية لتُوجِّه رسالةً ساخنة فى مناخٍ مُشتَعلٍ؛ بل لم تذهَبْ إليها أصلاً لأجل «طوفان الأقصى» أو بدَفعٍ منه. لقد بُنِيَتْ الحكايةُ على جبهة الشمال قبل أن يتفجَّر الجنوبُ تحت أقدامهم، وبعيدًا تمامًا من مُغامرة السنوار، أكانت بقرارٍ فردىٍّ أم بتنسيقٍ مع الحزب والمحور. ربما كان الغرضُ أن تكونَ ورقةً مُرجَأةً لأيّة مُواجهةٍ مُقبلة فى لبنان، ما يفتحُ البابَ للتساؤل عن سِرِّ المُبادرة بها اليوم، وقد قِيْلَ فى الإعلام الصهيونىِّ ما يُشير إليها كخطوةٍ افتتاحيَّةٍ لحربٍ شاملة. وإذا تحرَّكتْ الخطوةُ ولم تندلع الحرب؛ فالمعنى أنها حركةٌ تمهيديَّةٌ لشىءٍ آخر، وتُخفى خلفَها أضعافَ ما أظهرته فى جحيمِها الواسع. والقَصْدُ هُنا لا ينحصرُ فى إرباك الأمين العام، ولا تعطيل أنظمة القيادة والسيطرة، والضغط المَعنوىِّ المُزعج على القواعد لدرجة الشَّكِّ فى أنفسهم وكلِّ تجهيزاتهم؛ إنما الإزعاجُ يمتدُّ لمسائل أكبرَ وأشدَّ خطرًا.
ربما يُفهَم الآن كيف توصَّلتْ لكثيرين من القادةِ وقَتَلَتْهم. فالأجهزةُ التى دخلت ملغومةً دون اكتشافها، وبقيت بمُتفجِّراتها فى أيدى العناصر وقادتهم لعِدَّة أشهر، ربما شملت عمليَّةُ تعديلها إضافةَ مُكوِّناتٍ تسمح بالمُراقبة وتحديد المواقع والتنصُّت على الرسائل، وهى لا تحتاجُ سوى لشريحةٍ أصغر وأخفّ وَزنًا من المادّة المُتفجِّرة. ومن غيرها؛ فإن هذا يُستكمَلُ بالضرورة بعَملٍ بشرىٍّ مُباشر، يُمكِّن استخبارات الاحتلال من معرفة موجات الأجهزة وشيفراتها، وحيثيَّة القادرين على توفير هذه المعلومات ربما تسمحُ لهم بتمرير اللوجستيات المعطوبة، أكان البيجر أم غيره، وفى لبنان أم خارجه. سيظلُّ الحزبُ راسخًا فى الأيديولوجيا، ومُلتزِمًا تجاه المحور؛ لكنه دخل حزامَ الارتياب فى نفسه والآخرين، وفى كلِّ المهمَّات الحاضرة بين يديه، والبدائل المُقترَحة عنها.
كان «نصر الله» قد حذَّر رجالَه خلال فبراير الماضى من الهواتف المحمولة؛ باعتبارها جاسوسًا يفتحُ عيونَ العدوِّ على دواخل الحزب. وبالدرجة نفسها؛ انسحب الحُكم على الهواتف الأرضية، وأجهزة الاتصال اللاسلكية، وشبكات الواى فاى والأنظمة الرقمية. والظاهرُ أنّه دُفِعَ بأناةٍ وإصرار من جانب إسرائيل باتِّجاه اللجوء إلى «البيجر»، فى سياق الخطَّة المُعَدَّة سَلفًا لتحقيق الاختراق الذى عاش لبنان نتائجَه مُؤخَّرًا؛ وبالكيفية ذاتِها يُمكن النظرُ لقرار التفجير باعتباره محاولةً لدَفعه نحو بديل آخر، وعليه أنْ يستنهضَ كلَّ قُدراته الأمنيَّة لضمان سلامته، وهذا التركيزُ المُشدَّد، بقَدرِ ما يُعطِّل رحلةَ الترميم واستعادة الصلابة؛ فإنه قد يصرفُ بصرَه عن مناورةٍ جديدةٍ من زاويةٍ مُغايرة.
القول إنَّ نتنياهو اتَّخذ قرار التنفيذ المُعَجَّل خوفًا من كَشف الحيلة قد لا يكون منطقيًّا؛ لأنه القنابل الاتِّصاليّة فى أيدى الحزب منذ شهور ولم تُكتَشَف، كما لم تقع حوادثُ أو تُثار شبهاتٌ بشأنها. وليس منطقيًّا أيضًا أن تُضحِّى إسرائيل بغزوة البيجر بمَنافعها المعلوماتيَّة دون امتلاك وسيلةٍ تعويضيّة. وبينما نجحت سابقًا فى تمرير فيروس قاتل لقلب مُنشأة نطنز النووية فى إيران؛ فالاحتمال قائمٌ مع لعبة اختراق سلاسل التوريد أنها دَسَّت على المحور رقائقَ وتجهيزاتٍ تدخلُ فى الصناعات العسكرية والمَدنيَّة، ما يعنى احتمال أنَّ الأسلحة والصواريخ والمُسيَّرات والرادارات وأجهزة الرؤية الليلية والحواسب وشاشات العرض والأجهزة المنزلية وغيرها تقعُ فى مرمى الاتهام. يتكفَّلُ ذلك برَفع منسوب الهلع، وبإرباك أفكار الحزب وحركته؛ حتى لو كان خاطئًا. أمَّا حالَ صوابِه فإنه يُهدِّد بما هو أفدح من موقعة البيجر؛ على فداحتها الظاهرة.
لو صَحَّ تعديلُ أجهزة الاستدعاء بقِطَعٍ إضافيَّة تُحوِّلها إلى مَنصَّة بَثٍّ ونُقطة GPS نَشِطَة؛ فإنَّ إسرائيل تعوم اليومَ على بحرٍ من المعلومات عالية القيمة. أقلّه أنها تعرفُ الرؤوسَ الكبيرة فى الحزب، وقادة صفوفه الأُولى، وغُرفَ القيادة والمخازن ومنصَّات الإطلاق، والمُعسكرات والملاجئ الآمنة، وأنماطَ الحركة والعمل وإصدار وتلقِّى الأوامر والتكليفات. باختصارٍ؛ كانت تمرحُ لشهورٍ داخل بطن الجنوب وبين مصارينه، وفى سرير الأمين العام، ما يعنى أنهم ليسوا فى احتياجٍ للبحث عن وسيلة اتِّصالٍ آمنةٍ فحسب؛ بل لإعادة صياغة الهياكل التنظيمية والحركيَّة وآليات عَملِها، وتغيير جغرافيا الميدان ومُلحقاته العسكرية. أىْ أنَّ أطولَ أذرُع الشيعيَّة المُسلَّحة وأعلاها قيمة، عليه أن يتجاوز تُراثَ أربعةَ عقودٍ ويبحث عن ميلادٍ جديد. وبإمكانه طبعًا أن يُنكرَ ويدَّعى حصانةَ مرافقه؛ إنما سيظلُّ دائمًا فى اختبار المُفاجأة والدهشة مع كلِّ ورقةٍ يُخرجُها الحُواة الصهاينةُ من وراء ظهورهم، ومع كلِّ ذريعةٍ يُقدِّمونها لنتنياهو وعصابته؛ فيُجْهِزُ بها على نقطةٍ حيويَّةٍ أو خاصرةٍ من الخَواصر الهَشَّة. وبينما قال سماحةُ السيد قبل ثلاثة أسابيع إنَّ ضربة العدوِّ الاستباقيَّة للجنوب، جاءت مع استشعاره لحركة المُقاتلين فى بعض المناطق؛ فاليومَ ربما يختلفُ التفسيرُ كثيرًا، لتكونَ ناتجةً عن اطِّلاعٍ تفصيلىٍّ على الأمر الصادر للعناصر، وقائمة المواقع والإحداثيات، وربما حتى الأهداف المُنتخَبة للقصف.
تحلَّى «نصر الله» فى خطابه الأخير بقدرٍ من الواقعية؛ لكنه لم يُغادر حظيرةَ الشعبويَّة والعواطف المُتأجِّجة تمامًا. اعترف بأنَّ الضربةَ قاسيةٌ وغير مسبوقة؛ لكنه استمات فى ادِّعاء الصلابة والتقليل من آثارها. وتركَ سؤالَ الردِّ مُعَلَّقًا وغامضًا؛ مع تمسُّكه بالموقف المفروض عليه بمُواصلة الإسناد؛ طالما بقى الاتِّقاد فى غزَّة. حافظَ على هدوئه ليتكفَّلَ قائدُ الحرس الثورىِّ ومدير مكتب المُرشد بالتصعيد الخطابى، وتهديد إسرائيل بالانتقام ومُواجهة ردٍّ قاسٍ، مع استعادة فكرة الثأر لهنيّة بعد ستّة أسابيع من صمت القبور. وعلى حجم ما تلقَّاه من فاجعةٍ، زعمَ أنه جاهزٌ للاجتياح البرىِّ، واعتبره فُرصةً ثمينة لإحراق الأرض بالعدوِّ وحواليه. التزمَ الرجلُ كلمةً مكتوبةً لم يُغادرها إلَّا لِمامًا، وكان الخطابُ مُسجّلاً على الأرجح لاعتباراتٍ أمنيَّة، لكنه بدا مُرتبكًا ومُتعثِّرًا فى بلاغته، بينما يتصنَّعُ عكسَ ما يجرى على الأرض، وما عقَّبت به إسرائيلُ عليه بعد ساعاتٍ بقتل إبراهيم عقيل ورفاقه.
باختصار؛ التصعيدُ فى لبنان مسألةُ وقت، ويزيدُ من فداحته أنَّ أحدَ الطرفين لا يستوعبُ واقعَ الميدان، ولا يملكُ خياراتٍ بديلةً عن الاحتراق لأجل الآخرين، وهُنا لا أقصدُ الغزٍّيين بقدر ما ينصَرِفُ المعنى للشيعيَّة المُسلَّحة ورأسها. تحترقُ المنطقة لأجل مشروعٍ صفوىٍّ لا ينظرُ لغير مصالحه، وهذا ما يبدو أنه يُناسب نتنياهو ويُوافق رغباته؛ لذا فالجنونُ سيظلُّ حاكمًا، ولا أملَ فى الخروج بخسائر أقلّ ممَّا يُريده العدو، ويسعى إليه بعُنفٍ كامنٍ فى نفسه، وسذاجةٍ مُتسلِّطةٍ على الضحايا ومَنْ يَزجّون بهم فى النار.