لا يمكن تجاهل السياق الزمنى والحدود الجغرافية للهجات العربية فى زمن الوحى ونزول القرآن الكريم، القرآن نزل ليخاطب العالم أجمع، لكن اللغة كانت أقرب لما كانت عليه قريش، الزمن له أثره على اللغة، وجغرافيا الجزيرة العربية شهدت لهجات وقراءات مختلفة كان لها أثرها كذلك على النطق وعلى الفهم للآيات والأحكام، فلغة اليمن جنوبا، لم تكن كلغة الطائف، ولم يكن كلاهما كاللغة العربية فى شمال الجزيرة وفى الشام والكوفة، ثم إن كل المفردات فى هذا الزمن تبدلت حتما خلال القرون الثلاثة التالية لبعثة النبى محمد، صلوات الله وسلامه عليه، وهذ القرون شهدت نشأة العلوم الدينية كالفقه وأصول الدين وعلوم القرآن وغيرها، والمعنى هنا أن دلالات مفردات اللغة العربية لم تكن لها نفس المعانى فى العصور التى شهدت عمليات الاجتهاد والاستنباط وعلوم الفقه ونشأة ما نعرفه الآن تحت عنوان كبير اسمه «الشريعة الإسلامية».
السلف الصالح كانوا يبحثون عن دلالات ومعانى الكلمات القرآنية فى زمن الوحى، وبعض الكلمات القرآنية احتار فيها المفسرون، وحاولوا دائما البحث عن تفسيرات لها، سواء فى أحاديث النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، أو عبر ما تواتر عن تفسيرات الصحابة الكرام، اللغة تطورت ما بين زمن نزول القرآن، وزمن التفسيرات القرآنية، وكتابة النصوص التى تحولت إلى «شريعة» إسلامية متكاملة، وربما لاختلاف اللغة واختلاف جغرافيا انتشار الإسلام ظهر أكثر من فقه وأكثر من تشريع إسلامى، وخذ مثلا صغيرا فى قواعد الوضوء، والوضوء أحد أهم شروط صحة الصلاة، ستجد أن شكل الوضوء فى المدينة المنورة يختلف تماما عن شكله فى الكوفة، وعن طريقته فى اليمن، فالآية التى تحدد الرسغين والكعبين فى وصف الوضوء اختلفت تفسيراتها بشكل واسع وفق جغرافيا الإسلامية، ووفق أزمان تطور الفقه الإسلامى، فقد ظل أهل المدينة يواظبون على شكل للوضوء مختلف كثيرا عن شكل الوضوء فى الشام والعراق، لأن دلالات الرسغ والكعب اختلفت، حسب فهم اللغة، وحسب عادات أهل المدن آنذاك، وتتحدث بعض كتب التاريخ والفقه الإسلامى عن دهشة بعض علماء الكوفة من شكل الوضوء فى المدينة المنورة، ودهشة أهل المدينة مما كان عليه شكل الوضوء فى الشام.
حتى فى شكل وضع اليد على الصدر فى الصلاة، ورغم أن النبى محمد، صلوات الله عليه، قال بوضوح: «صلوا كما رأيتمونى أصلى»، إلا أن هذا الشكل تعرض للكثير من الاختلافات فى وضع اليد على يسار الصدر، أم فى وسط الصدر، أم على البطن، أم ترك اليدين منفرجتين، كما فى الفهم المالكى لشكل الصلاة.
أقدم لك هنا نموذجين من الفرائض، والوضوء، وشكل الصلاة، أثرت عليهما لغة كل مدينة، والبعد الجغرافى بين المدن، وإذا كان هذا الفهم للغة القرآن والحديث وآثار الصحابة قد انسحب على فرائض دينية فقد كان من المنطقى والطبيعى أن ينسحب كذلك على عمليات التشريع والأحكام التى تبدلت من بلد إلى آخر، وهو ما يعنى يقينا أننا حين نتحدث عن «الشريعة الإسلامية»، فإننا لا نكون أمام تصور واحد لعمليات التشريع، وشكل واحد للفهم والتطبيق لهذا التشريع.
نحن أمام شرائع إسلامية متعددة خضعت لكل عوامل التعرية الزمنية من ناحية اللغة، وكل عناصر الاختلاف الجغرافى فى الحدود مترامية الأطراف للأمة الإسلامية، بل ودخول لغات أخرى على الإسلام الفرس شرقا والروم غربا، ثم اختلاط الإسلام مع الفلسلفات الغربية، ثم مع الاجتهادات الدينية الخاصة «والسياسية الطارئة أحيانا»، لكل خليفة من خلفاء المسلمين أو قيادة من قيادات الأمصار.
المنطق واللغة والزمن والجغرافيا تؤكد أنه لا يوجد سياق واحد اسمه شريعة إسلامية واحدة، بل توجد حالات متعددة من الفهم والاجتهاد والفقه والتشريع، وإن آمنا بذلك فإن المعركة مع تجارة الشريعة الإسلامية اليوم تصبح سهلة إن كان الانحياز هو لهذا الفهم التاريخى، ولعلوم اللغة وتطوراتها، ودراسة الأحكام المختلفة، حسب المكان والزمان، ومن ثم أتصور أننا فى حاجة إلى دراسات جديدة فى علوم اللغة تربط بين تطور العربية، وأثر هذا التطور على فهم القرآن والسنة، ثم أثر كل ذلك على التشريع الإسلامى.
ثم نحن فى حاجة مرة أخرى إلى دراسة الاجتهادات «الدينية والسياسية»، لكثير من الزعماء السياسيين فى التاريخ الإسلامى بدءا من الخلفاء الراشدين، رضوان الله عليه، وحتى نهاية الدولة العثمانية، وقد تشكل دراسة على هذا النحو، متكاملة وبسيطة، أساسا فى كل ما نجاهد من أجله نحو خطاب دينى جديد، وقد تمثل أيضا أساسا يمنع تجار الدين من التأثير على عوام الناس بخدعة اسمها «تطبيق الشريعة الإسلامية»، فكل عدل هو الشريعة، وكل نظام يحقق مصالح الناس هو الشريعة الإسلامية، قد يسهل علينا قول ذلك، لكن يشق على البسطاء من الناس فهم هذه الغايات، ومن ثم يجب تأصيلها من الناحية الدينية واللغوية والسياسية والتاريخية.
والله أعلى وأعلم.
مصر من وراء القصد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة