لو كنت رئيسا لأى من الأحزاب المصرية، «يبلغ عددها أكثر من مائة حزب»، لدعوت على الفور لدراسة تجربة الأحزاب الاشتراكية فى أوروبا، «دعوت من قبل لدراسة أحزاب أخرى ولم يستجب أحد»، غير أن الاشتراكيين الأوروبيين تحديدا لديهم تراث فكرى مميز يختلف عن الاشتراكية الشرقية بتجاربها ونظرياتها وقواعدها التطبيقية المختلفة، اللينينية والستالينية والتروتسكية وغيرها، والاشتراكية الأوروبية تفوقت كذلك على تعديلات البلدان النامية للاشتراكية «على مقاس كل دولة»، كما كان يرى عبد الناصر أو فيدل كاسترو فى كوبا.
الاشتراكيون الأوروبيون لا يعارضون مفاهيم اقتصاد السوق على نحو أعمى يجعل الدولة المالك الوحيد لكل شىء، وأى شىء، والاشتراكيون الأوروبيون لا يتعاملون مع الاشتراكية كنص مقدس لا يقبل التأويل ولا يعترف بمتطلبات الواقع، لكنهم يعرفون أن مصالح الناس هى الأولوية الأولى وهى الغاية لكل فكر سياسى أو نظام حكم، ولذلك طورت الأحزاب الاشتراكية الأوروبية أفكارها ونظرياتها إلى الحد الذى حافظت فيه على النمو المؤسس على اقتصاد السوق كما تعرفه أوروبا، وعلى التطور الصناعى ومصالح الرأسمالية الوطنية، فى نفس الوقت الذى حافظوا فيه على مكتسبات العمال وحقوقهم المالية والإنسانية، وأجبروا الحكومات على تطوير منظومة رائعة للضمان الاجتماعى والتعليم المجانى والرعاية الصحية وطبقات ضريبية عادلة لا تأخذ من الفقراء والقوى العاملة وحدها وتترك الأغنياء يغرقون فى الثروات فوق كل طبقات الشعب.
الاشتراكية الأوروبية حافظت على قوام الطبقة الوسطى فى المجتمعات الأوروبية، وجعلت قيم الطبقة الوسطى هى القيم الأعلى والأغلى والأكثر سموًا فى المجتمع، ومن ثم فإن الانتماء للطبقة الوسطى يعنى فى ضمير كثير من المواطنين الأوروبيين، الاستقرار المالى والعائلى، جنبا إلى جنب مع الثقافة والتعليم المميز والفكر والوطنية والعطاء المجتمعى.
نجح الاشتراكيون الأوروبيون فيما فشل فيه أصحاب النظرية الاشتراكية فى صياغاتها الثورية، نجحوا لأنهم آمنوا بالجوانب التى تتعلق بالإنسان والإنسانية والعدالة الاجتماعية، وليس بالجوانب التى تتعلق بصراع الطبقات والحقد المجتمعى والثورة على الأنظمة ومطاردة الأفكار الأخرى وسجنها وتعليق أصحابها على المشانق.
أتمنى، إن كانت هناك قوى حزبية جادة فى مصر، أن تنظر إلى هذه التجارب المثمرة فى أوروبا، وبعض هذه الأحزاب تعانى من صراعات سياسية كبيرة، وتتعثر الآن فى وصولها لمقاعد الحكم، لكنها حريصة على تصدير نظرياتها لكل الحكومات، وتحقيق منجزات للناس بمراحل زمنية هادئة، وتتحالف بعض هذه الأحزاب مع الأحزاب الحاكمة فى مواجهة اليمين المتطرف الذى يبدو أنه فى أقوى لحظاته فى التاريخ الأوروبى المعاصر.
أتمنى من كل القوى الحزبية الجادة أن تمنح نفسها فرصة للتعلم، والاطلاع، فبعض التجارب يمكن استلهامها فى مصر تنظيميا وسياسيا وحركيا وتشريعيا.
- أوصيكم ونفسى بالحزب الاشتراكى الألمانى، والحزب حاصل على أكثر من 20 % من المقاعد فى الانتخابات الألمانية الأخيرة، وخاض مفاوضات مهمة وصعبة للشراكة مع حكومة ميركل.
- وأوصيكم ونفسى بحزب العمال البريطانى، وهو الحزب الثانى فى ترتيب القوة بعد المحافظين ولديه مقاعد تصل إلى 262 مقعداً داخل مجلس العموم.
- وأوصيكم ونفسى بالحزب الاشتراكى الديمقراطى فى النمسا ولديه أكثر من ربع مقاعد البرلمان النمساوى.
- وأوصيكم ونفسى بحركة الاشتراكية الهيلينة فى اليونان وهى حزب لديه 33 مقعدا داخل البرلمان.
• ملحوظة:
لم أكن يوما عضوا فى أى حركة يسارية، ولم أكن أؤمن بالاشتراكية، ولكننى أؤمن بأن تخصيب الأفكار جائز دائما طالما كانت مصلحة الوطن والناس فى المقام الأول.
دعونا نتعلم، ونفكر، ونطور من أنفسنا.
مصر من وراء القصد
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة