ما زلنا نعيش حالة إعلامية مرتبكة، وما زلت أعتقد أن جانبًا كبيرًا من هذا الارتباك يعود بالأساس لسنوات التكوين التى تشكلت فيها السياسات الإعلامية فى مصر، ثم لاحقًا لعوامل التغير، السياسية والثورية والفوضوية والاقتصادية التى بدلت هذه السياسات، وحيرت صانعيها إلى الحد الذى لم نعد نتلمس فيه بوضوح طريقًا صحيحًا نحو المستقبل.
الإعلام فى مصر يتشتت، فى تقديرى، بين عدد من السياسات غير المستقرة، فليس لدينا إعلام واحد، وليس لدينا نهج نستطيع أن نثق فى صوابه، لدينا شتات ينقسم على النحو التالى:
أولًا: إعلام الوعظ:
يظن بعض الإعلام والإعلاميين أن الدور الوطنى للإعلام يتركز فى وعظ الناس طوال الوقت، فتنتشر المنابر عبر الفضائيات، أو فى مقالات الصحف، يصعد الخطيب على المنبر، ويسهب فى الوعظ والنصائح، ويتعامل مع جمهور المستمعين باعتبارهم فى صلاة الجمعة أو عظة الأحد، ويظن الذين ينتهجون هذا المسار أنهم يحققون بنصائحهم قيمة الإعلام التنموى الذى يساند مسيرة التنمية فى البلاد، ويؤدى إلى رقى المجتمع، وينسى هؤلاء الوعاظ أن بعض المصلين ينامون خلال خطبة الجمعة، أو يتململون فى مقاعدهم خلال القداسات، وهم يستمعون إلى كلام الله، وليس إلى كلام مذيع أو كاتب صحفى أو سياسى يخطب فى الناس.
ثانيًا: إعلام التعبئة:
وأهداف إعلام التعبئة بريئة ومخلصة، لكن بعض هذا الإعلام أيضًا «تأخذه الجلالة وتطير به الحماسة» إلى الحد الذى يفقد فيه المصداقية أحيانًا من كثرة ما يستخدمه من كلمات التحفيز، ومصطلحات التخويف للمجتمع، ثم ينسى رموز الإعلام التعبوى كذلك أن مستمعيهم وقراءهم قد يملون من حالة الخوف المستمرة، أو تتراخى عزائمهم من قسوة شد الأعصاب المستمر، والسعى لوقوف المجتمع بالكامل على أطراف أصابعه فى مواجهة المجهول.
ثالثًا: إعلام التضليل:
وهذا النوع من التضليل لا يقتصر على ما يقدمه خصومنا السياسيون فى قنواتهم وصحفهم ومواقعهم الممولة من الخارج، لأن هذا التضليل السياسى الموجه مفضوح للعامة، لكن التضليل قد ينتقل إلى معسكرنا فى الداخل حين ينبرى أحد المتحمسين من رموز إعلام التعبئة، أو أحد الورعين من رموز إعلام الوعظ إلى محاولات الرد على التضليل الخارجى بتضليل آخر دون أن يقصد، كأن ينفى خبرًا يظن هو أنه يؤثر على معنويات الناس، بينما يكون الخبر صحيحًا، أو يعطى تبريرًا سياسيًّا عاجلًا لقضية لا يفهمها، ولم يسأل عن تفاصيلها، ثم تخرج الدولة بعد ذلك لتقول معلومات حقيقية تتنافى مع ما قاله هؤلاء الإعلاميون أصحاب النية الحسنة.. التضليل هنا مشترك، هناك من يضلل الناس عمدًا لأهداف سياسية من الخارج، وهناك من يضللون الناس فى الداخل، ظنًا منهم أنهم يحسنون صنعًا.
رابعًا: إعلام الفضائح:
هذا النوع الفضائحى فى الإعلام ليس جديدًا على مصر، وليس بدعة خاصة بنا، إذ ينتشر فى كل ربوع العالم، لكن المشكلة هنا فى بلادنا أن بعض الإعلاميين ظنوا أنهم يهربون من السياسة، ومن الاشتباكات، ومن الوعظ والتعبئة والتضليل إلى نوع خاص من الإعلام، يضمن لهم مشاهدات كبيرة أو قراءات متعددة على شبكات التواصل، دون أن يقع أى منهم فى فخ أى من صور الإعلام السابقة.. والحقيقة أن هذا النوع الفضائحى أدى إلى نتائج كارثية، سواء على الإعلاميين الذين مارسوه بأنفسهم، أو على صورة الإعلام المصرى بشكل عام، إذ إن هؤلاء الفضائحيين أضروا بالمشهد الإعلامى بالكامل، وجعلوا الإعلام سبيلًا للارتزاق الرخيص بإثارة الغرائز، أو نشر النميمة، أو تحدى قيم وأخلاق وعقائد المجتمع.
خامسًا: إعلام البوستات والتغريدات:
هذا الإعلام هو الأكثر خطرًا على الإطلاق، بوست عاجل أو تغريدة قصيرة كفيلة بأن تهز المجتمع بالكامل، وتنشر كل أجواء الإحباط أحيانًا، أو الخوف أحيانًا أخرى، أو تضرب سمعة رجل، أو سمعة مؤسسة بكل بساطة، ودون تفاصيل أو معلومات أو توثيق، أو حتى خضوع لمعايير القانون.. إعلام البوستات والتغريدات يجمع كل كوارث الإعلام الفضائحى والتضليلى والتعبوى فى قالب واحد، ثم يضيف إلى كل ذلك التسطيح الكلى والمنهجى للعقول والقلوب والضمائر والقيم.. «أنتم جميعًا أعلم منى بتأثير هذا النوع من الإعلام على مصر والمنطقة بالكامل»، والمشكلة هنا أن تأثيراته ساحقة، ومواجهته القانونية بطيئة.
ما العمل إذن؟
هل سمعت يومًا أن الإعلام هو المعرفة والترفيه معًا؟
هل سمعت يومًا أن الإعلام هو القدرة على النقد البنّاء بالاستماع إلى الرأى والرأى الآخر، بلا صدام أو شتائم أو وضاعة سلوكية؟
هل سمعت يومًا أن المعركة الأساسية للإعلام هى فى خلق ثقافة تقود الأمة للتحضر، وخلق وعى يقود الناس إلى اتخاذ القرار السليم فى الوقت المناسب؟
العمل فى تقديرى، هو أن نعود إلى مكاشفة النفس بأن القيم الأساسية للعمل الإعلامى تكسرت على صخرة كبيرة، ولم تستقم حتى اليوم، والعمل أيضًا هو أن نعيد البناء الكامل لهذه القيم، عبر سلسلة من الجهود الجادة فى أوساط المؤسسات الصحفية والإعلامية لترميم ما أفسدته عوامل التعرية السياسية والاقتصادية فى يناير، وما قبلها، وما بعدها.
هل تعلم أن بلدان العالم تشهد أكثر من 50 مؤتمرًا سنويًّا فى الصحافة والإعلام، من بينها ما لا يقل عن 10 مؤتمرات دولية لمناقشة الإعلام وحاضره ومستقبله، وحلوله المهنية والاقتصادية، بينما مصر ليس فيها مؤتمر واحد «يوحد ربنا» نناقش فيه أزماتنا وقضايانا ومستقبلنا.
نحن نحتاج إلى حوار
الإعلام يحتاج إلى أن يتأمل نفسه فى المرآة
ويرسم ملامح جديدة فى الطريق.
أتمنى أن تدعو أى من مؤسساتنا الإعلامية الوطنية لمؤتمر جاد فى الحالة الإعلامية المصرية، أو أتمنى أن يتركونى أدعو وأخطط بنفسى لهذا المؤتمر، وأضع الورقة الأساسية للحوار، دون أن ينال منى إعلام الوعظ، أو يتربص بى إعلام التعبئة، أو يطاردنى إعلام البوستات والفضائح.
نحن نحتاج لأن نتكلم سويًّا أولًا.
والله أعلى وأعلم
مصر من وراء القصد
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة